بقلم: نبيل المقدس
أنا فاطمة ... بلغتُ من العمر الخمسين عاما .... لم أتزوج ... أسكن مع والدتي العجوز ... أ ُصبت بشلل في رجلي الشمال ... لعدم أخذ مصل الشلل وأنا صغيرة ... حيث كنتُ أعيشُ في إحدي قُري الصعيد بحُكم عمل والدي المتواضع ... وكان الإهمال وعدم الإهتمام منتشراً في وقتها , فلم يكن لي نصيب أن أتناول جُرعة مصل الشلل ... تقبلنا جميعنا الأمر الواقع ... وتعودتُ أن ألبس الحذاء الخاص بالمعوقين ... كنت جميلة جداً ... وشعري أصفر ... وعيوني زرقاء مثل لون عيون والدتي ... لكن إعاقتي علي المشي جعلني أنطوي علي نفسي ... كنتُ أنظرُ من وراء شُراعة البلكونة , لكي أراقب بنات الجيران وهن يلعبن الحِجلة ... كنت أتوقُ أن أشاركهم ... حتي جاء ميعاد رحيلنا من هذه القرية إلي القاهرة مرة واحدة بحُكم ترقية حصل عليها والدي , وذهبنا إلي القاهرة وأستقرينا في منطقة الظاهر ... شقة واسعة جداً ... كنتُ أتمني أن أكون في حالتي العادية لكي أمرح و أرمح فيها طولا وعرضا ... كنتُ وقتها قد بلغت الست سنوات ... ولأول مرة أتقابل مع مَنْ أصبحتْ حبيبتي وحياتي ... قابلتها علي سلم البيت في أول يوم الدراسة مع والدها ... كانت تقفز مِن علي السلم كالمُهر الصغير آتية من الدور الذي يعلو دورنا , وعندما رأتني توقفتْ وهدأتْ من سرعتها , عندما لمحت إعاقتي ... من أول نظرة أحسستُ أن توقفها عن الجري كان إحتراما لإعاقتي , مع أنها لم تجعلني ألاحظ أنها رأتني ... قالت لي : صباح الخير يا ؟؟؟ . لم أرد عليها لأنني تعودتُ أن لا أخالط أحداً لأنني كنت منعزلة تماما عن الناس ... رد عليّ والدها والذي حيّا والدتها التي كانت ترافقني في أول يوم دراسة ... قال لي والدها صباح الخير يا قمورة ... إنت إسمك إيه ؟ ردت عليه والدتي وقالت له : ( إسمها إيمان وأحنا ساكنين في الدور اللي فوق شقتكم علي طول) ... لاحظت والدتها أن (يوني فورم) المدرسة واحد أنا وإيمان ... فقالت لي : أشكر ربنا إننا وجدنا واحدة تِسلي إيمان في المدرسة ... هذه الكلمات أعطتني خطوة من الثقة في نفسي أنني سوف أكون لي عمل مفيد لإبنتها ... فأجبتها فورا أنا إسمي فاطيمة ... ضحكت والدتها وقالت لي عاشت الأسامي ياحبيبتي ... ولأول مرة أمد يدي إلي إيمان وتتشابك أيدينا ....
أصبحت طبيعية ... لا ينقصني شيء ... كانت دائما تأخذني معها إلي السينما , وكنا نستمتع بأفلام سعاد حسني وأحمد رمزي ... علمتني أشياء كثيرة كنت أجهلها ... وأستمرينا مع بعض حتي وصلنا إلي الثانوية العامة , ونجحنا , لكن وجدنا أن الكليات سوف تُـفرقنا عن بعض , فإخترنا أن تحوينا كلية واحدة وهي كلية العلوم جامعة عين شمس ... وهناك , شجعتني أن أواجه كيف أتعامل مع الطلبة والطالبات والمعيدين كأنني واحدة لا ينقصها شيئا ... كنا لا نفارق بعض إلا في مواعيد إجتماعاتها الروحية في الكنيسة .
وجاء اليوم الذي كنت لا أتصور أن يأتي أبداً ... ففي إحدي المرات خرجت إيمان هي ووالدتها للتسوق , وإذ عربة طائشة يقودها إحدي المستهترين يخطف مني حياتي وروح قلبي إيمــــان . في لحظة شعرت انني أصبحتُ بدون قيمة ... أحسست أنه عليّ أن ألحقها وأذهب معها ... وكنت فعلا علي وشك أن أهلك نفسي لكي أكون معها ... ساءت حالتي جداً من بعدها , وإنعزلت عن الدنيا مرة أخري ... كان هذا الحدث في الأجازة الصيفية ... وجاء ميعاد بداية الدراسة .... أخذت بعضي ودخلت الكلية ... وتوجهتْ مباشرة إلي إدارة شئون العاملين , لكي أسحب أوراقي ... وكأنني توهمت أن أوراقي هي كمان لا تستطيع أن تتحمل عدم وجود أوراقها , وأخذتهم ورجعت إلي البيت , وعلما أبي وأمي عما فعلته ... إقتنعا لأنهما يعلمان تماما أن بدون إيمــــــــان سوف لا أصلح .
بعدها بشهر واحد جاءتنا والدة الحبيبة إيمان لكي تخبرنا أنهم سوف يغادرون المنطقة إلي منطقة أخري ... لأنها لم تتحمل هذا البيت الذي كان شاهداً علي ولادة إيمان , وكان شاهداً أيضا ً علي فراقها ... ثم أكملت الكلام معي ... وقالت لي : لو أنتِ بِتْعِزِي إيمان إرجعي للكلية مرة أخري ... ثم ناولتني ورقتين قائلة لي ... عندما كنت أجمع إختصاصات إيمان وجدت هاتين الورقتين بين صفحات مفكرتها التي كانت تكتب تأملاتها الروحية وهي صغيرة في مدارس الأحد ... فقد علمتهم المدرسة أن علي كل واحدة تكتب رسالة إلي الرب قبل ما تنام تطلب فيه ما تريده ... أرجوكي يا حبيبتي فاطيمة إقرأي هاتين الورقتين وراجعي نفسك في موضوع إنسحابك من الكلية .... أخذتُ إحدي الورقتين وفردتها , وقرأت فيها الآتي : (يا رب يسوع خُـذ عمــــــــري بس إشفي فاطيمة .... خليها تتذوق اللعب زي ما أنا تذوقته .... تتذوق أن تمشي بحرية وبعدم شقاء مثلما أنا تذوقتُ ... تتذوق أن ينظر إليها الناس بإعجاب مثلما أنا تذوقتُ ... أرجوك يارب ... آمين . ) . حبيبتك إيمــــان صليب .
حضنتُ الورقة وأخذتُ بعضي وتوجهتُ إلي شئون الطلبة وأرجع أوراقي لأحقق آمال حبيبة العمر إيمـــــــــان .
الورقة موجودة الآن في برواز جميل أمامي في المكتب ... لا أفارقها أبداً ... فقد تخرجتُ من كلية العلوم , وكنتُ دائما أتكلم معها ... وعندما كنت اذاكر كنت أضع صورتها التي كانت تجمعنا أمامي علي المكتب علي أساس أنها معي .
تذكرتُ هذا الحدث في عيد ميلاد إيمـــــان وهي بتطفيء الشمع عن عمر يناهز 18 عاما ... فقد تزوجت أختي التي جاءت من بعدي , وطلبتُ منها أن تُسمي أول طفلة لها بإسم إيمــــــان , وأخذتها من والدتها وقمت برعايتها وتعليمها , حتي إنني توهمت أن التي عاشت معي منذ الصغر لم تذهب بعيدة عني ... بل هي أمامي أراعيها ... كما راعتني إيمـــــان صليب من قبل .
تعمدتُ أن أكتب هذا الحدث الحقيقي ... ليس من باب المواطنة ... أو مثالا ً للحياة العلمانية أو حتي الدينية ... بل هو لإحياء عُنصر الإنسانية والذي نكاد أن نفتقده.......!!!!!!!!!!!!!!
|