بقلم: إبرام مقار
مشهد عبثي في مصرنا المحروسة ذلك الذي حدث ليلة عيد الميلاد المجيد بنجع حمادي، سيارة بلا أرقام بها ثلاثة أشخاص يكشفون وجوههم دون خوف ومعهم أسلحة آلية ويجوبون شوارع نجع حمادي ويتوقفون ثلاث مرات ويطلقون النيران على أفراد في دولة تعيش تحت قانون طوارئ منذ ثلاثين عامًا، وفي دولة بها أكثر من 2 مليون فرد أمن، ويعمل نصف شعبها كمرشدين للأمن على النصف الآخر، وفي منطقة متوترة أصلاً ومتوقع حدوث اعتداءات في هذه الليلة تحديدًا، فيُفترض أن يملأ الأمن المكان، وهذا لم يحدث لتجد أنك في دولة تعيش حالة من "التسيب".
ومشهد آخر ربما أيضًا لا تجده إلا في بلادنا، قاتل محترف يقتل شخصين عام 2007 ثم يدخل السجن ثم يخرجه أحد أعضاء البرلمان قبل أيام من تنفيذ عملية قتل جماعية وتنشر صحف قومية صورًا تجمع عضو البرلمان بالقاتل ويظل كل شيء على حالة ويبقي هذا الحزب في مكانه وأيضًا هذا العضو في مكانه لتجد أنك أمام حالة من "الفساد".
ثالثًا: يتم اعتقال أهالي وأقارب المجني عليه وصعقهم بالكهرباء مع التجويع لتشويه التحقيقات والضغط علي المؤسسة الكنسية لقبول المساومات والإقرار بمحاضر معدّه سلفًا لتجد أنك أمام حالة من "الظلم". وحينما يجتمع "التسيب" و"الفساد" و"الظلم" فأنت أمام حالة "الفوضى" وأول ضحايا أي فوضى هم الأقليات وبخاصة الأقليات الدينية في مجتمع يغلب عليه التطرف الديني.
ومع الفوضى لا أمل ولا رجاء في أمن أو قضاء أو إعلام أو سلطة بل يكون علي الأقلية أن تدافع عن نفسها بنفسها فهذا قدرها أن تناضل لتعيش إذا أرادت أن تعيش. وهناك عشرات الأقليات ناضلت بالأسلوب السلمي وحصلت على حقوقها والعالم يحترم من يدافع عن حقوقه ليعيش في كرامة.
نعلم تمامًا وضع الكنيسة القبطية وقيادتها بالنسبة للأقباط وبرغم اقتناعنا بعدم خلط الديني بالسياسي لأنه يُضعف الاثنين إلا إننا حالة ذهنية واجتماعية ربما تكون غير مسبوقة، فالكنيسة تشغل جزء كبير في عقل وقلب كل قبطي بل أكاد أجزم أنه كلما زاد الاضطهاد على الأقباط كلما اندفع الأقباط إلى الكنيسة أكثر، وهذا واقع علينا أن نتعايش معه ونحاول الاستفادة منه.
وفي وسط هذا المشهد العبثي وجدنا تحركًا محمودًا جدًا من القيادة الكنسية في الخارج فلم تخرج مظاهرة واحدة من عشرات المظاهرات القبطية التي اجتاحت العالم لم يتقدمها القيادات الكنسية ولهذا لم تخرج مظاهرة أقل من خمسة آلاف قبطي بل وتجاوزت مظاهرة نيويورك أمام الأمم المتحدة الخمسة عشر ألف قبطي بالرغم من خروجها في يوم عمل.
وهنا انصح القيادات الكنسية مادام ُقدر لها أن تقود شعبها ولو في الوقت الحالي أن تقرأ حياة الزعيم العظيم القس الأمريكي المناضل "مارتن لوثر كنج" الذي قاد الأمريكان من أصول افريقية الذين كانوا يعيشون وضع مذل مثل الأقباط تمامًا لتري كيف أسهمت بضع كلمات كانت تقولها أمه إليه في فكر هذا المناضل. فحينما كان يبكي من معاملة البيض الأمريكان له كانت تقول له "لا تدع هذا يؤثر عليك بل لا تدع هذا يجعلك تشعر أنك أقل من البيض فأنت لا تقل عن أي شخص آخر" وهنا يظهر دور الفكر والتربية فعلي الكنيسة أن تعلم أولادها أنهم ليسوا أقل من أي شخص آخر.
مارتن لوثر كنج كان يؤمن ان الصلاة جزء من النضال وليست كل النضال، وهو الذي طالب السود الأمريكان بثقافة "اللا عنف" وكان دائمًا يردد قول السيد المسيح له المجد "أحبوا أعدائكم وباركوا لاعنيكم وأحسنوا إلي مبغضيكم". ولكن محبة الأعداء لم تمنعه بأن يقود حملات مقاطعة ضد الحافلات التي تُطالبهم بان يترك السود أماكنهم لجلوس البيض.
محبة الأعداء لم تمنعه من المطالبة ليل نهار بحق الانتخاب حتى حصل عليه. محبة الأعداء لم تمنعه من وصف حكومة كنيدي بالعجز والإخفاق. لم تمنعه محبة الأعداء من قيادة المظاهرات. ولم يُقابل أبدًا ما يفعله بارتياح الأغلبية البيضاء أو السلطة فكان رجال الشرطة يفضون مظاهرات السود بالعصي والكلاب البوليسية، بل أنه في أحد المظاهرات وضع كنج الأطفال في مقدمة المظاهرات وأطلقت الشرطة الأمريكية الكلاب علي الأطفال لتنهشهم مما آثار حفيظة الملايين الذين تعاطفوا معه ومع شعبه فطلبت السلطة التفاوض، ولكن محبة الأعداء لم تمنع القس كنج من أن يعلن أنه لن يتفاوض إلا "تفاوض الأقوياء" وكان له ما أراد وحصل علي حقوق شعبه كاملة .
كنج وشعبه لم يكن طريقهم مفروشًا بالورود من الأغلبية التي كانت تكرههم فقد ألقىَ البيض عدة مرات قنابل علي تجمعات من ذوي الأصول الإفريقية وتعرض القس مارتن لوثر كنج لعملية اغتيال فاشلة قبل أن يتعرض لعملية اغتيال ناجحة عام 1968علي يد متعصب أبيض هو جيمس راي وكان عمر لوثر كنج وقتها فقط 39 عامًا.
وبعد أربعون عامًا ونتيجة نضال كنج وشعبه وصل لأول مرة في تاريخ أمريكا رئيس دولة من أصول افريقية هو الرئيس أوباما. القس مارتن لوثر كنج شاهدًا على أن وصايا السيد المسيح هي وصايا ايجابية تعطي مع يتبعها القوة والشجاعة وليس الضعف وصغر النفس والتلذذ بتعذيب الآخرين له بدعوى أنه الطريق للسماء. ومن كان الله معه فمن عليه هذا هو الإيمان فقط وليس غيره. |