بقلم: د.عبد الخالق حسين
قبل سقوط حكم البعث الفاشي نشرتُ في جريدة (المؤتمر) اللندنية بحثاً مطولاً على حلقات بعنوان: (الديمقراطية عبر مخاضها العسير). ومن العنوان كنت أقصد أن ولادة الديمقراطية في كل مكان وزمان لم تكن سهلة وبدون تضحيات، بل كانت دائماً وأبداً مصحوبة بالدماء والدموع، وعبر انتفاضات وثورات مسلحة، وكذلك ترتكب أخطاء. وفيما يخص تجربتنا العراقية، فولادة الديمقراطية تمت بالعملية القيصرية على يد الجراح الأمريكي والبريطاني لإزالة العائق البعثي عن الطريق. كما وأثبتت تجارب الشعوب التي سبقتنا في هذا المضمار، أن لا يمكن لشعب مضطهد أن يستوعب الديمقراطية ويمارسها بين عشية وضحاها، ولكن في جميع الأحوال لا بد لأي شعب أن يبدأ رحلة الألف ميل من نقطة ما!! وأن الديمقراطية مثل السباحة، لا يتعلمها الإنسان عن طريق قراءة الكتب، بل عن طريق الممارسة التي لا بد وأن تكون مصحوبة بالأخطاء.
مناسبة هذه المقدمة أني استلمت قبل أيام، رابطاً (Link) للقطة فيديو، تعرض بالصوت والصورة تصرفات صبيانية مخجلة قامت بها مجموعة من النواب من كتلة سياسية معينة، إثناء جلسة برلمانية، في عهد رئاسة الدكتور محمود المشهداني. وقد أظهرت اللقطة (الرابط في ذيل المقال)، هذه المجموعة وهم في هرج ومرج، وصياح وضجيج، والضرب على الطاولات وكأنهم في سوق هرج، أو فرقة من فرق الخشابة في حفلة صاخبة، وليسوا نواباً أنتخبهم الشعب ليقوموا بتشريع القوانين، وتعيين الحكومة ومراقبتها ومحاسبتها، علماً بأن الأغلبية من النواب أثبتوا التزامهم بالنظام بما يفرضه عليهم السلوك البرلماني الحضاري. كما وتظهر اللقطة الرئيس الدكتور محمود المشهداني، وهو يبذل قصارى جهوده للسيطرة على الوضع ولكن دون جدوى، ولما فشل في إعادة النظام، أضطر إلى تأجيل الجلسة واستدعاء رجال الأمن لإخراج المشاغبين الذين تصرفوا كبلطجية. وكان المشهد حقاً مثيراً للحزن والأسى، مما أعطى المزيد من الذخيرة والذريعة لأعداء الديمقراطية في العراق للشماتة والتهكم والادعاء بأن الشعب العراقي غير مؤهل للديمقراطية.
في الحقيقة أن هذه التصرفات المخجلة تحصل بين حين وآخر في بعض البرلمانات، بل وشاهدناها حتى في برلمانات البلدان العريقة في الديمقراطية. فبفضل الإنترنت، رأينا مشاهد شبيهة بما حصل في البرلمان العراقي، حصلت في البرلمان الإيطالي والهندي والياباني والبرتغالي وغيرها من البلدان. وهذا ليس دفاعاً عن السلوك الشائن لبعض النواب العراقيين، ولكن فقط لنقول أن الإنسان، وفي أي موقع سياسي كان، تطغي عليه أحياناً النزعات البدائية ويتصرف كأي إنسان بدائي، خاصة إذا كان هذا الإنسان حديثاً في التعامل مع الديمقراطية.
لا شك أن معظم الذين ساهموا في توزيع الرابط (وأنا منهم) كان غرضهم إطلاع أصدقائهم ومعارفهم على ما جرى في الجلسة المذكورة للبرلمان ومن باب حب الإطلاع، ولكن كان غرض البعض الآخر، وكما ظهر من تعليقاتهم، هو التشفي والتهكم من قدرة العراقيين على ممارسة الديمقراطية، ليقولوا لنا: "ألم نقل لكم أن الشعب العراقي لم يصلح بعد للديمقراطية، وأنه يحتاج إلى القبضة الحديدية وحكاماً أقوياء من أمثال نوري السعيد وصدام حسين؟".
في الحقيقة هؤلاء على خطأ، إذ لو اتبعت البشرية هذه النصيحة إلى أن "يتعلم الشعب" لما ولدت الديمقراطية في أي بلد وفي أي زمان، ولصارت الشعوب أشبه بقطعان الماشية يسوقها الطغاة إلى الأبد. ولكن للتاريخ حكمته، فلحسن الحظ أن الشعوب لن تسكت على ضيم بل تقوم بالثورات ضد الطغاة وحتى لو فشلت في محاولاتها، فالبشرية تتعلم من أخطائها. والطريق الوحيد الذي يتعلم من خلاله الإنسان ويتقدم في السلم الحضاري، هو طريق التجربة والخطأ، إلى أن يتعرف على الطريق الصحيح.
ومن التعليقات التي وصلتني من بعض الأصدقاء الذين أرسلت لهم رابط الفديو، تعليق من الصديق الدكتور محمد الصندوق، الأستاذ في جامعة أسكس Essex في إنكلترا، والذي وجدته جديراً بالنشر، جاء فيه ما يلي: "عندما دخلَتْ السيارة العراق في مطلع القرن العشرين عاشت المسكينة مشاكل كبرى لعدم ألفة المجتمع لها وعدم قدرته على التعامل مع هذا المخلوق التكنولوجي الجديد الذي نشأ وتطور كتكنولوجيا. واستخدامها خلال قرن من الزمن وفي مجتمعات تطورت فكريا واجتماعيا معه. لذا لم تواجه السيارة مشاكل في مجتمعها الأصلي كما و اجهتها في مجتمعاتنا النائمة.
"والديمقراطية هي الأخرى نشأت و تطورت في مجتمعات طورتها وساهمت في تعميقها حتى صارت مقبولة اجتماعيا. لا شك في أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية يصعب عليها التعامل مع الديمقراطية بالمستوى الرفيع كما في الأنظمة السياسية المتطورة، وكما هي الحال مع التكنولوجيا. المشكلة ليست في العراق وحده، بل وفي كل المجتمعات العربية والإسلامية. واعتقد أنه يكفي العراق فخراً بأنه الأول من قبِل بهذا النظام السياسي، وأنه في طريقه الصعب للاستيقاظ. ورغم قسوة المناظر في هذا الفيديو فانه يمنحني الثقة بان النظام الديمقراطي الجديد سوف يتم احتضانه وقبوله وتفهمه في مجتمع غريب عنه كما تآلف المجتمع مع السيارة و التكنولوجيا الغريبتان عن هذه المجتمعات النائمة. كما ويكفي العراق فخرا انه لم يعد فيه وجود لمقص الرقيب الذي يخفي العيوب بجراحات قسرية مميتة ليخفي الأوساخ تحت الطاولة. إن معارضي النظام السياسي الجديد يرون في هذا الفيديو منقصة وتندراً، ولكني أراه رغم قسوته شيئا طبيعياً في مجتمع يحاول أن ينهض ويتعلم. و أعتقد بأنك معي في هذا. " انتهى.
بالتأكيد أنا مع الدكتور محمد الصندوق في تعليقه القيم، وقد قلت ما يشبهه في مقالات كثيرة، ولذلك وجدت من المفيد نقل الاقتباس كاملاً نظراً لأهميته ولتعميم الفائدة. نعم سيستمر أبناء شعبنا في ارتكاب الأخطاء وسوف تنشر هذه الأخطاء على علاّتها دون إخفاء العيوب، وسيتخذ منها أعداء الديمقراطية ذريعة للشماتة والطعن بها وبالشعب العراقي والعراق الجديد، ولكن في نفس الوقت يتخذ المخلصون للديمقراطية من هذه العيوب وسيلة لتصحيح مسار الديمقراطية وتكاملها وسد نواقصها، والتعلم منها واستخلاص الدروس والعبر منها.
ومن بين أعداء العراق الديمقراطي، أناس تظاهروا قبل سقوط حكم البعث بأنهم معارضون لنظام صدام حسين، فكانوا ينتقدونه ولكن باستحياء ويرمونه بالعتاد الخلب، إلا إنهم كانوا يصبون حممهم ويرمون ذخيرتهم الحية ضد المعارضين الحقيقيين لتشويه صورتهم ونعتهم بالعمالة لأمريكا وتحت ذريعة حق الاختلاف وتعددية الآراء والمواقف. ولكن أثبت الزمن أنهم كانوا معارضين مزيفين، دسهم النظام الصدامي في صفوف المعارضة للتخريب، إذ بانت حقيقتهم بعد سقوط النظام الجائر وتشكيل الحكومات المتعاقبة عبر صناديق الاقتراع، فكشفوا عن وجوههم الكالحة في محاربة الديمقراطية وتحت مختلف الذرائع، فأعلنوا صراحة عن "ندمهم" لمعارضة صدام، والادعاء بأن البديل هو أسوأ من البعث الساقط. وها هم يغمروننا بمقالاتهم التافهة وهذياناتهم المقرفة يمجدون بها عهد صدام ويشوهون صورة العهد الجديد.
بل هناك أناس ورغم ما عانوه من حكم صدام، راحوا يعارضون العهد الجديد لأسباب طائفية بحتة، لأنه وفر الفرصة لجميع مكونات الشعب العراقي بالمشاركة في حكم البلاد وصنع القرار السياسي دون تمييز، وهذا لن يرضى به هؤلاء ولأغراض طائفية بغيضة. ومن بين هؤلاء أعرف شخصاً كان وزيراً في عهد الأخوين عارف، وقد اعتقله صدام مع غيره من القوميين الناصريين، وكان السجانون وبأمر من صدام يذلونهم في السجن أشد إذلال، حيث كانوا يأمرونهم بالتعري والرقص على دق الطبلة في ساحة السجن وأمام بقية السجناء. هذا ما نقله لي سجيناً يسارياً في ذلك العهد البغيض. هذا الوزير السابق، الآن شخص حر يتمتع بكل وسائل الحرية لنشر أفكاره وتصريحاته وهو في خريف حياته، ولكن تعصبه الطائفي جعله من ألد أعداء العراق الديمقراطي، يترحم على عهد صدام ويشتم الوضع الجديد والأمريكان "الذين جاؤوا بهم"، لا لشيء إلا لأن الحكم الجديد لم يكن محتكراً على فئة واحدة. وقد أثبت هؤلاء طغيان النزعة الطائفية عندهم على النزعة القومية التي كانوا يدعون بها والتي أحرقوا العراق من أجلها في انقلابهم الدموي الأسود يوم 8 شباط 10963. بل وراح أحدهم وهو نقيب عسكري من الموصل، مفضلاً إلحاق الموصل بتركياً على أن تحكمه حكومة رئيسها عربي شيعي أو كردي. هؤلاء وأمثالهم هم وراء الحملة المسعورة في اختلاق الأكاذيب لتشويه صورة الوضع الجديد. وكما بينت أعلاه ومراراً، أن العهد الجديد لا يخلو من أخطاء وتشوهات، ولكن في نفس الوقت نرفض الافتراءات والمبالغة بالأخطاء واختلاق المزيد منها.
وختاماً، نؤكد لأعداء الديمقراطية وخاصة أولئك الذين أدمنوا على الاستحواذ على السلطة والثروة لوحدهم دون مشاركة أبناء الشعب من المكونات الأخرى، أن الأخطاء لا بد منها، ويجب أن لا تردعنا عن دعم الديمقراطية، بل هي وسيلة لا بد منها لتصحيح مسارها وتكاملها، فمن خلال هذه الأخطاء يتعلم شعبنا دروس الديمقراطية ويستوعبها ويهضمها، وبالتالي يحترم نتائجها، وأن عهد احتكار السلطة لموكونة واحدة قد ولّى وإلى غير رجعة، وما عليهم إلا أن يتعلموا دروساً في الديمقراطية ويتكيفوا مع الوضع الجديد، فمن لن يتكيف ستسحقه عجلة التاريخ وينقرض كما انقرضت الدينصورات، لأن البقاء للأصلح.
هامش: رابط عن سلوك بعض نواب البرلمان العراقي، أرجو مشاهدة اللقطة إلى آخرها،
http://www.youtube.com/watch?v=F6cYQ7OqUyQ&feature=related
|