قرأت فى الصحف المصرية عن أن مبعوث الرئيس الأمريكى (د.أحمد زويل) جاء إلى مصر فى ١٠ يناير ٢٠١٠، وقابل رئيس الوزراء وعددا من الوزراء والمجلس الأعلى للعلوم والتكنولوجيا، من أجل تنفيذ خطة الرئيس الأمريكى «باراك أوباما» للنهوض بالعلم والتعليم فى بلادنا، على أساس الخطبة التى ألقاها أوباما فى القاهرة فى ٤ يونيو ٢٠٠٩، ثم يعود المبعوث الأمريكى إلى واشنطن ليقدم تقريره إلى الرئيس الأمريكى؟ تذكرت ما قرأته فى الصحف فى طفولتى خلال الأربعينيات من القرن الماضى، عن زيارة مبعوث الحماية البريطانية إلى مصر، لتطوير التعليم فى مصر ثم يعود إلى لندن ليقدم تقريره إلى الرئيس الإنجليزى.
أعلن المبعوث الأمريكى د.أحمد زويل أن أساس «مبادرة أوباما» بناء قاعدة قوية للابتكار فى بلادنا وربطها بقوى السوق، وإنشاء صندوق يحقق الدعم المادى لتحقيق ذلك.
هل مشكلة التعليم والعلم فى مصر قلة الدعم المادى أم قلة التفكير النقدى الحر فى جميع المسلمات السياسية والدينية وغيرهما؟
ولم نعرف ما علاقة قوى السوق والتجارة بتطوير التعليم والفكر الإبداعى فى مصر؟ أى سوق؟ السوق الحرة القائمة على حرية الأقوى فى استغلال الأضعف دوليا ومحليا؟ رغم كراهيتى للتجارة والتجار منذ الطفولة فأنا لست ضد السوق بشرط أن تقوم على الأمانة والمساواة بين البائع والمشترى، وليس على استخدام القوة بدلا من العدل، والخداع بدلا من الصدق، من أجل الكسب والنهب ومضاعفة الأرباح.
كما أننى لست ضد التبادل العلمى والثقافى والفكرى بين البلاد، والاستفادة بخبرات العالم كله لتطوير العلم والتكنولوجيا فى بلادنا، وقد سافرت أنا نفسى إلى بلاد متعددة فى الغرب والشرق، لأتبادل التجارب والابداع الفكرى مع الآخرين من مختلف الثقافات والعلوم والفنون، لكن.
الإبداع الفكرى أو التعليم الصحيح يقوم على تبادل الخبرات والحوار والنقاش، وليس على تنفيذ خطة مسبقة أو مبادرة أو توجيهات السيد الرئيس المصرى أو الرئيس الأمريكى، أو الإنجليزى، أو غيرهم من الرؤساء فى الداخل أو الخارج، كنت أستاذة «للابداع والتمرد» لأكثر من ستة عشر عاما فى عدد من الجامعات خارج الوطن، تعلمت فيها من طلابى وطالباتى وعلمتهم، كان الحوار يدور بيننا دائما، وليس التلقين من طرف واحد، ليس التلقى فقط من طرف الأستاذ أو الأستاذة أو الرئيس أو الرئيسة.
السؤال الأول الأساسى هو: كيف يمكن للعقل المصرى أن يبدع فى أى مجال علمى أو فكرى أو فنى؟ لماذا يقوم التعليم فى بلادنا على التقليد والنقل وليس على الابتكار والنقد؟ لماذا لم نستطع خلال القرون الماضية ابتكار شىء فى مجال العلوم الطبيعية النظرية والتطبيقية وغيرهما؟
السؤال الثانى الأساسى: هل يمكن للاستعمار الخارجى أن يسعى إلى تطوير عقول سكان المستعمرات؟ إذا كانت العلاقة بينهما قائمة على الاستغلال والنهب تحت اسم الحماية أو الشراكة أو الصداقة أو غيرها من قاموس الكلمات الخادعة منذ الاستعمار البريطانى القديم حتى الاستعمار الأمريكى الجديد؟
وهل نذكر خطبة أوباما فى القاهرة ٤ يونيو ٢٠٠٩؟ ألم يكن هدفها الأساسى تدعيم المصالح المشتركة المادية التاريخية بين أمريكا وإسرائيل، وفتح الأسواق فى بلادنا للبضائع الأجنبية والنهب الاستعمارى عن طريق السوق، التى يسمونها حرة؟
لقد روعتنا الفتن الدينية البشعة المتكررة فى مصر منذ السبعينات، منذ عصر السادات، تزهق فيها أرواح الأبرياء، آخرها مذبحة نجع حمادى فى أول يناير ٢٠١٠، نهتز لها بضعة أيام ثم نخمد؟ حتى تحدث مذبحة جديدة فنهتز ثم نخمد.
والسؤال الأساسى هو: هل هناك علاقة بين الفتن الدينية أو تصاعد التيارات الدينية وبين تدهور التعليم والفن والعلم والسياسة وغيرها؟ هل تتعاون الحكومات المحلية مع الحكومات الاستعمارية الخارجية فى إشعال الفتن الدينية لتقسيمنا إلى طوائف متناحرة؟
هل تعاون رونالد ريجان مع أنور السادات مع التيارات الإسلامية والمسيحية واليهودية فى تحجيب عقولنا جميعا (وليس فقط وجوه نصف المجتمع) تحت اسم الحماية من الشيطان أو العودة إلى حظيرة الإيمان أو الشراكة مع القوى الاستعمارية؟ هل تتحقق الشراكة الحقيقية فى ظل القهر وعدم المساواة؟
لا أريد أن أعلق مشاكلنا كلها على شماعة الاستعمار الأجنبى وإعفاء المسؤولية المحلية، لا يمكن الفصل بين الاستغلال المحلى والدولى، لابد أن نحاكم أنفسنا شعبا وحكومة وأفرادا كما نحاسب الاستعمار الخارجى، علينا أن نرفع الحجاب المفروض على عقولنا، تحت مسميات مختلفة سياسية ودينية.
أول خطوة لرفع الحجاب عن العقل هى العودة إلى المنطق الواضح البسيط، هل يمكن لمن يريد استغلالك ونهبك أن يسعى إلى تعليمك كيف تقاوم النهب والاستغلال؟هل يمكن لمن يبث التفرقة على أساس الدين والجنس أن يسعى لتعليمك المساواة بصرف النظر عن الدين أو الجنس؟هل يمكن لمن يسلب حريتك أن يسعى لتعليمك الحرية؟
ما علاقة المساواة والعدل والحرية بتطوير التعليم والعلم وتشجيع الابداع الفكرى؟هل يمكن لعقل تربى على الاستبداد والظلم والتعصب لدين معين أن يفكر بحرية ويبدع فى أى مجال؟
فى سنوات الطفولة الأولى قبل دخول المدرسة كانت لى صديقات وأصدقاء من كل أطفال الجيران، مسلمين وأقباطاً ويهودا وغيرهم، كنا نلعب معا ونأكل معا بنات وأولادا دون تفرقة بيننا، حتى دخلنا المدرسة وبدأ المدرسون يقسموننا حسب نوع الدين ونوع الجنس، ونوع العائلة فقيرة أو غنية، هكذا بدأنا نتفرق وننقسم ونتناحر دفاعا عما سميت الهوية، من أنت؟
يقوم النظام التعليمى منذ الطفولة على التفرقة بين البشر على أساس الهوية الدينية والجنسية والطبقية والطائفية وغيرها، ينشأ الأطفال على هذه القيم العنصرية غير الإنسانية تحت أسماء لامعة براقة منها حب الوطن حب الله حب الأب والأم وأفراد العائلة، (أنا وأخويا على ابن عمى وأنا وابن عمى على الغريب)، تتغلب روابط الدم والقرابة على العدل والانسانية، (النظافة من الإيمان والوساخة من النسوان) تترسب النظرة الدونية للمرأة وتربط النساء بالقذارة والنجاسة، (إن فاتك الميرى اتمرغ فى ترابه) يتعلم الطفل الهوان والنفاق فى مواجهة الحكومة والسلطة، (العين لا ترتفع عن الحاجب) تترسب مفاهيم العبودية فى نفوس الأطفال، وعدم تغير العلاقة الثابتة بين السادة والعبيد، الأمثلة كثيرة عن قيم العبودية التى نتعلمها فى المدارس منذ الطفولة، بالاضافة إلى كثير من المقدسات الموروثة والتقاليد العتيقة من عصور الرق.
أول مرة سمعت فيها كلمة «عضمة زرقا» كانت من مدرس الدين، عرفت أنها تعنى صديقتى القبطية إيزيس، وأننى مسلمة سأدخل الجنة، وهى ستدخل النار وتشوى كالخروف فى جهنم الحمراء، أصبحت أحلم بصديقتى فى الليل وهى تحرق وأبكى لصراخها، ثم أصبحت أتفادى اللعب معها لأنها كافرة كما وصفها المدرس، ولا آكل معها لأن أكلها نجس، لم يحررنى من هذه الأفكار العنصرية البشعة إلا أمى قالت لى: إيزيس بنت ممتازة ولا يمكن تروح النار، لأن ما فيش نار ولا حاجة، هكذا حررتنى أمى من الخوف أيضا من نار الجحيم.
دعم أبى ما قالته أمى لى، وقال لى «لا ترددى ما تسمعين كالببغاء، شغلى عقلك، لأن العقل أساس كل شىء، هل يمكن لمبادرة الرئيس الأمريكى أوباما أن تدرك هذا الأساس الأول لتطوير التعليم والعلم والابتكار فى مصر؟ لماذا إذن لم يربط قاعدة الابتكار بالتربية فى الطفولة وليس بالسوق والتجارة وصندوق الدعم المادى؟
نقلا عن المصري اليوم |