بقلم: كمال غبريال
لا شك أن إفلات الجناة من العقوبة في الجرائم التي ارتكبت سابقاً ضد الأقباط ، هو من أهم عوامل تكرار مثل هذه الأحداث، فسواء كان إفلاتهم راجعاً إلى تواطؤ من الأجهزة الرسمية كما يتصور كثيرون، أو كان يرجع إلى عدم مناسبة قانون الإجراءات الجنائية للتعامل مع مثل هذه الحوادث، بالإضافة بالطبع لما يسمى سياسة الموائمات، وتحاشي الدولة إغضاب تيار التعصب المتأسلم المسيطر على الشارع المصري، فإن النتيجة واحدة، وهي أن تصبح البلاد فوضى في غياب سيادة القانون، وغياب الردع لكل من تسول له نوازعه أياً كانت، بأن يرتكب ما شاء من جرائم، وهو مطمئن لغياب العقاب، ويصبح الأقباط هم "الحيطة الواطية"، التي يتسلى الغوغاء والمتعصبون بالتقافز عليها، وكأنهم يركبون المراجيح في نزهة ظريفة ومقدسة في آن!!
تعلو الأصوات الآن مطالبة بعقوبة رادعة لمرتكبي حادث مذبحة عيد الميلاد في نجع حمادي، وهذا ضروري، كما أنه من الضروري أيضاً الإتيان بمحرضي "مسجلين خطر محترفين" على ارتكاب جريمة طائفية، فاليد التي تمسك بالسكين هي التي تذبح، وليس السكين ذاته، الذي يمثله هؤلاء المجرمين. . كل هذا جميل وخطير وضروري. . لكن الأهم هو تأمين المستقبل. أن لا يتكرر ما حدث طوال أربعة عقود ماضية، من اعتداءات للغوغاء -وليس التنظيمات الإرهابية- على الأقباط. . فالتنظيمات الإرهابية قد قامت الدولة بالقضاء شبه التام عليها، أو على الأقل تقليم أظارفها وخلع أنيابها، وخرجت رموزها من السجون، لتلتحق بفيالق المروجين للعنصرية والمحرضين على الكراهية، جنباً لجنب مع منتسبي الدولة والعاملين في مختلف مؤسساتها الرسمية وشبه الرسمية.
الحادث الآن هي أن الجماهير العادية –المفترض أنها مسالمة وكادحة- هي التي تقوم بالهجمات الحارقة والدموية على إخوانهم في الوطن. . إن أرض مصر تنتج الآن الكراهية والتعصب، بدلاً من القطن والقمح والزهور، فأي دولة تلك وأي نظام، الذي يترك شعبه نهباً لمن يحولونه إلى قتلة وإرهابيين، ثم يسعى أو لا يسعى بعد ذلك لمطاردتهم بأجهزته الأمنية؟!!
أكاد أقول أن المجرمين الثلاثة المقبوض عليهم لارتكابهم مذبحة نجع حمادي، هم أيضاً ضحايا سياسة دولتنا الرشيدة، مثلهم مثل الشهداء الذين سقطوا، وإن اختلف الشكل ونوعية البشر!!. . فكما تتغاضى الدولة عن نشاط المحرضين على العنصرية والكراهية، حتى لو كانوا من رجال الحزب الوطني ووزارة الأوقاف أو سائر الوزارات الأخرى، وفي مقدمتها وزارة التربية والتعليم ووزارة الإعلام، فإنها أيضاً تتغاضى عن سيطرة البلطجية على كثير من المواقع، وخاصة في المدن والمراكز البعيدة عن العاصمة، فتشجعهم وغيرهم على احتراف السيطرة والبلطجة في الشارع، في وقت تضيق فيه فرص الرزق على أصحاب الحرف وحملة المؤهلات العلمية. . وقد لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فإن الأحاديث تدور عن استخدام الأجهزة للبلطجية لأداء مهام عديدة، علاوة على استخدامها من قبل شخصيات عديدة، بل وقرأنا في وسائل الإعلام عن أن مطران نجع حمادي كان يدفع مرتباً شهرياً للمجرم الرئيسي في مذبحة نجع حمادي!!
هذا الوضع المتردي والمتدهور إلى المنتهى، هو الذي يجعل من مصر مسرحاً لجرائم لا تنقطع، وفي مقدمتها بالطبع الجرائم العنصرية ضد الأقباط. . وأكثر ما يجب أن نخشاه، هو أن يتم الاكتفاء بصدور عقوبة رادعة على مجرمي مذبحة نجع حمادي الثلاثة، لكي يهدأ الضجيج، لنفاجأ بعد حين، قد يكون أياماً أو أسابيع أو حتى شهوراً، بحدوث جريمة أخرى مماثلة، وقد تكون أشد هولاً!!
هذا دور نشطاء المجتمع المدني ودعاة حقوق الإنسان. . دور كل مصري وطني شريف، سواء انتمى للأقلية أو الأغلبية، وسواء كان في صفوف الحكم أو المعارضة. . المهمة المقدسة هي التعاون مع الدولة والضغط عليها لإعادة ترتيب البيت المصري، الذي صار مهلهلاً بفعل الفساد والإهمال والتواطؤ!!
العلمانية هي الحل يا سادة. . ترتيب البيت المصري لابد وأن يكون على أسس علمية بحتة، تتيح لمجتمعنا -الذي تعفن في ركوده- ولوج العصر الحديث.. علمانية تلزم رجال الدين بالمكان الكريم اللائق بقداسة مهمتهم وهو دور العبادة، ليتولى العلماء والعلماء وحدهم، إعادة ترتيب وتنظيم حاياتنا وقوانينا وعلاقاتنا. . فبدون الحل العلماني سنظل نخوض في مستنقعات التخلف والفقر والتعصب والكراهية والعنصرية. . طالما نحن نرى الحياة بكل تنوعها وثرائها من ثقب واحد ضيق هو ثقب الدين، نرى كل شيء من خلاله، ونرى أخوة الوطن الوطن والإنسانية من خلاله، فسنظل على ما نحن فيه من تخلف وتشرذم، ويكون بداية طريق الإصلاح هو الكف عن خلط الأوراق، بالفصل ما بين السماوي والأرضي. . بين علاقة الفرد الخاصة بربه، وبين علاقته بالبشر، والتي يجب أن تكون على أسس مصلحية، على قاعدة المساواة ومعايير حقوق الإنسان.
ننتظر إذن من دولتنا ليس فقط أن توقع أقصى عقوبة قانونية على مرتكبي مذبحة نجع حمادي، وليس فقط أن تتبع أوكار المجرمين الذين تعرفهم أجهزتها الأمنية جيداً، لتمنع تكرار مثل هذه الاعتداءات قبل وقوعها، بل أيضاً أن تجتث من مختلف المواقع في المساجد والإعلام ووزارة التربية والتعليم ومقرراتها الدراسية، كل المحرضين على الكراهية والعنصرية، التي تفشت حتى في المجال الرياضي، فصار معلقي المباريات ومدرب الفريق الوطني لكرة القدم من دعاة العنصرية واللامساواة بين أبناء الوطن الواحد.
مصر- الإسكندرية
kghobrial@yahoo.com
|