رصيد ثقيل في بنك الإبداع
م أشرف بالاتصال المباشر بالدكتور لويس عوض. أقصد أنني لم أقترب منه شخصياً، كأن يتاح لي العمل تحت رئاسته أو مداومة الزيارة له في مكتبه مثل بعض أبناء جيلي والجيل السابق علي جيلنا. وهذه في الواقع خسارة كبيرة منيت بها. ويتجسد عمق هذه الخسارة كلما جلست إلي أحد ممن يعاشرونه وسمعت ما يحكونه عن دماثته وعن أستذته وعن ولعه بالموسيقي الكلاسيكية التي كان يحاضر أصدقاءه فيها فيما هم يستمعون إليها معه، وعن وعن وعن، حتي إن عطر شخصه ظل يحفزني علي التقليب دائماً في كتبه الكثيرة. فاتصالي بالدكتور لويس عوض - إذاً - كان ثقافياً، أدبياً، عبر كتبه ومقالاته في جريدة الأهرام. ولقد أحببته أعمق الحب. ولا أزال وسوف أظن أقدره حق قدره. وأعتبر أنني والكثيرين الكثيرين من مختلف الأجيال الكثير من بصمات الدكتور ليس عوض التي ليس لا حصر لها في الثقافة المصرية العربية المعاصرة.
إنه فرع من شجرة طه حسين والعقاد، يحمل نفس الخصائص ونفس القوة ونفس الخصوبة، ومثل رواده الأوائل كان شجرة في العلوم المعاصرة واتصاله بالثقافة الأوروبية تمكيناً لجذوره الوطنية أن تغوص في أرضها وتتشعب وتزداد رسوخاً.
والواقع أن الدكتور لويس عوض لم تنفصل جذوره الوطنية المصرية عن أرضها مهما بدا في الظاهر أنه »خواجة«، أو »خوجة«، ومهما رطن باللاوندي والسرياني فإن تحت هذه البدلة الإفرنجية الأنيقة وربطة العنق والمنظار الطبي »معلم« - بكسر الميم - مصري قديم، صعيدي قح، يرتدي الجلباب والشال والسروال أبو دكة ويبرم شارباً يقف عليه الصقر، ويمشي بعصا في النهار والليل صارم الملامح يرعي حقله ومواشيه يطرد عنها الذئاب والحشرات وقطاع الطرق، ويتدبر للمياه مضرراً ومروراً، ويتجهم وجهه حين الانفعال فيما قلبه متسامح منذ البداية.. وحتي هذه اللكنة الأعجمية في حديثه الذي لا يخلو من رطانة مبهمة علي أمثالنا غير المتعمقين في الآداب الأجنبية بلغاتها الأصلية، لم تفلح في إخفاء التطجين الصعيدي الذي لا يعرف الأشياء بغير مسمياتها الحقيقية علي اللسان الصعيدي المصري.
ليس يقبل المماراة أو الملاينة أو المداهنة أو المصانعة أو النفاق وإن بدا مجاملاً في بعض الأحيان في نظر البعض إنما هي بهجة المبدع حين يلتقي عملاً إبداعياً يوافق هواه أو يتماهي مع تطلعاته الفنية، حيث تشمله الفرحة والحماسة إمعاناً في الصدق مع النفس ومع الفن كما يراه ويفهمه. وإنك لمنتبه بالضرورة إلي ذلك الدفء المصري الصعيدي الذي يتدفق بحديثه ويتدفق به حديثه.
فالانتقال في المقال من فكرة إلي فكرة، من فقرة إلي فقرة، من مبحث إلي الذي يليه، من مرحلة إلي أخري، من فصل إلي فصل تراه ذلك المتحدث المصري البارع اللبق، الحكاء حتي النخاع، المشوِّق، سليل المصاطب الصعيدية وسيرها الشعبية وشاعرها بالرباب ومواويلها الحمراء وأحاديث سمرها ومفاوضات فض اشتباكات القوم ومجالس الصلح، حديثاً يفيض بالحكمة والكياسة مع سيولة السهل الممتنع، يحفل بتلك اللوازم التي يتميز بها الحديث المصري بجذب انتباه السامع وشحذ قدراته علي الاستيعاب والمتابعة من قبيل: واخد بالك؟ شفت إزاي؟.. إلخ.
حبل الحديث ليس ينقطع أبداً في كتابة لويس عوض . خيط الموضوع - وأنت تقرؤه - لا يختفي وإن تشعبت روافده واتسعت مساحة طرحه. ثم إن ذكاء المصريين القدماء ولماعية أذهانهم يتجلي في إشاراته الذكية التي يرسلها عبر حديثه كومضات مشرفة كأنها العلامات التي يدقها مهندس المساحة في أماكن متعددة ليجود بها أبعاده ومراميه. وإذا كانت كل مؤلفات الدكتور لويس عوض لها في نفوسنا مواقع حميمة جداً فإن أعماله الإبداعية علي وجه خاص تتمتع في نفوس الكثيرين من مواقع أكثر حميمية. هل أتاك حديث روايته الفذة المسماة: (العنقاء) أو تاريخ حسن ممقاح سكرتير الحزب الشيوعي المصري، ولعل تسميتها بالعنقاء له دخل كبير في كونها لم تتكرر حتي الآن، منه أو من غيره.
ومن المؤكد أنك سمعت عن ديوانه الشعري الفريد هو الآخر: (بلوتولاند)، الذي كتبه في وقت مبكر لعله أوائل أربعينيات القرن الماضي، علي طريقة الشعر الحديث، شعر التفعيلة، فهو إذاً علي قمة رواد الحركة الشعرية العربية الحديثة التي كان من نتاجها بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وأدونيس وعبد الصبور وحجازي وغيرهم. إنه ليأبي إلا أن يتفرد في كل جنس أدبي يجربه: الرواية والشعر والسيرة الذاتية و.. المسرح، من منا ينسي مسرحيته: (الراهن)، التي قدمت واحداً من أهم أبطال المقاومة في أدبنا الحديث.
لست أدري لماذا لا تُعرض هذه المسرحية المصرية القوية ولو في نطاق تجريبي؟ وهل ننسي تلك التجربة الإبداعية التي قدمها في كتابه: (المحاورات الجديدة)، الذي جمع فيه طائفة من الكتاب والأدباء والنقاد والصحفيين الذين يثيرون الضجيج واللغط والبلبلة في حياتنا الثقافية والأدبية والسياسية في ستينيات القرن الماضي، حيث جمع بينهم في موقف فني في المصيف، وألبسهم أقنعة جديدة بملامح مميزة، لكن محتواهم الثقافي والاجتماعي والسياسي هو هو حيث نتعرف نحن القراء علي شخصياتهم الحقيقية التي نعرفها سلفاً، ثم أدار بينهم حواراً فنياً في قالب فكاهي، في هزلية فنية بارعة مقتدرة قدم لويس عوض فكراً انتقادياً جاداً وخطيراً ينبغي أن نتفهمه ونتمعنه.
وهذا في الواقع أحد أساليب الدكتور لويس عوض حينما يشعر بأنه قد حوصر بالقيود الرقابية أو الدعاوي العصبية والحزبية وما إلي ذلك وغير ذلك من مظاهر التخلف الثقافي أو السياسي، حينئذ يلجأ إلي القالب الفكاهي كهذه الحوارية السالفة الذكر، أو إلي عصر من العصور التاريخية، المصرية العربية أو الغربية الأوروبية، ليبحث فيه عن جذور القضايا المعاصرة التي هو مهموم بها آنئذ، ليستخلص منها المداليل والإيحاءات والعبر، حتي لنري عصرنا الراهن يتكلم بأوضح عبارة. ذلك ما نراه ماثلاً - مثلاً - في كتبه عن عصر النهضة الأوروبية، وعن جمال الدين الأفغاني، وعن النديم، ويعقوب صنوع، وشيخ العرب همام، في إطار تاريخ الفكر المصري الحديث.
وقدرة الدكتور لويس عوض علي التأثير الفني تكاد تصل في فنه الروائي إلي قدرة التنويم المغناطيسي. ولهذا فإنني أعتبر الدكتور لويس عوض فناناً مبدعاً بالدرجة الأولي. ولو أنه ظل يكتب القصة والرواية والقصيدة والمسرحية لكان لأدبنا في هذه الأجناس الأدبية شأن آخر. والعجيب أنه حرص كثيراً علي إخفاء وجهه الإبداعي ثم ظهر به علي استحياء الهواة المتوجسين من هاجس النقض الفني. إنه كأستاذ كبير يفهم في الفن يري أن محاولاته الفنية تبدو بالقياس إلي ما يفهمه عن الفن ضعيفة المستوي. وذلك هاجس صحي، علي أن أعماله الإبداعية هذه - في تقديري علي الأقل - ستبقي له الرصيد الأثقل في تاريخ الأدب العربي الحديث.
نقلاً عن الوفد |