بقلم: محمد مسلم الحسيني
الديمقراطية سمة حضارية بارزة تتوق لها شعوب العالم وتتطلع إليها، لأنها الوسيلة الوحيدة التي تردع الحاكم الظالم الذي قد تسوّل له نفسه أن يتعامل مع شعبه بالحديد والنار. الديمقراطية باب مفتوح على مصراعيه لولوج مقومات الإنسانية من حرية وحقوق إنسان وحق تقرير المصير. إلاّ أن الديمقراطية ليست هبة وعطاءً يتكرم بها من يمتلكها على من يفتقدها ولا فريضة تفرضها قوة كبرى على قوة صغرى بالتهديد والوعيد أو بالسيطرة العسكرية وقوة السلاح. الديمقراطية هي حالة تفاعل مجتمعي ذاتي وخيار منطقي لعملية تطور وارتقاء تمر بها شعوب العالم وتنطلق ضمن إرادات تلقائية ووجدانية تتبرمج مع حركة الزمن ومع متطلبات المرحلة.
العالم المتحضر حينما لبس ثوب الديمقراطية كان قد تنعم بديمقراطية ناضجة ومدروسة حققت له الازدهار وجنبت شعوبه مضار الدكتاتورية المعروفة. إلاّ أن الدول المتحضرة كثيرًا ما وجدت نفسها محنطة في نسيجها الديمقراطي الناعم، خصوصًا عندما أدركت بأنها تتعامل مع أنظمة شمولية قد تعيق حرية حراكها الحضاري ضمن متطلبات المرحلة. هذا الأمر قد أوحى بدون شك بضرورة دفع عملية الديمقراطية في سائر بقاع العالم كي تتوافق القيم الإنسانية مع بعضها ويسهل التعامل والحوار بين الحضارات المتباينة. حقيقة أدركها الغرب وأحس بضرورتها وصار يتطلع إلى الوسائل والترتيبات الناجحة للوصول إلى الهدف وهو صناعة عالم ديمقراطي متطور يُقر بالقيم الإنسانية وبحقوق الإنسان من أجل أن تعم العدالة ومن ثم الاستقرار والأمان في كافة أركان العالم.
هذا الاستقرار سيجنب الغرب الكثير من المصاعب والمشكلات التي باتت تقض مضجعه وتجعله يعاني ويتألم بشكل أو بآخر. ومن أهم ما يعاني منه الغرب بسبب غياب الديمقراطية في دول العالم الثالث هو: الهجرة الشرعية وغير الشرعية المتزايدة لأبناء العالم الثالث إليه والتي أصبح من الصعب السيطرة عليها. كما أن سياسة القمع والظلم والاضطهاد التي تمارس في ظل حكومات شمولية، كثيرًا ما تخلق حالاتٍ من التطرف والفقر والتخلف في مجتمعاتها وهذا ما يخلق حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وفقدان هذا الاستقرار المُركَّب في تلك الدول يعتبر عقبة كبيرة في طريق الاستثمارات الغربية التي تبحث عن محيط هادىء ومستقر لأسواقها.
إدراك هذه الحقيقة لا يعني دائمًا حسن التعامل معها، فالأمريكيون قفزوا على ظهر هذه الحقيقة وسخَّروها لإراداتهم وطموحاتهم السياسية والاقتصادية. فتحت شعار بث الديمقراطية في دول العالم، توغلت الدبابات الأمريكية في العمق وسقطت القذائف بكل أنواعها وأشكالها على رؤوس من تريد أن تحررهم! ثم أنهم استهدفوا الأعداء وأبقوا على الأصدقاء في أجندة ديمقراطيتهم، مما جعل العالم يشكك في مصداقية الهدف بعدما كشف الأسلوب الأمريكي المتمنطق بكلمة "حق" ويُراد منها "باطلاً"!.
إن فشل الأمريكيين في مشروعهم الديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط والذي أسموه "مشروع الشرق الأوسط الكبير" أدى إلى تداعيات وآثار مختلفة، أهمها زعزعة ثقة شعوب المنطقة بأي مشروع ديمقراطي يأتي من الغرب حيث بدأت عملية نشر الديمقراطية بداية خاطئة وأساءت لهذا المفهوم بدلاً من أن تُحسن إليه!.
الأوربيون كانوا أكثر حكمة وتعقلاً من الأمريكيين في طريقة نشر الديمقراطية، فقد حاولوا نشرها بأساليب تختلف عن الأسلوب الأمريكي المتبع وذلك عن طريق تسليط ضغوط مستمرة على الحكام من أجل إجراء إصلاحات ديمقراطية أولية في مجتمعاتهم، قد تعتبر نواة لبناء مجتمع ديمقراطي في المستقبل.. إن نشر الديمقراطية بهذا الإسلوب ربما يكون بطيئًا بعض الشيء، إلاّ أنه أسلم نتائجَ وأقل خطرًا من التغيير الجذري الفوري المفاجىء الذي يفتقد إلى مرحلة انتقالية تحضيرية لبناء أسس ديمقراطية متينة.
بعد الإخفاق الأمريكي في أسلوب نشر الديمقراطية المختارة، توحدت الرؤى اليوم بين الأمريكيين والأوربيين في أسلوب وطريقة نشر الديمقراطية في بلدان العالم الثالث، حيث شطب مبدأ "استخدام القوة" واستخدم أسلوب الحث والتشجيع والتنبيه والضغط السياسي المستمر على الحكام وعلى الأقل في الوقت الحاضر. وهكذا.. فإن نشر الديمقراطية يبقى هدفًا غربيًا استراتيجيًا قائمًا رغم التغيير في الأسلوب والمنهج.
إلاّ أن المراقب لحركة الديمقراطية في بلداننا يستطيع أن يوجه بعض النصائح الهامة للغربيين الذين تستهويهم صناعة الديمقراطية في بلداننا والذين يبدو وكأنهم لم يدركوا بعد حقيقة الأمور وملابساتها! أهم ما ينصح به المراقب في هذا المجال هو: إن كان الهدف الحقيقي من وراء الديمقراطية هو الاستقرار والأمان والانتعاش الاقتصادي والعلمي والثقافي والاجتماعي وكذلك الشراكة وتبادل المنفعة والفائدة ومواكبة المستجدات ومعاصرة الزمن، فعليكم، أيها الغربيون، أن تدركوا بأن الديمقراطية قبل كل شيء هي حكم الشعب لنفسه. أي أنكم ستتعاملون في ظل الديمقراطية مع الشعوب وليس مع الحاكم، فإن كسبتم ود الحاكم الشمولي من قبل، فهذه عملية سهلة لا تحتاج إلى تحليل أو دراسة وتمحيص، لكن الصعوبة تكمن في ظل الديمقراطية والتي تحت مظلتها عليكم أن تكسبوا ود الشعوب... وهنا يكمن السر، لأن كسب ود الشعوب يعني غسل الذاكرة من كل المواقف والتصرفات التي أغاضت هذه الشعوب وجعلتها تحقد عليكم وتشمئز وتتألم منكم.
شعوبنا فقدت ثقتها فيكم منذ أمد طويل، يمتد إلى جذور مصيبة العرب والمسلمين العظمى وقضيتهم الكبرى ألا وهي "قضية فلسطين". الشعوب قد خاب أملها... ومواقفكم غير المنصفة إزاء هذا المحور الأساسي في حياة العرب وربما المسلمين قاطبة، واصطفافكم بخانة اللاعدل واللا إنصاف، قد ولّد ردة فعل قوية وعميقة في نفوس شعوبنا لا تزول ولا تنحسر إلاّ بفعل معاكس يختلف بالاتجاه ويتشابه بالتعجيل. الشعوب اليوم ساخطة عليكم، فكيف تريدون منها أن تتصافح وتتسامح وتتعاون وتنسجم معكم وبالأسلوب الذي تريدون؟! هذه الشعوب المبتئسة، بسبب فقدان العدالة في قضيتها، سوف تختار الطريق الذي لا يرضيكم إن توفرت لها الفرصة وأعلنت الديمقراطية الحقيقية في صفوفها.
إنَّ بقاء قضية العرب الكبرى في مكانها دون حراك سوف لن يجعل الديمقراطية المنشودة منتجة لكم. الديمقراطية وحدها لن تعالج قلب الأزمة ومعالجة الأعراض دون الأسباب وهم لا يوازي الحقيقة. الديمقراطية الناشئة على أرض محروقة سوف لن تثمر ولن تزدهر بل ستنبت أشواكًا توخز أيادي زرّاعها ومريديها. للديمقراطية تأريخ حديث في بلداننا ونتائجها واضحة للعيان.... فالذين كسبوا الأصوات في ظل الديمقراطية عندنا هم من رفعوا شعارات لا تروق لكم ولا تستهويكم!. انتصر الخميني على الشاه في إيران فصارت الدولة الإسلامية حينما أعلنت الديمقراطية! واكتسح حزب العدالة والتنمية التركي مقاعد البرلمان فصار رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وهم من المنتمين إلى هذا الحزب الإسلامي، في بداية الهرم السياسي التركي وفي وقت واحد! وفازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر في ظل الانتخابات الديمقراطية، كما فازت حماس في فلسطين والإسلاميون في العراق وتألق حزب الله في لبنان... كل ذلك كان بفضل الديمقراطية!
هل يروق لكم ما صنعته الديمقراطية في هذه البلدان أو ما قد ستصنعه في المستقبل في بلدان أخرى حينما تعلن الديمقراطية فيها؟ فأفكار ورؤى الإخوان المسلمين وما شابههم من أحزاب إسلامية، لا تروق لكم ولن تروق. ستجدون الإسلاميين واقفين على الأبواب التي ستطرقونها في كل مكان....! في مصر، في السعودية، في سوريا، في اليمن، في الصومال وفي غيرها.... فهل تريدون المزيد؟! لا أعتقد ذلك ولا أحد يعتقد ذلك أيضًا!. إذن.. إليس الأحرى بكم أن تتدارسوا الموقف جديًا في العمق وتتعاملوا ضمن المنطق والحقيقة، بدل أن تضيع جهودكم الحثيثة في هذا المنطلق في فضاء السطوح؟ أليس الأحرى بكم أن تدركوا وتتداركوا سر العلّة وتعالجوها من الجذور كي لا تحصل المضاعفات ولا يتحقق ما لا تريدون؟.
ما معنى أن تبثوا الديمقراطية بيننا وتكرهون نتائجها.... وما معنى أن تبنوا كيان الديمقراطية وهياكلها في رحابنا ثم تعودون وتهدمون كلّ ما بنيتم؟ أليس الأحرى بكم أن تنظموا ساحة الديمقراطية وتزيلوا عنها الشوائب والأشواك أولاً من خلال معالجاتكم لمواقع الخلل ومواضع العلل؟. أليس هدفكم الاستقرار والأمان من أجل حماية ساحاتكم ونمو اقتصادياتكم؟ أو ليس كسب ود الشعوب هو ضرورة لديمقراطياتكم؟. أو ليس العدل والإنصاف وإرجاع كل ذي حق حقه هي أسمى المبادىء والقيم في قواميس الديمقراطية؟. ألا تؤمنون بالديمقراطية الناضجة، وهل فاتكم بأن الديمقراطية غير الناضجة التي تولد في مجتمع قبل أوانها تكون محفوفة بالمهالك والمحن، وقد تنقلب محاسنها إلى مساوىء وعطاءاتها إلى بعثرة وإنهيار!؟. إن كنتم لا تدركون ذلك فادركوه اليوم وما عليكم إلاّ أن تنصفونا قبل أن "تدمقرطونا". |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|