CET 00:00:00 - 29/03/2009

مساحة رأي

بقلم القس / سامي بشارة جيد
إن مجيء العرب إلى مصر نقطة فاصلة في تاريخها تماماً مثل مجيء الرسول مرقس إلى الإسكندرية حاملاً البشارة المسيحية، في حين ظهر الإسلام في منطقة كانت سهلة المنال من المسيحية فقط ثماني مئة ميل بين أورشاليم ومكة عبر طريق تجاري سافر فيه نبي الإسلام في شبابه، وفي وقت كان من المفترض أن تكون الجزيرة العربية قد كرز فيها بالمسيحية، لأن المسيحية كانت قد عبرت المحيطات الهادي والأطلنطي حتى وصلت الهند وغزت أكبر إمبراطورية في التاريخ القديم وأحدثت ثورة في الأدب والتعليم.

إن الكنيسة عندما تهمل إرساليتها الكرازية يحدث لها مثل هذا، والمراجع العربية تستخدم مصطلح فتح conquered كاستمرار لحركة الفتوحات الإسلامية وأيضاً لإظهار أن هناك إمتيازات إيجابية للدولة التي يتم فتحها وصبغ لغة الرقة والعدالة بدلاً من استخدام السيف والعنف، وأن الفتح كان حركة تحريرية للشعوب من سطوة محتليها كما في فتح وتحرير مصر من سطوة الإمبراطورية البيزنطية التي يكرهها المصريون بسبب الخلاف العقيدي حول طبيعة السيد المسيح ليس إلا، حيث اعتقدت الكنيسة المصرية في طبيعتين إلهية وبشرية واعتقدت بيزنطة بطبيعة واحدة، هذا إلى جانب البعد السياسي الحاضر دائماً حيث من يحكم بابا الإسكندرية أم بابا بيزنطة, كرسي الخلافة المرقسية يكون في إنطاكية سورية أم في الإسكندرية تماماً كما يحدث الآن بين مصر وروما: فعندما تنقسم الكنيسة على نفسها تخرب، كما قال السيد المسيح كل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب وكل بيت منقسم علي ذاته لا يثبت، وعندما يتقاتل التلاميذ على من منهم الأعظم تضيع الرسالة ويكون الرابح الأكبر هو إبليس.

ولكن المراجع الغربية تستخدم كلمة إحتلال occupation حيث قدم عمر بن العاص على رأس جيش من أربعة آلاف جندي ليدخلوا مصر إن شاء الله آمنين، وعندما أدركته رسالة الخليفة بأن يرجع إذا لم يكن قد دخل الأراضي المصرية فأخذ يسأل عن اسم المكان وكان مساء أحد الأعياد ولفت نظره المظاهر الإحتفالية فقيل له المساء عيد، فأطلق على المكان المساعيد فعلم أنه داخل الأراضي المصرية فلم يرجع.
ولما علم حاكم مصر المقوقس أرسل للبابا بنيامين الذين قررا أن يجنحا للسلم وأمرا بفتح أبواب الحصون أمام المحررين الحاملين رايات الخلاص من اضطهاد بيزنطة وآخر معاقل الإمبراطورية الرومانية الآفلة، وقدم العرب أثناء المفاوضات الإختيارات التالية: الإسلام أو الجزية أو الحرب بحد السيف، فاختارا الجزية وهم صاغرون بما يعكس الحالة السياسية للمسيحيين في تلك الفترة، ومن أشهر تلك الحصون حصن بابليون الذي بنيت عليه الكنيسة المعلقة.
وفي سنة 681 أُجبر المصريون على ارتداء الزنّار (حزام) لتميزهم عن العرب بالإضافة إلى عدم لبس المسيحيين لملابس حمراء اللون وأن يستخدموا الحمير فقط للركوب لتميزهم عن العرب والمصريين الذين أصبحوا مسلمين تحت وطأة الفقر، وهذا يعكس الحالة الإجتماعية إبّان الفتح الإسلامي لمصر.
ولبنان إذا سقط في أيدي حزب الله والنفوذ السوري الإيراني يكون بذلك آخر الدول العربية التي بسطت الإمبراطورية الإسلامية يدها على دولها الإثنين والعشرين، بالرغم من أن لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي ينص دستوره على أن يكون رئيس جمهوريته مسيحياً.
فمنذ أن بدأت الفتوحات الإسلامية التي قدمت أطروحة الأمة الإسلامية في مقابل أطروحة شعب الله المختار وأرض الموعد من النيل إلى الفرات، وعملية التغيير مستمرة سواء بالفتح أو بالإحتلال وفي كل الأحوال فإن ضعف المسيحيين وتشتتهم هو العامل الأكبر في نمو تلك العملية وامتدادها.

بالإضافة إلى لبنان تعد مصر من أهم الدول التي تحتفظ بالنسبة الأكبر من المسيحيين المؤثرين حيث الكرسي المرقسي والرهبنة ومقر الإرساليات والإصلاح الإنجيلي المستمر وأكبر رجال الأعمال الناجحين عالمياً، ولما لمصر من مقومات الدولة المتميزة حضارياً وثقافياً وعلمياً ودينياً حيث الأزهر وأيضا إرهابياً حيث مولد الجماعات المتطرفة التي صدّرت فكرها واستراتيجيتها على نمط الثورة الإيرانية إلى العالم، حيث الرجل الثاني والعقل المدبر لأكبر تنظيم إرهابي كالقاعدة.
وقصة مصر تبدأ من قديم الزمان قِدَم الأهرامات وأبي الهول وتستمر طالما أن الزمان في دورانه وصيرورته إلى آخر الزمان في تقديم رموز الإبداع في كل المجالات عبر جميع مراحل التاريخ القديم والحديث، في العلم مثل أحمد زويل ومحمد البرادعي والآداب كنجيب محفوظ وصناعة السلام كأنور السادات ورواد التنوير وأيضا الإرهاب مثل الدكتور الظواهري.

وقد بدأت الأسلمة بتغيير لغة الدواوين إلى اللغة العربية التي أصبحت اللغة الرسمية ومن ثم التحكم فيمن يُعينون، ثم التدخل في المناهج الدراسية في المدارس والجامعات بحيث يتم غرس الثقافة العربية الإسلامية حتى وصلنا إلى الإعلام المسموع والمقروء والمرئي وفي نهاية المطاف التليفون الإسلامي الذي يرن بصوت الآذان في مواقيت الصلاة، إلى أن دخلنا عصر الفضائيات عن طريق الفتاوى التليفونية والقنوات المتخصصة والخاصة في نفس الوقت حتى أصبحت اللغة العربية هي اللغة الرسمية، وقابل ذلك الحفاظ والتمسك باللغة القبطية من الكنيسة الأرثوذكسية داخل الكنائس حتى جاء الإحياء الأرثوذكسي في عصر البابا شنودة وحركة إحياء اللغة القبطية وصلت إلى مداها، هذا إلى جانب إمتداد حركة الرهبنة وإختيار قيادات وتفوقه علمياً بدرجة عالية من الكهنة والمطارنة، أيضا يعود الفضل في هذا الإحياء إلى تبني الفكرة التي زرعتها الإرساليات البروتستناتية بحركة مدارس الأحد التي أخرجت جيل من القيادات والكتاب المتميزين على رأسهم الأب متي المسكين، وفي الكنائس البروتستناتية التي تبنت اللغة الإنجليزية بالإضافة إلى اللغات الأصلية للكتاب المقدس العبرية واليونانية، هذا كله أدى إلى حالة من الإنقسام والتشرذم في هوية المجتمع المصري.

يُعتبر القرن الثالث عشر من أزهى عصور الإنتشار والتقدم بالنسبة للغة العربية، حيث أصبحت هي اللغة الأساسية للعلوم والثقافة والآداب ليس في العالم العربي بل في قطاع كبير من العالم، حيث العصور الوسطى وسيادة الظلام أوروبا، ومن هنا تمثل عودة البابا بنديكتوس إلى نقطة هامة في تاريخ الفكر حيث بداية استخدام مصطلح اللوجوس وهي كلمة تعني النتاج الفلسفي للثقافة اليونانية، وبذلك يكون البابا بنديكتوس السادس عشر قد أرجع حركة النهضة الحقيقية إلى الكثلكة واستخدم اللوجوس كما استخدمها المسيحيون الأوائل، فرفض كل الأطروحات التالية سواء المسيحية بروتستانتية فهي مجرد جماعات مسيحية أو أرثوذكسية معيبة أو الطرح الإسلامي الذي في نظره لم يأتي بجديد، وإن الإنجاز الإسلامي الوحيد هو في علم الكلام، فالعرب مجرد ظاهرة كلامية.
التاريخ والعرب أشبه بما كان يفعله الفراعنة الأجداد من طمس كل إنجازات وبطولات وحروب الفراعين السابقين حتى لا يبقى إلا ما فعله الفرعون نفسه وهكذا دواليك وعلى الباغي تدور الدوائر، فالتاريخ المصري لم يورد إلا مصر الفرعونية وأغفل مصر العبرية بطول أكثر من 400 سنة كحضارة وثقافة ولغة هي مدة إقامة العبرانيين في مصر وأيضاً أغفل مصر القبطية بطول 641 سنة بآدابها وعلومها ولغتها وحضارتها القبطية!!!

ويستمر المسلسل التراجيدي حتى لم يعد لليهود مكان لقدم واحدة وظل المسيحيون أهل ذمة حتى الحقبة الناصرية من تأميم وإصلاح زراعي قضى على الباشوات الأقباط بصفة خاصة، وتظل المادة الثانية من الدستور المصري عصا على رقبة المواطنة، فغير المسلمين ذميون فهم ليسو مواطنين محرمين من المناصب السيادية، فمصر بلد إسلامي لزعيم مسلم والمناصب الجامعية قاصرة على الموالين أهل الثقة وليس أهل العلم وظل الخط الهمايوني في عدم جواز بناء الكنائس إلا بقرار جمهوري تم تفويض الأمر للمحافظين وهذا أصعب في أغلب الأحوال.
إلى أن نجح الإخوان نجاحاً مؤقتاً ووصلوا إلى البرلمان في تأهب لسدة الحكم وأتى تجريم التظاهر في دور العبادة حتي لا يكون للمؤسسة الدينية أية فرصة لتعبر عن رأيها ولتنفرد بهم المؤسسة الأمنية في الشوارع.

فإن كان مجيء العرب إلى مصر فتحاً فأين امتيازات هذا الفتح على الأقليات اليهودية أو المسيحية ومؤخراً البهائية كما كان الفتح امتيازاً في المراحل الأولى كما تدعي المراجع العربية؟ وهنا أورد أحد أقوال نبي الإسلام فيما يتعلق بالتعامل مع غير المسلمين: إذا فاوض أحدكم رجلاً بطريق الخطأ على حق ممنوح له بأكثر مما يستحق فأثقل كاهله، فأنا أدافع عنه يوم الدين، وأيضاً قول أبو بكر الصديق: لا تقتلوا أحداً من الناس الذين تحمونهم وإن فعلتم فإن الله يقتص له منكم وسوف يلقي بكم في الجحيم.
وإن كان مجيء العرب إلى مصر احتلالاً "فإننا لن نُستعبد ولن نُورث بعد اليوم" كما قالها الزعيم ابن الشرقية عرابي.
فهل آن الأوان للقيد أن ينكسر ولليل الطويل أن ينجلي؟ فاعطني حريتي أطلق يديا، لا بالعنف أو بالسيف فإن الذين يأخذون بالسيف بالسيف يؤخذون، بل بالمواطنة والمحبة والإخلاص والمشاركة والإنتماء، بحقوق الإنسان كإنسان بغض النظر عن العقيدة أوالجنس أواللون.

إنني أدعو إلى حركة حراك فكري من المثقفين المسلمين والمسيحيين لإعادة قراءة التاريخ بعين موضوعية ونظرة نقدية بيعداً عن النظرة التجميلية التي توارثناها عن الفراعنة بطمس إنجازات من سبقونا من الإبداع الإنساني، ولا نتغافل عن تراث حضاري لأي فئة ما، كما أغفل تاريخ مصر ما يقرب من 641 سنة هي عمر تاريخ مصر القبطية وأيضاً بعيداً عن القراءة الغربية لتاريخنا حتى يمكن أن نصل إلى بداية صحيحة للإلتقاء والمواطنة على أساس العدالة والمساواة الذين هما من سمات الله سبحانه وتعالى الذي يعبده الجميع، وأهيب بضرورة إعادة قراءة التاريخ بحق وموضوعية لكى نتبني هذا الإتجاه التنويري الرائد وغير المسبوق ولكي ترسم الطريق إلى الحرية والعدالة ونقدم الحق إحقاقاً للحق الذي تلهمنا تجلياته ودروسه إلى التفكير في الإستفادة والإستزادة من عبر التاريخ الذي لا يعيد نفسه إلا للذين لا يتعلمون منه، وحتى يمكن صياغة تاريخ حقيقي كنقطة إنطلاق نحو مستقبل يحترم التعددية ويتبنى الديموقراطية ويراعي حقوق الإنسان، ولنتأمل إلى أي مصير أوصلتنا كل هذه السنين، وإلى أي مكانة في ذيل الأمم وواقع مريربعد فشل الحروب الدينية المسيحية واليهودية والإسلامية وسقوط أيدلوجيات العروبة والقومية والإشتراكية والرأسمالية؟
فهل آن الأوان أن نفكر بالكوكبية؟ حتى تكون مصرنا الحبيبة بحق وبعدل بالضمير والعمل وطناً لكل المصريين، مكاناً نعيش فيه وحباً يعيش فينا ولتعود مصرنا كسابق عهدها أماً للدنيا.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٥ صوت عدد التعليقات: ٦ تعليق