بقلم: كمال غبريال
ملايين ومليارات البشر يولدون ثم يموتون.. يأتون ويذهبون، وقد لا يترك بعضهم خلفه أي أثر على الإطلاق، وكأنه لم يوجد أبداً.. والبعض القليل يترك آثاراً تذكرها له البشرية على مر التاريخ، لكنها آثار مدمرة للحضارة وللإنسانية، ويذكر لنا التاريخ أمثلة لهؤلاء هولاكو وجنكيز خان ونيرون وهتلر، وقد ينضم لهؤلاء (قريباً) من معاصرينا أسامة بن لادن.. أغلبية البشر يتركون خلفهم آثاراً محدودة بحياتهم العملية العادية، سواء كانت خيرة أم شريرة، لكنها لا تلبث أن يطويها النسيان.. قلَّة هم من يتركون خلفهم علامات لا يمحوها الزمن، تشير إلى أياديهم البيضاء، وتفانيهم في سبيل خدمة البشرية.. من هؤلاء علماء ومفكرين ومبشرين، بذلوا جهود جبارة في سبيل دفع قاطرة البشرية والحضارة إلى الأمام.. أمثال هؤلاء لا تكون نهايتهم أبداً بالموت الجسدي.. سقراط وأفلاطون وأرسطو، وتلاميذ السيد المسيح الذين حملوا الرسالة إلى كافة أنحاء المسكونة، وهم مجردون من كل قوة مادية أرضية، وهناك جاليليو وأديسون وماركوني وفولتيير وجون لوك وجان جاك روسو.. هم كثيرون في تاريخ البشرية، وإن كانت أعدادهم قليلة جداً مقارنة بتعداد البشر.. هي نوعية خاصة من البشر، لا تستغرقها همومها الشخصية، لكنها تحمل هموم البشرية على كاهلها كما لو كانت هماً شخصياً.. كم من فقراء انشغلوا بفقرهم عن كل الدنيا من حولهم، وكم من أغنياء غرقوا في ثرواتهم ومنافعهم الشخصية، فأعمتهم عن كل ما ومن حولهم.. فقط القلة النادرة والمميزة، هي التي تحمل هموم الإنسانية على كاهلها، وتكرس حياتها في السعي من أجل حياة أفضل، ومن أجل مناهضة الظلم والكراهية.. وسط هذه الكوكبة من النجوم الإنسانية، يقف عن جدارة الأب المهندس/ عدلي أبادير.
كان ومازال وسيظل صاحب الصوت الأول والأقوى والأكثر شجاعة وإخلاصاً، من أجل مستقبل أفضل للشعب المصري بعامة، وللأقباط المطحونين والصامتين المذعنين للظلم طوال دهور طال بها الأمد.. كان الصوت الذي أيقظ الجميع من غفوتهم التي بدت أبدية، أيقظ الظالمين على ظلمهم وجرائمهم، وأيقظ المظلومين على خنوعهم وتهاونهم في أبسط حقوقهم الإنسانية، فكان أن هبَّ على أثر ندائه الكثيرون. تحرك أقباط المهجر خلف عدلي أبادير، وتحرك أقباط الداخل مقتفين آثاره، مستمدين من شجاعته وتضحياته منقطعة النظير قوة وحماساً.. هكذا أصبحت أجندة الأقباط السرية والمغلقة والمختومة بالشمع الأحمر مفتوحة على جميع المستويات.. على مستوى الوطن، ومستوى كافة الهيئات الحقوقية العالمية.
تميز الأب المهندس/ عدلي أبادير بملحين أساسيين، ربما هما أهم ما يميزانه عن كثيرين ممن دخلوا ساحة القضية القبطية بعده.. أولهما فكره ومشاعره الوطنية، ورؤيته لمستقبل مصر الزاهر مرتهناً بالمحبة والوئام والحرية لكل أبناء الوطن، وليس فقط لأهله الأقباط، هكذا احتضن المستنيرين من مفكري مصر المسلمين، فالمسألة لم تكن بالنسبة له تناحراً أو صراعاً بين أتباع ديانتين، وإنما كانت البحث عن المنهج الذي يكفل أن يعيش كل أبناء الوطن في سلام وتوافق وتناغم.. العلامة الثانية المميزة لفكر الأب/ عدلي أبادير هو ليبراليته، وربما كاتب هذه السطور هو خير من يشهد على عظمة ليبرالية هذا الراحل العظيم.. فلقد كنا متفقين معاً على محاربة الظلم والظلام والتيارات الإجرامية المتأسلمة، كما كنا متفقين على رؤيتنا الوطنية الشاملة لقضية الأقباط، باعتبارها جزءاً خطيراً وحيوياً وملحاً من قضية الحداثة في مصر.. لكنه كان يختلف معي بشدة، والأصح أن أقول يختلف معي بعنف، فيما أكتبه من نقد للأقباط وقيادات الكنيسة.. كانت له رؤيته الخاصة في هذا الشأن، وكانت لي أنا أيضاً رؤيتي الخاصة، لكن المثير أو العظيم في الأمر، أن هذا الخلاف الذي دعا الكثيرين من الأقباط إلى اتهامي بالخيانة وما شابه من نعوت، لم يحل دون أن يفتح موقع أقباط متحدون صفحاته لكتاباتي، إيماناً من الرجل العظيم بحرية الفكر، وبوحدة القضية التي نعمل جميعاً من أجلها.. على ذات الدرب أيضاً تميز موقع أقباط متحدون عن سائر المواقع التي تتبنى قضية الأقباط، بأنه موقع وطني، يكتب فيه المستنيرون من كافة أبناء مصر، وليس حكراً على الكتاب الأقباط.. كما يخاطب الموقع جميع المصريين باختلاف انتماءاتهم، منشغلاً بالهموم المصرية والإنسانية بوجه عام، بالطبع مع إعطاء الأولوية لقضية الأقباط، لكن بوجه غير طائفي ولا عنصري، إنما بوجه وطني مصري خالص!!
هكذا لا يمكن الآن أن ننعي الأب المهندس/ عدلي أبادير، فهو بالفعل وليس بالتزيد في القول، باق معنا.. باق بشعلة النور التي أشعلها، وبالشجاعة والحماسة التي بثها في جوانحنا.. باق بمسيرتنا على دربه، وبروحه الجميلة المحبة الغيورة التي زرعها في قلوبنا!!
مصر- الإسكندرية
kghobrial@yahoo.com |