بقلم: القس رفعت فكري
عندما جاء السيد المسيح إلى عالمنا أرسلت السماء جمهرة من الملائكة النورانيين إلى ظلام عالمنا الدامس لتعلن لنا مجئ نور العالم, وكانت أجواق الملائكة تهتف منشدة بأعذب الأناشيد وأحلى الأغاريد , المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة , وكانت تسابيحها في قمة شجوتها ورقتها, فبدت الطبيعة في بيت لحم وكأنها في عنفوان قوتها, والحقول في ازدهار خضرتها, والزهور في ريعان زهوتها , وأشعة القمر في بهاء بهجتها , لقد أصبحت بيت لحم قرية شهيرة, فنغمات الملائكة الشجية تتردد فوق أجوائها , وأضواء النجوم اللامعة تتلألأ في سمائها, وأهازيج الميلاد العذبة ترن فوق تلالها, وأجراس البهجة تدق في كل أرجائها, لقد كان كل شئ في بيت لحم يرقص طرباً ابتهاجاً بمولد رئيس السلام , ولكن فجأة تبدل الحال وفي برهة من الزمن تغير اللحن , فالأجراس المتهللة بدأت تدق لحناً أسيفاً حزيناً , والعيون المتلألأة بالسعادة والحبور غمرتها الدموع, والنفوس الغارقة في البهجة والسرور بدأت تنوح في سجن الأحزان , لقد انطفأت شمعة السعادة وهي ما برحت في مهدها , وذبلت زهرة الفرحة وهي لا زالت في ريعانها , وتبدلت ترانيم السماء وحلت محلها أصوات النحيب والرثاء وكأنه قُضي على بيت لحم أن تكون مباهجها ومسراتها مشوبة بالكدر والغم , وأن تسيل دموعها وقت ابتساماتها , وأن تكون أشعة شروقها مظللة بأهداب ليلها , وأن يخيم ليل أشجانها ومراثيها على نهار أفراحها وأغانيها !!
لقد تحول الغناء إلى رثاء !! فياتري من الذي غير الأغنية إلى مرثية ؟!! ومن الذي حول نشيد الغناء إلى نشيج بكاء ؟!! هل ندمت السماء على أنها أرسلت أخبار الفرح للأرض فحولت الفرح إلى ترح؟!! كلا وألف كلا .. بل هو الإنسان الظالم الغشوم الذي يفسد دائما أخبار السماء –أخبار السلام- فقد أكل الغيظ قلب هيرودس الملك الطاغية فأطلق جلاديه في شوارع بيت لحم ليقتلوا أطفالها الأبرياء عساه أن يقتل الوريث الوحيد الذي خشي منه يوم ميلاده , فصار في كل بيت أشجان وفي كل شارع أحزان !!
لقد افتقر هيرودس إلى الاتزان في شخصيته مما جعله لا يملك سوى السيف الذي يغمسه في الدماء ليسطر به على صفحات التاريخ انتصاراته الدامية , فعملت القسوة عملها فيه فأشهرت شفرات سيوفها لتغمدها في حناجر الصبية الصغار بوحشية لم يألفها سكان الغابة فسبحت بيت لحم في أنهار من الدموع والدماء , والأمهات الثكالى ملأ عويلهن كل الأرجاء على فلذات أكبادهن الأبرياء , وبلغت صرخاتهن عنان السماء وتحققت نبوة إرمياء صوت سُمع في الرامة نوح وبكاء وعويل كثير , راحيل تبكي على أولادها وتأبى أن تتعزى لأنهم ليسوا بموجودين , لقد رثت الأمومة الحنونة موت الأبرياء وفجعت أفدح فجيعة عرفها التاريخ لخوف هذا الظالم من أن يحطم الطفل يسوع قوائم الضلال التي يقوم عليها عرشه !!
وما أشبه الليلة بالبارحة , ففي ليلة عيد الميلاد وبينما يحتفل المسيحيون بميلاد المخلص الوحيد الفريد يسوع المسيح, تأتي يد العنف والإرهاب لتمتد إلى مجموعة من المسيحيين الأبرياء وهم فرحون أمام الكنيسة في نجع حمادي , وهكذا تحول العيد إلى غم , وتحول الفرح إلى مأتم , وأصبحت الأغنية مرثية !!!
ما السبب ؟ !! لابد أن نقر أولا وبمنتهى الوضوح بأن السبب داخلي بنسبة 100 % ولا مجال هنا للمراوغة والزعم بأن هناك أياد خفية خارجية تعبث بأمن الوطن , فالمجرمون مصريون وهم مخالب لمجموعة من القطط تحمل الجنسية المصرية , وبدون أن نعلن الحقيقة بوضوح كامل لا يمكن أن نصل إلى حل أو نتيجة .
أيضا من المهم أن يكف البعض عما يرددونه بأن هذا الحادث هو نتيجة اغتصاب شاب مسيحي لفتاة مسلمة , فإن قصة الاغتصاب هي قصة فردية يعاقب مرتكبها أياً كان دينه أو عقيدته , أما أن يحدث عقاباً جماعياً للمسيحيين فهو أمر مرفوض ومن ثم فإن تبرير البعض لهذا العمل الإرهابي الإجرامي فهو تبرير سخيف لا مكان له الآن .
إن الإرهاب له أكثر من منبع , وبدون إغلاق منابع الإرهاب لا مخرج لنا من هذا الخندق المظلم الكئيب, ومن هذه المنابع الخطاب الديني الذي يعد من أقوى الخطابات تأثيراً , فالخطاب الديني لا يزال يدعو للتعصب ولكراهية الآخر الديني المغاير , لازال هناك من يحرضون ضد الآخر باعتباره كافراً ومشركاً ومن ثم فإن دمه حلال وكذلك ماله وعرضه وأرضه !!
هذا فضلاً عن المناهج التعليمية التي تحوي أشياء تدعو للتمييز ضد الآخر الديني , وما أكثر المرات التي طالب فيها الكثيرون بتغيير المناهج التعليمية لغرس ثقافة قبول الآخر في نفوس التلاميذ بدلاً من نشر ثقافة التعصب والكراهية والعنف .
والإعلام المصري لا يزال يقوم بأدوار غير حيادية , فالأحداث الدينية الأخيرة حدث لها تهوين مخل , فعن نفسي لم أعرف بما جرى في نجع حمادي عن طريق التليفزيون المصري , فلم أعرف ما يجري في بلدي إلا عندما تلقيت اتصالاً من قناة الجزيزة القطرية لأعلق على ما يحدث في صعيد مصر, ولم أتمكن من التعليق داخل الأستوديو نظراً لوجودي خارج القاهرة أيام العيد , وبينما كنت أتابع قناتي أغابي وسي تي في لأرى جموع المهنئين في الكاتدرائية المرقسية بالعباسية صباح يوم العيد لم أقرأ حتى ولا خبراً واحداً في شريط الأخبار , لماذا هذا التعتيم الإعلامي الواضح من جانب تليفزيون الدولة وتليفزيون الكنيسة؟!!!
هذا فضلاً عن إن صورة المسيحي في ذهنية معظم المسلمين تحتاج إلى تغيير , وهذا التغيير هو دور وسائل الإعلام سواء كانت مرئية أو مسموعة أو مقروءة .
وللموضوعية بقي أن أقول أن المسيحيين لا يزالوا متقوقعين داخل الكنيسة ولا يزالوا متعلقين بغيبيات أبعدتهم عن قضايا النضال الحقيقية , وكأنه أصبح أمراً مقصوداً للمسيحيين أن يكونوا تائهين في الأرض فاغرين أفواههم نحو السماء منتظرين معجزة أو حلاً بينما يدبر الأعداء في السر والخفاء ما يريدون فعله !! متى يستفيق المسيحيون من غفلتهم ؟ متى يستخدمون عقولهم ويفكرون بطريقة علمية وبمنهج علمي بدلاً من ترويجهم للخرافات ؟!! متى يفعلون كما فعل السود في أمريكا بقيادة الدكتور القس مارتن لوثر كينج ويناضلوا نضالاً حقيقياً سلمياً من أجل حل مشاكلهم وتحقيق مطالبهم ؟!!
لقد تحول العيد إلى مأتم , وتحولت الأغنية إلى مرثية , هل يريد المتطرفون أن يقولوا لنا انتبهوا .. لا فرحة بعد اليوم , لا بهجة بعد اليوم , ولا عيد بعد اليوم , أتمنى من قلبي أن تكون هذه المرة الأخيرة التي تتحول فيها الأغنية إلى مرثية !!
راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف – شبرا
refaatfikry@hotmail.com |