هل ثمة علاقة جوهرية بين الحب والموت؟
قد تبدو القضية في موات شامل لكل رغباته وعواطفه وآلامه وأفراحه وهواجسه وانتصاراته ويأسه وغربته.
في المقابل يبقي الحب طاقة هائلة تدفع باتجاه الحياة في جمالها الأرحب وعذوبتها الصافية، الحب في التصورات الفلسفية والعقائد وحتي في الأدبيات الشعبية نزوع نحو المقاومة واقتحام الحياة.. وقد يتحول بفعل عوامل الضعف والفساد إلي حياة بديلة بكل معني الكلمة، في النهاية يظل الحب بديلا عن الموت، أو بالأحري طاقة روحية جبارة تكافح طوال الوقت للانتصار علي تجلياته في البشر والكائنات.
لكن علاقة جدلية تنشأ بين الضدين قد تكون خافية تماماً، يدركها د. مصطفي محمود بعمق شديد، وبفلسفة رائعة تجمع بين المفهومات المتنافرة وتوحدها في انسجام بالغ، هنا لا يكون الموت مناقضا للحياة والحب، بل علي العكس تماما يصبح الموت امتداداً طبيعياً لما نراه في الحياة.
الموت ليس نهاية ولكنه مجرد بداية.. أنا دائما وباستمرار أحدق في الموت، تقدر تقول عيني في عينه، فالموت يعيش معي بين ضلوعي ويسيطر علي عقلي ووجداني، مشكلة تصاحبني دائما أينما ذهبت.
إن الشعور بالموت كما يؤكد العظيم الراحل هو الذي يدفع الإنسان إلي الحياة بعمق وجسارة «لدي إحساس قوي بأن الموت يسكن معي .. كأنني أحمل كفني وأسير» وهو حافز الإنجاز الوحيد في الحياة، بسبب إحساس البشر بأن كل شيء سينتهي وهو ما يجعلهم يسعون جاهدين لفعل أي شيء قبل أن تذهب الحياة وتواري التراب.
«فيما يلي سطور من المتعة الفكرية الصافية، في رحاب عقل كبير يطرح رؤاه الخاصة في الحياة والحب والموت».
ما قصة زواجك الأول، وهل جاء عن حب.. ولماذا فشل؟
- نعم.. زواجي الأول جاء عن حب فعلا.. حب جنوني حقيقة.. هي اتصلت بي في التليفون وقابلتها ومن أول وهلة وأول لقاء أحببتها.. كانت جميلة.. تزوجتها بعد رحلة طويلة من التلطيش والحياة غير المستقرة وكنت قد أصبت بحالة مرضية.. نوع من الإسهال الغريب احتار الأطباء فيه.. ونقص وزني عشرة كيلو جرامات وأصبحت مثل الرنجة. وكل دكتور كان له تشخيص مخالف للآخر.. وعشت مرحلة من الإحساس بالخوف والرعب.. لأن تشخيص معظم الأطباء كان يدور حول مرض غريب، معناه أنني سوف أعيش ستة أشهر فقط وأموت!
وأيامها ذهبت للطبيب الكبير أنور المفتي فقال لي: حسما للأمر وبدلاً من الحيرة سنعمل لك تحليلاً للهرمونات فهذا المرض الغريب يصيب غدة هرمونية معينة فوق الكلي والذي يصاب بها لا يعيش أكثر من ستة أشهر ويموت!
وبالفعل أجري لي الدكتور المفتي دراسة علي الهرمونات بكلية الطب وتنفست الصعداء حين عرفت أنني غير مصاب بهذا المرض الخطير والغريب واللعين.. ولكن ظلت حالتي مع ذلك محيرة.
فقلت للدكتور المفتي: أنا عاوزك يا دكتور تفتح بطني وتري بعينك المجردة ماذا بها؟!
فلم تكن المناظير قد ظهرت حتي ذلك الوقت والتي يستطيع من خلالها الطبيب أن يري أي جزء من داخل جسم الإنسان.
وما إن قلت للدكتور المفتي: عاوزك تفتح بطني، حتي استغرق في الضحك وقال لي:
تعرف لولا أنك دكتور ما سألت عنك.. ولكن لأنك دكتور ومسئول فسوف أفتح بطنك فعلاً!
واتصل بالدكتور أبو ذكري وحجز غرفة العمليات، وأذكر يومها وبعد أن أفقت من تخدير العملية:
قال لي الدكتور المفتي:
تصور مصارينك ألماظ.. قطعة جواهر!
لم نجد شيئاً ولكن بالمرة عملنا عملية للمصران لأننا وجدنا من حوله بعض الدهن.
فقلت له: وماذا أفعل بعد ذلك؟
فقال لي: تأكل كل الممنوعات التي منعك عنها الأطباء من قبل، وكنت ممنوعاً بأمر الأطباء من أكل كل شيء إلا السمك والموز! كنت لا أتناول إلا قطعة من السمك وموزة! وظللت علي ذلك عاماً كاملاً!
فالدكتور المفتي قال لي: كل الممنوعات مصرح بها لك الآن.. ولا بد أن تغير نظام حياتك فإذا كنت عازباً فتزوج!
والحقيقة أنني اقتنعت بوجهة نظره.. فمادام كل شيء فيّ سليماً، فما هي أسباب هذه الأمراض التي تنتابني.. فلابد أن هناك خطأ ما في حياتي وأن نفسيتي بها شيء ما خطأ ولابد من تغييره!
المهم فوجئت «بسامية»، وهذا هو اسم زوجتي الأولي، تتصل بي في التليفون ولم أكن أعرفها من قبل ثم التقيت بها وحدث الإعجاب وتزوجتها وكأنما ساقتها الأقدار علي هذا الموقف الذي عشته، والذي استتبع ضرورة تغيير مسلك حياتي.
واستمر هذا الزواج ما يقرب من عشر سنوات كانت «سامية» فيها غيورة جداً رغم أنها كانت تصغرني بـ 15 عاماً، فإذا وجدت شعرة علي جاكتتي تكون كارثة مصيبة.. مع أن هذه الشعرة يمكن أن تكون شعرتها هي!
ذات يوم وجدت في جيبي «تذكرتين» سينما.. بهدلتني وكانت حكاية كبيرة قلت لها «التذكرتين» دول.. بتوعنا أنا وأنت.. سبق وأن دخلنا بهما السينما الأسبوع الماضي ولكن طبعاً بعد خناقة وبهدلة كبيرة!
رقابة علي التليفونات.. وتفتح خطاباتي.. وتحولت حياتي إلي جحيم لا يطاق! فأنا كنت متهماً بشيء لم أفعله.. وكانت حكاية كبيرة ومشكلة أكبر.. فلكي أكتب لا بد أن أسافر.. كل كتبي في هذه الأيام كتبتها في الفنادق والبلاد التي سافرت إليها... فلقد سافرت أيامها إلي السودان ورحلات إلي الصحراء الكبري والغابات الاستوائية.
لم أكن أكتب مطلقاً.. لأن حياتي تحولت إلي مشاكل لا تنتهي! كانت توقظني في منتصف الليل وتنزل عليَّ «ضرب» بلا سبب فأقول لها: فيه إيه يا ستي بتضربيني ليه؟!
فتقول لي: حلمت أنك كنت مع واحدة ست، فأقول لها: ما تحلمي يا ستي.. هو لازم حلمك يبقي صحيح هو أنت السيدة نفيسة!
لكن ما عدا ذلك فهي إنسانة طيبة، وست بيت، وهي أم الأولاد (أمل) و(أدهم)..
«أمل» خريجة كلية الآداب قسم فرنسي وهي متزوجة.. أما أدهم فهو في السنة النهائية بكلية التجارة.
ولكن للأسف كانت حياتنا جحيمًا مع (سامية) زوجتي الأولي، فلم أستطع أن أعيش حياتي معها، فطلقتها وتركت لها كل شيء.. تركت لها الشقة وكانت علي النيل بجوار الشيراتون.. وتركت لها كل شيء وخرجت ببيجامتي فقط!
بعد ذلك كانت مرحلة صيام عن المرأة حوالي أربع سنوات!
ولماذا تزوجت ثانية رغم هذه التجربة القاسية عليك؟!
- بعد ذلك ظللت أربع سنوات صائماً عن الزواج من الرعب الذي رأيته! ولكن بعد ذلك عادت لي طبيعتي.. وأنا لا أستطيع أن أعيش بدون امرأة، فكيف يحدث ذلك؟! هل من غير زواج؟! طبعاً مش ممكن لأنني أصبحت ذلك الرجل المتدين، فدخل الدين هنا كعامل مهم في حياتي، إذن لم يكن هناك أسلوب للتوفيق.. يعني أولاً.. أنا محتاج لإنسانة.. فكيف تكون معي هذه الإنسانة التي أحتاجها دون زواج؟!
كنت زمان وأنا شاب صغير لا تهمني مسألة الارتباط بالزواج، لكن الآن أصبح لي قناعات وقيم أخري.. ثم كنت أيامها قد انتهيت من بناء الجامع وبدأت أعيش فيه، فكنت في مسيس الحاجة إلي إنسانة تكون رفيقة الهدف، إنسانة تتحمل معي رحلة الحياة.. وتكون رفيقة هدف نريد أن نصل إليه سوياً متشابكي الأيدي، فهي التي دخلت إليّ من هذا الباب باعتبار أن هدفي هو هدفها الذي تحلم أن تصل أو نصل إليه سوياً.
كانت مأمورة ضرائب وكنت أنا ثالث زواج لها.
> د. مصطفي محمود.. من المؤكد أن الرجل سوف يتردد كثيراً قبل أن يقدم علي الزواج من امرأة سبق لها الزواج مرتين من قبله.. فلماذا أقدمت علي الزواج من «زينب» زوجتك الثانية، هل لأن والدتك تزوجت هي الأخري ثلاث مرات؟!
- لا.. لا.. إطلاقاً! ولا فكرت في هذه المسألة مطلقاً، كون أن والدتي كان لها زواج قبل ذلك.. فهذا من الطبيعي بالنسبة للجيل نفسه.. فليس هناك ارتباط بين الاثنين. ولكن الشيء الجديد الذي أحسسته فيها هو مسألة الدين، ورغبتها في أنها تفكر في نفس الهدف.. وأنها تريد أن تكون معي شريكة هدف نصل إليه معاً.
فأنا كنت محتاجاً لإنسانة تقف بجانبي، لأن رحلة الحياة سوف تكون جافة من غير امرأة!
وهذا الزواج استمر أربع سنوات فقط وكان الطلاق!
ولماذا كان الطلاق.. لماذا لم يصمد الزواج الثاني لك؟!
- لم تستطع «زينب»، وهذا اسم زوجتي الثانية، أن تثبت الزعم الذي قالته.. واكتشفت أنها إنسانة عادية خالص!.. كانت امرأة تريد أن تعيش الحياة.. وكانت حياتي قاسية جداً عليها.. فكيف تعيش معي في حجرة في جامع.. فالحياة أصبح لا معني لها في نظرها مع أنها كانت تعلم ذلك من الأول..
بل بالعكس قالت: إنها تحب هذه الحياة جداً!.
وزينب كانت مثقفة دينياً وكانت محجبة ولديها موهبة وحساسة، ولكنها في النهاية امرأة عادية تريد أن تعيش زوجة لكاتب كبير.. كانت تعتقد أنها متزوجة من كاتب معروف، وبهذا يحق لها أن تتردد علي باريس ولندن وأوروبا، وتعيش حياتها مرفهة وليس في حجرة علي سطح جامع!.. طبعاً كان لها أولادها من أزواجها السابقين، ثلاثة أولاد.
وأحسست بعد مرور عام علي زواجنا أن كلاً منا يدور في فلك ثان، ولم تعد تفكر في الهدف الذي تعاهدنا أن نصل إليه سوياً!
ولماذا قتلت الحب في أعماقك..؟!
- أنا لم أقتله.. هو لا يعيش!.. أنا لا أحب أن أقتله فهو قصير العمر!.. أنا لا أقتله وأنت لا تقتله ولكنه قصير العمر! فالحب الوحيد الباقي الطويل العمر هو علاقتك بالله سبحانه وتعالي.. خاصة إذا ما ترجمت هذه العلاقة في أفعال تحس، ولذلك فإن حبك للناس يمكن أن يكون في الله أيضاً.
الآن من الصعب أن تجد الحب النادر مثل الذي كان بين النبي- صلي الله عليه وسلم- والسيدة خديجة- رضي الله عنها- التي أعطته نفسها ومالها وصحتها وعمرها بكل سعادة.. وهذه نماذج نادرة، أو تجد مدام كوري.. وقد عاشا في حب وتفان حتي أصابهما السرطان من خلال الراديوم.
في بعض الأحيان، بل نادراً ما يجد الإنسان شخصاً يفني معه في الهدف أياً كان.
> وهل تجد من يفني معك الآن؟ هل تعيش قصة حب الآن؟!
- الآن ليست هناك قصة حب.. ولو أن الحوار لا ينقطع بيني وبين الجنس الآخر أبداً.. ولكن الحب بالمعني المعروف لا أعيشه الآن فعلاقتي بالله هي الأبقي..
فأنا تلقيت دروساً طويلة وعميقة وعرفت حدود هذا الحب.. ثم إن مشكلة المرأة أنها تستنزف منك شيئاً غالياً جداً.. هذا الشيء اسمه.. الاهتمام.. أو يسمونه الهمة.. التي هي أغلي ما يمتلك الإنسان.. لأنها الطاقة النفسية البحتة.. وحين تحب وتنشغل وتسهر.. هذا الانشغال هو ضياع الهمة، لأن همتك تصبح حينئذ في المحبوب ويضيع منا أغلي ما نملك.. وأنا مش فاضي يا عم محمود لأن يضيع مني «وقت تاني»!
ولا حتي تتوقع أن تجد هذه الإنسانة قريباً؟!
- أنا لا أفكر نهائياً.. أنا عارف نوع حياتي.. فمن الصعب فيها الشركة.. فالحياة أصبحت نوعاً من الفناء في الهدف وهذا صعب فيه الشركة وأنا لا أريد أن أعذب روحي.. ولهذا فقد عملت مصدات لقلمي عن رياح هذا الحب!
قلت ذات يوم: إن الحب والهوي خداع ألوان.. هل مذهبك في الحياة أن تقاوم ما تحب؟!
- نعم مذهبي أن أقاوم ما أحب وتحمل ما أكره!
باعتبار أن الحب الحقيقي الباقي هو حب الله سبحانه وتعالي.. أما الحب والهوي فهو خداع ألوان، 99% منه خداع ألوان.. والذي جرب يعرف ذلك جيداً.. يسهر وينشغل أكثر من حب بدأ عظيماً عنيفاً ثم هدأ وبعد فترة تحول إلي عداوة!
هل من الصعب علي الكاتب المستغرق بكيانه في عمله حتي العيادة مثلك أن يعيش مع زوجته تحت سقف واحد؟!
- من الممكن جداً أن تلتقي الأهداف مثلما حدث لمدام كوري وزوجها كوري ومثلما حدث أيضاً - وهذا هو المثال الأعظم - للرسول- صلي الله عليه وسلم- والسيدة خديجة وهو نموذج فريد وسوف تجد في التاريخ نماذج ولكنها نادرة.. أذكر أنني قدمت حلقة خاصة عن القرود في برنامج العلم والإيمان واكتشفت أن السيدة الباحثة الأجنبية التي أعدت حلقات القرود قد تزوجت من مصور هذه الحلقات التي استغرقت شهورًا وسنين في الغابات.. فقد تزوجا في النهاية.. لأنهما اكتشفا أنه يجمعهما هدف واحد.. حتي ولو كان القرود!.. الهدف الواحد بين الزوجين وهذا ما تجده في أوروبا!
د. مصطفي محمود.. صدر لك كتاب مؤخراً بعنوان «عصر القرود».. هل نحن حقيقة نعيش عصر القرود وكيف؟!
- بشكل كبير طغت المادية طغياناً طفيفاً غريباً علي العالم، فعلي الرغم من أن باريس ولندن ونيويورك عواصم النور والحضارة إلا أنها تحولت إلي بلاد العلاقات الجنسية المنحلة والشذوذ والمخدرات والهيروين، وأصبح هو عالم «الهلس والفجور».. فالرجل متزوج وله أكثر من عشيقة وزوجته لها أكثر من عشيق.. فقد سيطر الإحساس باللذة والمتعة علي حياة الناس وأصبحت حياتهم نوعاً من الأخلاق القرودي وتحولت حياتهم من الرقي والسمو إلي الانحلال والفجور.
لكل إنسان عقدة في حياته تقبع في أعماقه ولا تضيع من الذاكرة مهما حاول أن يقتلها في نفسه.. فما عقدة مصطفي محمود؟!
- هي ليست عقدة، ولكن يمكن تسميتها بالمشكلة!!.. ففي بواكير الطفولة أحسست أنني لا أستطيع أن أجري وأضرب وأصارع.. حالتي الصحية لم تكن تسمح بذلك، ولهذا اخترت كلية الطب عن اقتناع لأنني أريد أن أعرف أسرار الصحة والمرض.
تستطيع أن تقول: إن المشكلة الكبري في حياتي والمستمرة حتي الآن.. هي الموت!.. والمرض هو رمز الموت.. أو هو بداية الموت، أو عينة صغيرة منه لأن الذراع تموت.. والساق تموت.. والأسنان تموت.. وهذه هي المقدمة الصغري للحدث الكبير.. فالمرض والموت أشد ما يشغلني، وهما «المشكلة» وليست العقدة عندي!
وأعتقد أنها مشكلة كل الناس في العالم... إنني أحس طول الوقت أنني أحمل الموت داخلي وأشيع كل يوم قطعة مني!
عندي إحساس قوي بأن الموت ساكن معي! وكأنني أحمل «كفني» وأسير؟!
وأنا أصدرها علمياً بأن الإنسان حين يستجمع ويغتر بجسده تسقط بعض الخلايا الميتة، كذلك اللعاب تنزل منه الخلايا الميتة.. كذلك دم الإنسان فيه كل ساعة 60 مليون خلية من الخلايا الحمراء تحدث فيه، وكذلك الخلايا البيضاء..
أما مصيرها فهو شحن جثثها حتي الكبد.. والكبد يمكنه التعامل مع كل هذه الجثث جميعاً وتنقيتها وتحويلها إلي مرارة وصفراء.. فالجسم يتعامل مع كل هذه الجثث، يحللها ويستفيد منها، ويحولها إلي عصارات مختلفة.. لكن الموت يعمل داخلك وأنت لا تدري؟!.. المعركة دائرة داخلك ليل نهار، تموت فيها خلايا وأنت لا تدري؟!.. إذن الموت ليس مجرد لفظ ولكن «واقع» داخلك، فالموت داخلك، وفي نفس الوقت فإن هناك خلايا تولد وتتجدد.. يعني الإنسان لما يكح شوية فإن «البلغم» الذي يخرجه من فمه نتيجة التلوث في الجو هو في الحقيقة خلايا ميتة.. فالموت شغال.. فعملية الهدم والبناء تتم داخلك في نفس الوقت، فإذا كان البناء غالباً فأنت شاب، أما إذا كان الهدم هو الغالب فاعرف أنك دخلت مرحلة الشيخوخة.. لكن الهدم قائم منذ لحظة الميلاد.. منذ أول ميلادك والهدم داخلك، لكن البناء غالب عليه حتي يحدث توازن للإنسان في سن الأربعين ثم يبدأ الإنسان بعد ذلك في نزول سفح الهدم الذي يتزايد داخله.. فأنا أحس بالموت.. أحس بوقع أقدامه وهي تقترب مني!
ولكن الفيلسوف باسكال يقول: شيئان لا يستطيع الإنسان أن يحدق فيهما: الشمس والموت؟!
- لا.. أنا دائماً وباستمرار أحدق في الموت.. تقدر تقول عيني في عينه!.. ويمكن الثروة المعرفية التي حصلت عليها خلال دراستي في كلية الطب لمدة سبع سنوات هي أنني وضعت عيني علي موت الخلية عندي في الميكروسكوب. ولقد خصصت حلقة كاملة من برنامجي التليفزيوني «العلم والإيمان» عن موت الخلية، فأنا إنسان محدق في الموت لدرجة أنني كنت أتوقع دائماً أنني سأموت مبكراً!.. بل إنني كنت أتوقع ألا أكمل أربعين عاماً من عمري! والآن أنا في دهشة أنني تجاوزت الستين!!
فالموت يعيش معي بين ضلوعي، ويسيطر علي عقلي ووجداني، مشكلة تصاحبني دائماً أينما ذهبت، والموت مرتبط عندي بميلاد الفن، وميلاد الدين وكل القيم الكبيرة لأن إحساسك بأن كل شيء سينتهي، يجعلك تسعي جاهداً لأن تفعل شيئاً قبل أن تولي الحياة وتواري التراب.. فالحياة إما أنها هزل وتهريج، وإما جدية وعمل وإصرار، قل ما تشاء من أن الحياة تافهة ولا تستحق، وأنها هزل وهجص وكلام فاضي.. قل ما تشاء لكن الحقيقة غير ذلك تماماً، فالحياة نظام محكم ودقيق للغاية ونوع من الشيخونية المنطقية..
فلا شك أن هناك امتداداً لما نراه في الحياة، وأن الموت ليس نهاية المطاف ولكن بداية.. ولهذا فإن الإنسان حريص علي أن يفعل شيئاً ما دام هناك متسع من الوقت يكفي لذلك.. فإحساسي بالموت كان من الأسباب الحافزة لي علي العمل والإنجاز والنجاح.. لا بد أن تذاكر وتفعل شيئاً قبل فوات الأوان.. وهذا هو السبب في إنشاء جامع مصطفي محمود والمركز الطبي المتقدم فيه، والسبب أيضاً في زهدي في الحياة وضرورة أن أتحلي بالقيم الدينية والمثل العليا.. كل ذلك للإحساس المسيطر عليَّ والمهيمن علي كل كياني وهو أنه لم يعد في العمر متسع من الوقت! |