بقلم: د.عبد الخالق حسين
لم يكن العراق بلداً سهل الحكم لأية حكومة منذ تدوين التاريخ ولحد الآن. ومهما قيل عن الشعب العراقي بأنه صعب المراس ومتذمر ومتمرد على الحكام دوماً، فمشاكله وصراعاته هي نتاج التاريخ والجغرافية حيث أبتلى بجيران لا يريدون له خيراً، ولم يسمحوا له بالاستقرار في جميع العهود، والتاريخ حافل بالشواهد.
فهذه الدول، وبغض النظر عن تغيير أنظمتها عبر التاريخ، ناصبت العداء للشعب العراقي، وحاولت إلحاق أشد الأضرار به وتحت مختلف الذرائع والواجهات، ومهما أبدى العراق لهم رغبته الصادقة في علاقة حسن الجوار. لا نريد هنا أن نعيد كل أحداث التاريخ في هذا الخصوص، ولكن نذكر فقط ما هو معروف من تاريخنا الحديث الذي عشناه ونتذكر تفاصيله أولاً بأول، عملاً بالآية الكريمة "فذكِّر إن نفعت الذكرى".
بعد ثورة 14 تموز 1958، استغلت دول الجوار تعقيدات الوضع العراقي وتعددية مكوناته وظروف الحرب الباردة، فعملت على خلق المشاكل والاضطرابات والصراعات بين القوى السياسية، وتأليب بعضها على بعض، وحبك المؤامرات لإرباك قيادة الثورة وشقها، وبالتالي لإجهاض الثورة وإيقاف مسيرتها الإصلاحية. وكان حزب البعث هو الأداة الضاربة الفعالة لهذا الغرض. فالبعث هو أول من بدأ في خلق المشاكل للثورة، وتأكد فيما بعد أن هذا الحزب قد تأسس خصيصاً، وبتخطيط من المخابرات الأجنبية، البريطانية والأمريكية تحديداً، لضرب الحركات التقدمية في المنطقة وتحت الشعارات التقدمية البراقة. وهكذا استثمرت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) هذا الحزب الفاشي، إضافة إلى جهات أخرى، بعد أسبوع واحد من الثورة لتخريبها، ابتداءً من رفع شعار الوحدة الفورية وإلغاء الجمهورية العراقية، ومن ثم محاولة اغتيال رئيس حكومتها الزعيم عبدالكريم قاسم، ثم تصاعدت الحملة أكثر بعد صدور قانون رقم 80 لعام 1961 الذي استعادت به حكومة الثورة 99.5% من مساحة العراق من سيطرة الشركات النفطية الغربية التي لم تستثمرها لحد ذلك الوقت. فتم لهم ما أرادوا بانقلابهم الدموي يوم 8 شباط 1963، وأدخلوا العراق منذ ذلك اليوم الأسود في نفق مظلم يعاني من تداعياته لحد الآن. (راجع مذكرات بعض قادة البعث مثل الراحل هاني الفكيكي وغيره فيما يخص علاقة المخابرات المركزية الأمريكية بحزب البعث ودورها في الانقلاب الدموي المذكور).
وفي عام 1968، عندما عقدت حكومة الرئيس الراحل عبدالرحمن عارف اتفاقيات مع شركة توتال الفرنسية لاستثمار الحقول النفطية وكذلك مشروع الكبريت في منطقة القيارة في الموصل، أثار غضب الشركات النفطية الأمريكية والبريطانية، وصادف في تلك الفترة حصول هامش من الانفتاح السياسي في العراق، إذ أجريت انتخابات الطلبة في الجامعات العراقية التي أفرزت عن فوز مرشحي اليسار بنحو 80% من الأصوات، إضافة إلى حركة الكفاح المسلح (القيادة المركزية للحزب الشيوعي العراقي) في منطقة الأهوار، كل هذه الأمور أدت إلى دق ناقوس الخطر لدى المخابرات الأمريكية، ومرة أخرى وظفت هذه المخابرات والشركات الأجنبية حزب البعث للقيام بالمهمة القذرة، فكان لهم انقلابهم "الأبيض" في 17-30 من تموز 1968. (وللمزيد من التفاصيل عن دور الـ CIA في هذه المؤامرة، ننصح بقراءة مذكرات الراحل محمد حديد – ذكرياتي).
ولكن للتاريخ منطقه الخاص، فالحكومات الدكتاتورية والأحزاب والمنظمات الفاشية الإرهابية التي أسستها المخابرات الغربية لخدمة مصالحها انتفت الحاجة إليها بعد انتهاء الحرب الباردة واختفاء الخطر الشيوعي، فانقلب السحر على الساحر، حيث تمردت هذه الحكومات الدكتاتورية والمنظمات الإرهابية على أمريكا والغرب، لذا فكان ما كان من الموقف الأمريكي المعروف من حكم البعث الغاشم خاصة بعد غزوه للكويت، ومنظمة القاعدة الإرهابية بعد جريمة 11 سبتمبر 2001، وهكذا شاء حكم التاريخ أن تنقلب أمريكا على حكم البعث، ولأول مرة تلتقي مصلحة شعبنا مع مصلحة الدولة العظمى، فانتهى البعث الفاشي إلى مزبلة التاريخ في 9 نيسان/أبريل 2003، وساعدت أمريكا على إقامة نظام ديمقراطي تعددي في العراق.
ولكن مرة أخرى، تحركت دول الجوار، وبالأخص إيران وسوريا والسعودية، ضد مصلحة الشعب العراقي والعمل على إفشال العملية السياسية وإجهاض المشروع الديمقراطي في العراق، فكان دعمهم للإرهاب البعثي والقاعدي، وراحت تعيد نفس السيناريو الذي عملته بعد ثورة 14 تموز 1958. وإذا كانت حجتهم مع ثورة تموز إيقاف الخطر الشيوعي، فحجتهم اليوم لدرأ الخطر الشيعي والهلال الشيعي!! كما يدعون، أو مقاومة الاحتلال الأمريكي وأعوانه، ولكن الغاية واحدة وهي منع الديمقراطية واستقرار العراق، أما الجهات والوسائل المنفذة فهي نفسها ومهما تغيرت الأنظمة الحاكمة في دول الجوار.
ولعل من يسأل: كيف التقت مصلحة إيران الشيعية مع مصلحة السعودية الوهابية وسوريا البعثية العلمانية؟ أليس في هذا الكلام تناقض؟ الجواب: كلا، فرغم التناقض الأيديولوجي بين الأنظمة الثلاثة، إلا أن هناك وحدة الهدف، وفي السياسة، الغاية تبرر الوسيلة. إذ كما ذكرنا مراراً، أن هذه الجهات ورغم خلافاتها الأيديولوجية، فإنها تلتقي في هدف واحد وهو إجهاض الديمقراطية في العراق وإبقاء العراق ضعيفاً وشعبه محروماً من ثرواته الطبيعية الغزيرة.
كذلك هناك حقيقة جديرة بالذكر مفادها أن الأنظمة الأيديولوجية المستبدة لا تستطيع الاستمرار في الحكم بدون أزمات. لذلك تلجأ إلى خلق أزمات وصراعات مع الخارج لكي تبرر ضرب المعارضة في الداخل، وذلك باتهامها بالخيانة الوطنية والعمالة للعدو الخارجي. ولهذا السبب، أشعل صدام الحرب على حكومة الثورة الإسلامية في إيران عام 1981 والتي كانت نعمة له وللخميني لإدامة نظاميهما، وقمع المعارضة في بلديهما، وكان الخاسر هو شعبي البلدين. ولهذا أيضاً رفض الخميني عرض صدام حسين بإيقاف الحرب بعد عامين من اندلاعها، أملاً في إسقاط حكم البعث وإقامة نظام ولاية الفقيه في العراق على غرار نظامه في إيران، فاستمرت الحرب إلى عام 1988 عندما وافق السيد الخميني على وقفها بعد أن أبلغته الدولة العظمى عن طريق تركيا، أنه إذا لم يوافق فسيجهزون صدام حسين بسلاح فتاك يبيد به الشعب الإيراني عن آخره، وعندها وافق الخميني على قرار وقف الحرب الذي كان "أصعب عليه من تناول السم" على حد تعبيره.
والآن، يواجه النظام الإيراني أزمة خانقة تهدد بسقوطه، إذ يعاني من عزلة عالمية، وانتفاضة شعبية عارمة مستمرة في الداخل بعد تزييف الانتخابات الرئاسية، ويمر في ظروف تشبه تلك التي مر بها حكم الشاه في أواخر أيامه عام 1979. لذلك لجأ الحكم إلى اختلاق صراع مع العراق على أمل جر أمريكا إلى هذا الصراع كونها في اتفاقية مع العراق تلزمها حماية العراق من العدوان الخارجي. فبعد توقيع العراق تراخيص اتفاقيات استثمار الحقول النفطية مع شركات نفطية أجنبية وفق شروط مغرية في صالح العراق، تحرك النظام الإيراني، واحتل البئر النفطي رقم 4 في حقول الفكة النفطية الواقعة في القسم الشرقي من محافظة ميسان (العمارة)، علماً بأن هذه البئر قد بدأت الحكومة العراقية بحفرها في السبعينات من القرن الماضي، ولم تعترض عليها إيران، لأنها تعرف أنها تقع ضمن الأراضي العراقية وفق الاتفاقية العراقية-الإيرانية التي وقعها صدام حسين مع شاه إيران في الجزائر عام 1975.
وهنا يثار تساؤل: لماذا تحركت إيران واحتلت هذه البئر وفي هذا الوقت بالذات؟ أعتقد هناك ثلاثة أسباب: الأول، وكما بينا أعلاه، تريد إيران تصدير أزمتها الداخلية المتفاقمة إلى الخارج، فتبحث عن صراع مع أمريكا، الثاني، عرقلة المشروع العراقي في استثمار نفطه، بعد توقيع العراق مع الشركات النفطية، الثالث، قرب الانتخابات البرلمانية العراقية، لفرض الضغوط على رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي، وإحراجه أمام منافسيه والعالم، وإظهاره بالضعف في الدفاع عن المصالح العراقية، وذلك لرفض المالكي انضمام كتلته (دولة القانون) إلى كتلة (الائتلاف الوطني العراقي) التي يقودها السيد عمار الحكيم، رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، والصديق الحميم للنظام الإيراني.
أما مواقف القوى السياسية العراقية من العدوان الإيراني فهي على ثلاثة أصناف: جماعة تبنت الموقف العقلاني، فدعت إلى حل المشكلة بالوسائل الدبلوماسية، وجماعة أصدقاء إيران، فضلت الصمت على هذا التجاوز، وجماعة ثالثة، وهي من فلول البعث والبعثيين السابقين وأشباههم، استغلوا التجاوز الإيراني الذي نزل عليهم نعمة من السماء، فراحوا يدقون طبول الحرب والدعوة لـ"كونة" جديدة مع "الفرس المجوس"، تماماً على طريقة صدام حسين، فراحوا يصرخون واه صداماه، واه معتصماه، الحرب الحرب!! العراق ضعيف، المالكي ضعيف لا يصلح للمرحلة، الحكومة ضعيفة، يا عالم شوفوا ماذا حل بالعراق بعد صدام!!!
والحقيقة أن دق طبول الحرب من قبل هؤلاء هو مجرد عنتريات فارغة لتوريط العراق في حرب عبثية أخرى خاسرة تجلب الكوارث على الطرفين، وكأن العراقيين انتهوا من حل مشاكلهم الكثيرة، فلم يبق لهم شيء يلهيهم سوى الحروب، وكأنه ليس هناك أية وسيلة لحل الخلافات الحدودية سوى الحرب كخطوة أولى.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل حقاً كان صدام حامي حمى العراق من تجاوزات دول الجوار؟ التاريخ القريب يؤكد لنا أن حكم البعث الصدامي كان أجبن نظام في العراق، إذ كان أسداً هصوراً على شعبه، وحملاً وديعاً على من يهدد مصلحة العراق. فرغم ضجيجه الفارغ وعدوانيته، تخلى صدام حسين عن الكثير من الأراضي الحدودية للأردن، وعن منطقة المعين للسعودية، وعن شط العرب لإيران، وسمح لتركيا بالتوغل لأكثر من ثلاثين ميلاً داخل الحدود العراقية في مطاردة مقاتلي حزب العمال الكردستاني، ولم يتحرك الحكم الصدامي إزاء جميع هذه التجاوزات. أما الحرب التي شنها صدام فيما بعد ضد إيران بعد الثورة مباشرة، فاعتقد خاطئاً أن الجيش الإيراني ضعيف ومفكك، وسوف لن يدافع عن نظام الخميني، وأنه سيحقق نصراً سهلاً وسريعاً ويسقط النظام الإيراني بحرب خاطفة!! ولكن أثبت الواقع غباءه، وفي جميع الأحوال، لم تكن تلك الحرب للدفاع عن مصالح العراق وحدوده، بل لتحقيق أحلامه المريضة، وليثبت للدولة العظمى أنه هو البديل لشاه إيران في القيام بدور كلب الحراسة للمصالح الغربية في الخليج، ولم يكسب منها الشعب العراقي غير الهزائم والكوارث والمقابر التي غطت المساحة الواقعة بين النجف وكربلاء بطول 80 كم، إلى أن انتهى صدام نفسه في حفرة الإعدام وإلى جهنم وبئس المصير.
والآن تلعب القيادة الإيرانية نفس اللعبة الخطيرة التي تورط بها صدام وبنفس الدرجة من الغباء، والعدوان الإيراني على الأراضي العراقية يؤكد ذلك، لأن الغرض منه كما ذكرنا آنفاً هو تصدير أزمتها الداخلية المتفاقمة إلى الخارج، واستغلال انشغال العراق بمحاربة الإرهاب والصراعات بين القوى السياسية التي لم تتعلم لحد الآن من خيباتها وكوارث أخطائها. إن محاولة التحرش الإيراني بالعراق من أجل جر أمريكا للصراع، ستكون نتائجه كارثية على العراق وعلى إيران في نفس الوقت.
ومن المفيد هنا الإشارة إلى الدراسة القيمة التي نشرت في صحيفة ZSpace الإلكترونية بعنوان (Iraq: The writing is on the wall, the US wants the Ba'ath party back ) للسيد منير الجلبي، قدم بشكل واضح تاريخ حزب البعث ودوره في تدمير العراق وتوظيفه من قبل المخابرات الغربية لخدمة مصالحها طوال الخمسين عاماً الماضية، وأن هذا التحرك الإيراني جاء نعمة لا تقدر للبعثيين وأشباههم لإقناع الإدارة الأمريكية بأن العدو الأكبر لأمريكا وإسرائيل في المنطقة هو إيران وليس حزب البعث، وأن القوة الوحيدة التي تستطيع الوقوف بوجه الأطماع الإيرانية هي حكومة قوية بقيادة حزب البعث. لذلك فمن مصلحة أمريكا أن تعيد البعثيين إلى السلطة في العراق!
ومهما حامت الشكوك حول هذا السيناريو، فإن إيران فعلاً وبعملها الانتهازي هذا قدمت خدمة جليلة لأعداء العراق من البعثيين ومن يدعمهم من الحكومات العربية مثل السعودية وسوريا تحديداً. فلحد وقت قريب كانت سوريا والسعودية في حالة عداء سافر فيما بينهما بسبب الموقف السعودي المناهض للحرب التي دارت رحاها بين حزب الله اللبناني وإسرائيل في صيف عام 2006. فكان الرئيس السوري بشار الأسد قد وصف حكام العرب الذين ناهضوا حزب الله، بأنهم "أشباه الرجال"، وكانت هذه الشتيمة موجهة بالأخص ضد الملك السعودي عبدالله بن عبدالعزيز أكثر من غيره لأن حكومته اتخذت علناً موقفاً ضد حزب الله. ولكن ما أن توترت العلاقة بين العراق وسوريا إثر تصريحات رئيس الوزراء العراقي السيد نوري المالكي حول احتضان سوريا للإرهابيين، وغضب سوريا العنيف من هذه التصريحات، حتى وسارع الملك السعودي بزيارة دمشق تحت غطاء وحدة الصف العربي وتحسين العلاقة بين سوريا ولبنان، ولكن الغرض الأهم من هذه الزيارة هو توحيد جهود الدولتين ضد العراق. ولا ننسى أن إيران هي في تحالف إستراتيجي مع سوريا لمحاربة أمريكا بالوكالة عن طريق عملائهما في العراق ولبنان.
ولذلك نشهد هذه الأيام حملة مكثفة ضد حكومة المالكي من كل حدب وصوب تذكرنا بتلك الحملة الظالمة ضد العراق في عهد الزعيم عبدالكريم قاسم، مع بعض الاختلاف في التفاصيل، ولكن الجهات التي تحاول تدمير العراق هي نفسها، إيران وسوريا والسعودية، وفلول البعث والبعثيين السابقين الذين وحدوا صفوفهم في القائمة (الوطنية العراقية) بقيادة الثلاثي: علاوي- المطلك – الهاشمي، هم أداة تنفيذها في الداخل. ولكل مرحلة طريقتها الخاصة للتنفيذ، ففي عام 1963 عن طريق انقلاب عسكري دموي، وفي عام 1968 عن طريق انقلاب عسكري "أبيض" لتتلوه أنهار من الدماء، أما في عام 2010، فالخطة تقتضي طريق الإرهاب والإبادة الجماعية من جهة، ومحاولة ابتزاز العراقيين وتسليمهم بالأمر الواقع أن الحل الوحيد لخلاصهم من الإرهاب هو عودة البعث إلى الحكم. وبطبيعة الحال ليس بإمكانهم التصريح بعودة البعث بهذه الصراحة، وبعد كل ما لحق من خزي بسمعة الحزب بسبب جرائمه الشنيعة بحق الشعب، بل عن طريق كتلة البعثيين السابقين التي يقودها الثلاثي: علاوي- المطلك - الهاشمي. وهناك من يروِّج لهذه الكتلة من دعاة الديمقراطية بحجة أن حزب البعث غير مسؤول عن جرائم صدام، وأن هذه الكتلة بما إنها علمانية، فهي أفضل من الكتل الأخرى مثل دولة القانون والائتلاف الوطني، الطائفية حسب قولهم، وأن وعود المالكي بقيام دولة القانون والديمقراطية والمواطنة ليست جدية!!
ولكن السؤال هو: هل العلمانية بحد ذاتها هي غاية أم وسيلة؟ وإذا كانت غاية لذاتها، فكان نظام البعث الصدامي علمانياً، فلماذا عارضتموه ودعوتم الدولة العظمى لإسقاطه؟ فالعلمانية وحدها لا تكفي ما لم تكن مرتبطة بالديمقراطية الليبرالية. والبعث لا يؤمن ذلك.
أما قول العلمانيين الديمقراطيين من ذوي النوايا الحسنة بأن حزب البعث بريء من الجرائم التي ارتكبت بحق الشعب العراقي خلال حكمه وإلقائها جميعاً على عاتق صدام حسين وحده، وأنه يمكن الثقة بالبعثيين السابقين لأنهم علمانيون ويدعون للديمقراطية، فهذا الإدعاء، ومع احترامي لهم، هو في منتهى السذاجة والتبسيطية. كما ويروِّج البعثيون السابقون هذا الإدعاء بمنتهى الخبث والدهاء. لأن الحقيقة كما ذكرتها مراراً وتكراراً، أن حزب البعث هو الذي صنع صدام ولم يكن صدام هو من صنع حزب البعث. أما الإدعاء بأن الحزب كان هو الآخر ضحية صدام واستبداده، لأنه قتل عدداً من قادته، فهذا الصراع الدموي صفة ملازمة لأي حزب أيديولوجي شمولي، وهو لا يعني أن ضحايا صدام من البعثيين كانوا أبرياء وديمقراطيين. فهل نعتبر ناظم كزار مثلاً ديمقراطياً لأن قتله صدام حسين؟ كلا وألف كلا، إنهم جميعاً مجرمون، والفرق بينهم في الدرجة فقط.
ففي جميع الأحوال تبحث الأحزاب الفاشية عن الشخص المناسب لتجعل منه "القائد الضرورة" أو "الزعيم الملهم" ليقودها في كفاحها لتنفيذ أيديولوجيتها العنصرية. وقد وجدت النازية الألمانية هذا الفرد في شخص هتلر، والفاشية الإيطالية في شخص موسوليني، وحركة القومية العربية في شخص جمال عبدالناصر، وحزب البعث السوري في شخص حافظ الأسد ومن ثم في ابنه بشار الأسد. وعلى نفس الغرار صنع البعث العراقي من صدام حسين "القائد الضرورة"، ولو لم يكن صدام لكان غيره لا يقل شراسة ودموية منه. وهل هذا الإرهاب في العراق الذي ينفذه فلول البعث وحلفاؤهم من أنصار القاعدة هو بأمر من صدام؟ لقد انتهى صدام وبقي البعث وإرهابه. ومن هنا نعرف أن الإرهاب شرط ملازم لحزب البعث، سواءً كان في الحكم أو خارجه، بقيادة صدام أو أي بعثي آخر.
والسؤال الآخر هو: هل ستحقق هذه الحملة ضد المالكي في انحسار شعبيته؟ وهل سينصاع الشعب العراقي للابتزاز البعثي وحلفاء البعث ويتخلى عن مشروعه الديمقراطي ويجازف بعودة البعثيين؟ أعتقد أن هذا السيناريو مستحيل. فمن جهة أدرك الشعب العراقي الغاية من الاحتلال الإيراني لبئر 4 في الفكة، وكذلك الحملة ضده من قبل البعثيين السابقين والحاليين وتصاعد وتيرة الإرهاب لأغراض سياسية وانتخابية، ليس غير. وقد حاول خصوم المالكي من قبل خلق الكثير من المشاكل للمالكي مثل سحب وزرائهم من الحكومة على أمل إسقاطها، ففشلوا ونجح المالكي. ولن استبعد نجاح المالكي مرة أخرى في هذه المحاولات اليائسة للنيل من شعبيته. فالشعب العراقي عرف قواعد اللعبة والغرض منها.
لذلك أعتقد أنه بعد كل تلك الكوارث التي أنزلها البعثيون على الشعب العراقي خلال الأربعين عاماً، والإرهاب ما بعد سقوط نظامهم، وبعد أن ذاق الشعب الديمقراطية وعرف حرية التفكير والتعبير، بما فيها نقد أي مسؤول في الدولة وبمنتهى الحرية، وبعد كل ما تقدم، يمكن اعتبار البعث من المخلفات التي أكل الدهر عليها وشرب، وإني أراهن على السيد نوري المالكي كإسلامي معتدل يعد بدولة المواطنة والديمقراطية، أفضل بكثير من منح صوتي إلى علمانيين بعثيين سابقين يعدون بعودة البعث، وهذا ليس افتراء على أحد إذ صرح البعثي السابق السيد صالح المطلق، أن الانتخابات القادمة ستوصل أربعين بعثياً إلى البرلمان، وإذا ما نجح البعثيون في دخول البرلمان فعندها سنقرأ على الديمقراطية السلام. ولكن لإيماني العميق بحكمة الشعب فمن المستبعد فوز البعثيين وتحت أي غطاء تستروا، فالعاقل لا يلدغ من جحر مرتين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقال جدير بالقراءة
Iraq: The writing is on the wall, the US wants the Ba'ath party back
http://www.zcommunications.org/znet/viewArticle/23534 |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|