ما المعني وراء السلوك العلمي ؟ المعني المقصود هو ما أحدثته العلوم المتدفقة والمكتشفات الحديثة في المجالات المختلفة من آثار عميقة في مسيرة البشر, وفي علاقتهم وفي سلوك الفرد والجماعة, ومن ثم قامت حضارة حديثة معاصرة تختلف جذريا عن سائر الحضارات التي سبقتها, وفرضت عليهم سلوكا يختلف عما كان في الماضي, فلم تعد هناك ثقافة إنسانية إن لم تكن في الوقت ذاته ثقافة علمية, حتي المجتمعات الغارقة في التقاليد القديمة فإنها تسبح شاءت أم أبت في خضم التكنولوجيا وأدواتها ومنتجاتها فقد تغير الشخص البشري في طريقة معيشته, تغيرت نظرته إلي المسكن, اللبس, والسفر, والعمل, والطعام والشراب.. بل وفي علاقاته العائلية والاجتماعية, أو ببساطة شديدة الحضارة هي أن نحترم العلوم وقوانينها في سلوكنا.
إن من أخطر ما يواجه المجتمعات المختلفة أو قل العالم الثالث, أنه يمتلك العلوم لكنه يفتقد إلي روح العلوم ومتطلبات السلوك وفق قوانينها واحترام منهجها, تعيش حضارة العصر بروح العصور الوسطي, تمتلك الثروة والسلاح وتغلب عليها روح القبلية أو الطائفية, تتعلم كل النظريات الحديثة لكن ذهنيتها أسيرة الأساطير والخرافات, تود أن تخترق المستقبل لكن الماضي بكل ما حمل من خير أو من شر يكبل خطواتها ويعيق انطلاقها إلي رحاب الحرية والعدل والمساواة, أن تمتلك سيارة أو طائرة, أو أحدث ما أنتجته حضارة العصر من أدوات الإعلام كالكمبيوتر أو الدش أو المحمول, إلي آخر ما يتدفق في سوق الاستهلاك والترف, لا يعني ذلك مطلقا أنك تمتلك الحضارة أو أنك تسيطر علي ناصيتها وتسودها..
فرق شاسع بين من يمتلك أدوات الحضارة, وبين من يسهم في تقدمها ويبدع في اكتشاف خباياها, امتلاك الشيء لا يصنع منك سيدا له بل علي العكس قد يصبح هذا الشيء مستعبدا لك تخضع له ولا تستطيع الاستغناء عنه, بل قد تتحول الأشياء أدوات قاتلة لوقتك, تهدر مالك وصحتك بل قد تمزق أمنك الداخلي كما تمزق أواصر الأسرة والمجتمع..
رحل القرن العشرون بعد أن أحدث انقلابا جذريا في مسيرة البشر, وخلف وراءه تناقضات رهيبة فإن كان التقدم العلمي أمدها بأحلام وآمال فإنه أشاع في حياة الشر خوفا ورهبة أمام المكتشفات الخطيرة, سواء التي تمس جسد الإنسان والهندسة الوراثية أو التي تمس زحام الأسلحة المتطورة, أو ما يسببه تلوث البيئة من أمراض أو فوضي في نظام الطبيعة.
كما أنه خلال القرن الماضي طرحت قضايا جديدة علي العقل, تتعلق بالقيم الدينية والأخلاقية, فقد اختلطت الشعوب بعضها ببعض وسقطت كثير من الحواجز, وبدأت الثقافات تتبادل الفكر ومراجعة التاريخ وغربلة التقاليد, وأمدت الإنسان برؤية واقعية تتلمس موقعه من هذا الكون وننظر إلي الإنسان الآخر المختلف كما لم يسبق من قبل عبر القرون, ويبدو أن النظرة الإنسانية التي تنادي بوحدة الجنس البشري والتي انبثقت من الأديان وأنقذتها عصور النهضة في القرن الخامس عشر, قد تأكدت في القرن العشرين وتوارت نظرة الإنسان إلي الإنسان من منظور قبلي أو ديني بل وحتي وطني.
وعندما نادي فلاسفة القرن الثامن عشر( قرن الأنوار يطلق عليه) بفصل الدين عن السياسة والحكم, كان نداؤها ينصب علي فصل بين نظام القيم والمثل والنظريات وبين قيم السلوك العلمي وقانون الحرية والمساواة والعدالة, ليس لأن بينها تناقضا أو صراعا بل لأن قدرة أي نظام أو سلطة لا تستطيع أن تخترق الضمائر والقلوب, وليس لها أن تحكم إلا علي احترام الإنسان للقانون وللنظام, إن العلوم تركز دائما دورها وفاعليتها علي واقع الإنسان وواقع الوجود والحياة وبإيجاز يمكن القول إن القرن العشرين ترك قوتين هائلتين تغير بهما العالم كما خطا بهما الإنسان خطوات رائعة نحو مزيد من التقدم:
ـ العلوم ودورها في المستقبل البشري.
ـ رؤية جديدة للإنسان وللحياة وللطبيعة.
ينطلق السلوك العلمي من قاعدة صلبة هي المنطق والرياضة والقوانين الطبيعية الثابتة الأزلية, ولا يخشي السلوك العلمي تحليل ونقد وغربلة كل ما وصل إلي الإنسانية من تراث وتقاليد وأعراف سارت عليها الأمم قرونا طويلة دون أن تجرؤ علي المساس بها أو تحليل صدقها, إن الأفكار هي البذور وأما الحقل والتربة فهما منهج التطبيق والممارسة, فالسلوك البشري عند الفرد أو الجماعة ليس قضاء أو قدرا يفرض علي العقل, بل علي العكس إن العقل هو الذي يفرض السلوك, ومن ثم أن تغيير العقلية أو الذهنية الخطوة الأولي لتغيير نمط السلوك والحياة, وطالما لم تتغير العقلية لم تمتلك أدوات الحضارة لكي لا نسهم فيها.
لا خوف من العلوم, ولا خوف من الفلسفة, ولا خوف من الأديان, فلكل مجاله لا يتعارض مع الآخر, ولا يمحوه, فالعلوم ميدانها المادة وتوابعها في الوجود والطبيعة والمخلوقات, والفلسفة بحالها العقل والتاريخ الثقافي لهذا العقل, أما الأديان فعالمها واضح لا لبس فيه, إنه عالم الكيان الروحي في الإنسان, إيمانه وضميره وسلوكه.
لأن في نسيج كل إنسان أبعادا ثلاثة تحتاج إلي ذلك كله:
بعد عقلي يحتاج إلي العلم وبدونه تطمس أنواره.
بعد جمالي فني يحتاج إلي الفلسفة والآداب والفنون وبدونه يفقد تذوقه للماضي أو للحاضر أو للمستقبل.
بعد روحي, هو البعد الإيماني الذي يجعل لوجود الإنسان والحياة معني وللخير والشر معني وينفي عن الإنسان تهمة الإلحاد وبأنه لقيط في الفضاء.
ولكي يفسر الأمر نأخذ أمثلة من الواقع الإنساني, تأمل سلوك البشر حولك, يقود إنسان سيارة وهو يعلم أنها بلا فرامل مطمئنا إلي القول بأن الله يستر فهل هذا من الدين, أو من العلم في شيء؟ نعم هذا دعاء رائع وجميل يقال في كل حال لكن قبل أن ندعو بالستر علينا أن نؤدي واجبنا وأن نحترم قوانين الخالق وسنن الطبيعة, أو تري إنسانا يترك سلكا كهربائيا عاريا معرضا الآخرين للموت أو الحريق, أليس في ذلك التحدي للعلم وللدين وللمنطق؟
لقد ثبت أن عقل الإنسان يمتلك طاقات مبدعة بلا حدود, لا فرق بين إنسان أبيض أو أسمر أو أصفر, أو امرأة أو رجل أين يكمن إذن الفارق بين عالم متحضر وبين عالم متخلف تسوده الفوضي ويسري في سلوك أفراده العبث, إن الفارق واضح تماما, فالحضارة تنطلق من العلوم, والمعرفة والثقافة, فتخلق عقلا جماعيا واعيا يدرك قيمة العلم وقوانين الطبيعة, بحيث يحترم الفرد أو الجماعة أبسط قواعد العلوم, هذه تربية وتعود وقناعة قبل أن تكون قوانين وأحكاما, فالعلم وحده لا يصنع حضارة إنسانية راقية.
كما أن الفلسفة وحدها أيضا تعجز عن إقامة مجتمع سوي, وأتجاسر بالقول إن التدين وحده لا يبني الإنسان بناء متكاملا أو متزنا, فغياب أحد الأبعاد الثلاثة التي سبق ذكرها يحدث عدم توازن في كيان الفرد والمجتمع والإنسانية وهذا ما نراه ونعيشه في المجتمعات المتخلفة, والسلوك العلمي إنما يبرز نقطة انطلاق لهذه الأبعاد, والفلسفة بدون علم خطر والتدين بدون علم رياء وزيف, ولا يعني ذلك أفضلية العلم عليهما, بل معناه أن العلم بداية التدين الصحيح والفلسفة الصحيحة, والخطوة الأولي لبناء حضارة وتقدم, وهذا ما يفسر تخبط الشعوب في طريق بناء مستقبلها, ذلك كله لا ينبغي أن ينسي قبل أن يصيب الإنسان غرور العلم أو تغرقه بحار الفلسفة, أو يسجنه التدين المظهري, إن الإنسان ذاته والحياة الطبيعية, هذه هبات مجانية من خالق عظيم, علي الإنسان أن يحترم قوانينه الأزلية الصارمة العلمية.
نقلا عن الأهرام |