CET 00:00:00 - 16/12/2009

مساحة رأي

بقلم: ماجد سوس
عندما نتفق على أن أصعب جرح هو الذي يصدر من الأحباء، فإن الجرح الأصعب هو الذي يأتي من الابن لأبيه، ولا سيما ن أتى في حياة الأب، وهو ما فعله الابن الضال عندما طلب ميراثه ومازال أبوه على قيد الحياة. ما أصعبه جُرحًا وما أعمق أثره على نفس الأب وهو الذي أعطى، ويعطي بلا كلل أو ملل وهو يتوقع أن شيخوخته هي زمن الحب الذي يرى فيه أبناءه وأحفاده يلتفون حوله، يحرصون على ألا يجرحوا مشاعره، أو يكسروا قلبه في شيخوخته. أب يخدم أولاده نصف قرن من الزمان، تاريخه مشرف يفتخر به البعيد قبل القريب والغريب قبل الحبيب. يقدم ما فوق الطاقة بمراحل، كأنه خمسون رجلٍ في رجل واحد، في يومه الواحد يعمل عمل أيامٍ كثيرة، لا يهدأ ولا يترك لإجفانه نُعاسًا حتى يفعل كل ما بوسعه ليحل مشاكل أبنائه في كل مكان. كأنه بقوة خارقة يعمل فوق طبيعة البشر وهي حقيقة فالروح الذي اختاره ناري يشتعل في داخله لم يتركه يومًا. في داخله النفخة الإلهية، الرسولية التي خرجت من فم ملك الملوك ورب الأرباب لتأسيس سر الكهنوت العظيم لتستقر فيه كبابا لأقباط العالم بل فخر وأب للأرثوذكسية كلها. علامة مضيئة في تاريخها الناصع، يصعب تكرارها. شُبِّه بأثناسيوس زمانه لدفاعه عن الإيمان المستقيم والعمل على وحدة الكنائس، وسُمِّي ذهبي فم زمانه لأنه أخذ لقب معلم المسكونة بتعاليمه التي أنارت الدنيا وصارت نبراسًا لنا، ولُقب ببابا العرب لأنه عاشق وطنه واستقر في وجدان الشعوب العربية لأنه شعر بآلامهم، وهو شاعر من فطاحل الشعراء في العصر الحديث لقوة أسلوبه وتأثيره، وعضو نقابة الصحفيين لأن كتاباته ذهبية تحمل إجابات لكل نفس ظمآنه لكلمة تبنيها وتقودها. وأنا لا أجامل هذا الرجل العظيم لكنني لم أستطع أن أستمر أرى الهجوم الجائر على قداسته.
ففي الآونة الأخيرة بدأ نفر قليل من أبنائه العقاق بالتعاون مع رئيس هذا العالم لطعن الرجل دون استحياء، تارة أنه لم يُعطِ للعلمانيين دورًا في الكنيسة، وتارة أنه لا يريد تعديل لائحة 1957 لاختيار البابا، ووالأكثر جُرحًا له أنهم يشككون في الطريقة التي اعتلى بها سدة كرسي مارمرقس كاروزنا العظيم وفي  القرعة الهيكلية التي اختارته. وسأترك الحديث عن دور العلمانيين في عهد قداسة البابا لمقالة أخرى مستقلة، وسيكون حديثي اليوم لا عن البابا القادم وطريقة اختياره، لأنني لا أقبل أي مبرر يسمح للابن أن يتحدث عن من سيخلف أبيه وأبوه على قيد الحياة. ولكني اليوم سأقص لكم كيف اختارت عناية السماء قداسة البابا المعظم الأنبا شنودة الثالث - أطال الله حياته وحفظه، ليعرف الجميع أن طريقة انتخاب البابا، لا تأتي من الكرادلة والأساقفة فقط - كاختيار بابا الفاتيكان - وإنما يشترك المجمع المقدس مع ممثلين الآباء الكهنة ورؤساء الأديرة مع ممثلين الشعب وهم أعضاء المجالس الملية الحاليين والسابقين والأراخنة، بالإضافة لصاحب الاختيار وهو الروح القدس الذي يترك له في النهاية - عن طريق القرعة الهيكلية - أن يختار بين أفضل ثلاثة يختارهم الإكليروس والشعب. دون دخول - كما ذكر قدراسة البابا في عظته الأخيرة - في مهاترات وترك الساحة لإبليس في الوقيعة والدعاية والألعاب الانتخابية والتشهير، ولكن طريقة الانتخاب وسطية  تجعل السماء والأرض يشتركان في اختيار راعي الكنيسة المنظورة، فالكنيسة تبحث حال المرشحين حتى تقدم أفضل ثلاثة لديها وبعدها. و أنا أدعوك عزيزي القارئ لتعيش معي تلك اللحظات التاريخية التي أتت بأحد أعظم الآباء البطاركة:

بعد نياحة قداسة البابا كيرلس السادس في 9 مارس 1971، اجتمع المجمع المقدس مع هيئة الأوقاف القبطية ولجنة إدارة أملاك البطريركية لاختيار قائم مقام يتولى أمور البطريركية في فترة خلو الكرسي وقد رُشح لذلك نيافة الأنبا مرقس مطران كرسي أبو تيج لأنه أقدم المطارنة ولكنه قدم اعتذارًا بسبب كبر إيبارشيته رافضًا أن يترك شعبه بلا راعٍ فاختير نيافة الأنبا انطونيوس مطران كرس سوهاج وسكرتير المجمع المقدس في ذلك الوقت واختير نيافة الأنبا أثناسيوس أسقف كرسي بني سويف ليكون سكرتيرًا للمجمع المقدس. وطالب المجمع بسرعة اختيار بطريرك جديد رغم اعتراض الأنبا شنودة أسقف التعليم آنذاك طالبًا التروي في اختيار البطريرك. ولكن القائم مقام أعلن بدء عملية الانتخاب وطلب من أعضاء المجمع - كعمل تمهيدي - أن يكتب كل عضو - سرًا - أسماء من يرى ترشيحهم للكرسي مهما كان عدد الأسماء. وتكونت لجنة لفحص الأسماء فوصلت إلى 11 وهم: الأنبا أنطونيوس، الأنبا باسيليوس، الأنبا شنودة، الأنبا صموئيل، الأنبا لوكاس، الأنبا بولس ، الأنبا يوساب، القمص قزمان المحرقي، القمص متى المسكين، القمص شنودة السرياني، القس كيرلس المقاري.
ثم أجريت انتخابات لاختيار خمسة منهم، فكان الخمسة الأوائل حسب الأصوات هم: الأنبا شنودة، الأنبا أنطونيوس، الأنبا صموئيل، الأنبا باسيليوس والأنبا لوكاس.
وكان الأنبا شنودة هو صاحب أكبر الأصوات لكنه اعترض على أن تكون الانتخابات بهذه الطريقة وقال "إن من حق الشعب أن يختار راعيه". فاعترض البعض قائلاً "إذا تركنا الأمر للشعب ستكثر المهاترات والتشهير". فعاد الأنبا شنودة وطالب بأن يؤخذ رأي الشعب بأي صورة يقترحها المجمع.
وافق المجمع على أن يتم طرح الأسماء الخمسة على ممثلين للشعب القبطي فأعيدت عملية الانتخابات مرة أخرى في وجود هيئة الأوقاف القبطية ولجنة إدارة أملاك البطريركية بدلاً من المجلس الملي الأمر الذي أدى إلى رفع قضية من الأستاذ فريد أنطون ضد اختيار القائم مقام بدون أخذ رأي المجلس الملي - حيث إن المجلس الملي كان في ذاك الوقت على خلاف مع البابا كيرلس والمجمع المقدس - فوقف مجلس الشعب مع المجمع المقدس واجتمع وقرر تعديل لائحة انتخاب البابا بحيث يحل أعضاء هيئة الأوقاف القبطية ولجنة إدارة أملاك البطريركية محل المجلس الملي في لائحة الانتخاب بكل مراحلها - ولا يفوتنا أن نوجه نظر القارئ العزيز أن قداسة البابا شنودة الثالث بعد اختياره أعاد للمجلس الملي دوره في إدارة شئون الكنيسة الإدارية والمالية - وبدأت عملية تزكيات جديدة والتي أسفرت عن:
- ثلاثة من أساقفة الكراسي وهم: الأنبا باسيليوس مطران القدسن والأنبا دوماديوس أسقف الجيزة، والأنبا بولس أسقف حلوان.
- وثلاثة من الأساقفة العموميين وهم: الأنبا شنودة أسقف التعليم، والأنبا صموئيل أسقف الخدمات، والأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي.
- وثلاثة من الرهبان هم: القمص متى المسكين، القمص شنودة السرياني، القمص تيموثاوس المقاري.

المعركة الانتخابية:
قام نقاش لاهوتي كبير حول الفئة التي يُختار منها البابا البطريرك، وقدم خلالها نيافة الأنبا غريغوريوس بحثًا قيّمًا أكد فيه أنه لا يجوز قصر الترشيحات على الرهبان فقط. فتشكلت لجنة ترشيحات - حسب اللائحة التي صدرت في 1957 - وفحصت تطابق الشروط الموجودة في اللائحة على المرشحين من عدمه فانتهت إلى تقديم خمسة مرشحين هم: الأنبا باسيليوس، والأنبا صموئيل، والأنبا شنودة، والأنبا دوماديوس، والقمص تيموثاوس المقاري.
تمت الانتخابات يوم الجمعة 29 أكتوبر 1971 وأسفرت عن اختيار ثلاثة من الخمسة وهم حسب عدد الأصوات: الأنبا صموئيل 440 صوتًا، والأنبا شنودة 434، والقمص تيموثاوس المقاري 312 صوتًا.
عدد الناخبين كان 700 حضر منهم 622، وكانت اللائحة تعطي حق الانتخاب لوكلاء الايبارشايات ولـ 24 كاهنًا من القاهرة وسبعة من الأسكندرية ولأعضاء المجلس الإكليريكي. ولم يُدلِ بصوته نيافة الأبنا شنودة أسقف التعليم بل صلى قداسًا إلهيًا في كنيسة مارجرجس بروض الفرج وفي المساء ألقى عظته الأسبوعية في الكاتدرائية. وقد أرسلت الكنيسة الأثيوبية مندوبين عنها لحضور الانتخابات هما: المطران الأنبا توماس والقمص هابت مريم سكرتير الامبراطور للشئون الخارجية ومعهما السيد على سفير أثيوبيا في مصر.
في 31 أكتوبر 1971 الساعة السادسة صباحًا حضر أعضاء المجمع الصلاة ومعهم الوفد الأثيوبي وفي الساعة الثامنة صباحًا حضر القائم مقام وبدأ القداس وفي اللحظة الحاسمة خرج ومعه صندوق من الفضة وقال للحاضرين: بنعمة الله ستلقى القرعة اليوم لاختيار المنتخب من الرب وسأريكم الثلاث ورقات مختومة من الجانبين بختمي وخاتم رئيس اللجنة الانتخابية، الورقات بحجم واحد ومكتوبة بخط واحد، سأطبق كل ورقة أمامكم وسألفها بشريط صغير وسأضع الثلاث ورقات في العلبة الفضية وأقفلها أمامكم بالشمع الأحمر وأختمها بختمي. ثم قال للشعب: نحن شعب لنا نظرة العيون أما الله فهو يفحص القلوب ويختار ما يريد، ثم رفع عينيه إلى السماء وقال: نصلي إليك يارب ونرفع قلوبنا في هذا اليوم. ثم حمل الصندوق ووضعه على المذبح ورنم المرتلون وصلى أحد كهنة أثيوبيا باللغة الأمهرية، ثم قرأ الأنبا أنطونيوس الإنجيل باللغة القبطية وفسره أحد الشمامسة باللغة العربية وتوقف عند الآية: "كل مملكة منقسمة على ذاتها تخرب وكل مدينة أو بيت منقسم على ذاته لا يثبت". هنا صرخ الأنبا انطونيوس لله قائلاً: "فلنختفِ يارب ولتظهر أنت وحدك". وأحضر مطران أم درمان أربعة أطفال لا يتجاوز عمرهم 5 سنوات وأدخلهم إلى الهيكل وكانت الساعة قد بلغت العاشرة.
تقدم بعدها القائم قام ليختار الطفل الذي سيسحب الورقة التي تحمل اسم البابا الجديد، فنظر إلى فوق ومد يده فوقفت على الطفل أيمن منير وحمل قائم مقام البطريرك الصندوق الفضي ووقف على المنصة ورفع العلبة أمام المطارنة والأساقفة والشمامسة وكل الشعب. وحمل أحد الشمامسة الطفل أيمن إلى أعلى وعصبوا عينيه بشريط أحمر، وبدأ الحاضرون يكتمون أنفاسهم ويصلون وحرك القائم قام العلبة في كل اتجاه لتختلط داخلها الأوراق ثم بدأ بفتح أختام العلبة والشريط وقال للجميع صلوا يارب أرحم ثم الصلاة الربانية، ثم سحب الطفل أيمن ورقة من الصندوق فأخذها القائم قام وفتحها وسط لحظات صمت وقرأ: نيافة الأنبا شنودة، ثم عاد بعدها وقرأ الورقتين الأخريتين ليطمئن الجميع أن الثلاثة أسماء كانت موجودة في الصندوق من البداية وصفق الجميع وتهلل كل الشعب وبدأت أجراس الكنائس تنطلق.
كان الأنبا شنودة في هذه اللحظة يجلس وحده في الدير دون تليفون. وقام أحد الأساقفة بالاتصال بالرست هاوس طالبًا من الشخص الذي قام بالرد عليه أن يذهب إلى الدير ويخبر الأنبا شنودة بأنه أصبح بطريركًا للكنيسة. وعلى الفور اجتمع المجلس المقدس ووقع على المحضر الرسمي للقرعة وذهب المجمع كله إلى الدير للقاء البابا الجديد وإبلاغه رسميًا.
في 14 نوفمبر جاء موعد حفل التنصيب وكان يوم أحد وأذيعت وقائعه بالراديو والتلفزيون على الهواء مباشرة. أعطى رئيس الشمامسة مفتاح الكاتدرائية للبابا الجديد الذي قام بفتح باب الكاتدرائية وهو يقول افتحوا لي أبواب البر ودخل والشمامسة خلفه يزفونه بلحن افليجونيوس وبعد سجوده أمام الهيكل بدأت مراسم أخرى لارتدائه تاج البابوية ولأن عصا رعاية الأسقف يتسلمها من البطريرك فإن عصا البابا يتسلمها من فوق المذبح - حيث قال القائم قام بصوت عالي:"تسلم عصا الرعاية من يد راعي الرعية الأعظم يسوع المسيح لترعى شعبه وتغذيه بالتعاليم المحيية فقد ائتمنك على نفوس رعيته ومن يديك يطلب دمها". ثم جلس قداسته على كرسي مارمرقس وسط فرحة الشعب. وقد سجلت مجلة الكرازة التي كان - ومازال - يرأس تحريرها قداسة البابا شنودة تفاصيل كل الأحداث بجانب الحديث الرائع الذي أجراه الكاتب الكبير رجب البنا مع قداسة البابا عن مشاعره في تلك الأيام وماذا فعل عندما أبلغوه بالخبر فأجاب لقد بكيت لأني شعرت بالمسئولية الكبيرة التي ستقع على كاهلي.
وها نحن يا أحبائي قد احتفلنا الشهر الماضي بعيد جلوس قداسة البابا المعظم الثامن والثلاثين. نصلي أن يبقي لنا الله حياته ويثبته على كرسيه سنينًا مديدة ويحفظه لنا دون أن نفكر فيمن سيخلفه لأن الله هو وحده الذي يعرف الأزمنة وويفحص الكلى والقلوب وهو القادر أن يحفظ الكنيسة وباباها إلى حيث تريد مشيئته. وأما نحن فنلتف حول أبينا وحبيبنا  فنحرص كل الحرص أن نقدم له جزيل الحب البنوي والاحترام اللائق لتاريخه العظيم في زمن يحتاج أن يري كل اولاده خلفه وحوله يطلبون و يدعون له بالصحه والشفاء ويقفون ضد أية محاولة لجرح مشاعره.

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق