في مثل هذا اليوم منذ ثلاث سنوات (الجمعة 11 فبراير 2011) أعلن اللواء عمر سليمان بحزن شديد (تنحي) الرئيس مبارك عن الحكم)، وهو يوم تاريخي سنتوقف أمامه طويلا في مقبل الأيام. تنحي حسني مبارك هو نهاية مرحلة كاملة من العلاقة التي بدأها " أنور السادات " مع أمريكا منذ توليه الحكم عام 1971 وبالتحديد منذ أن اعتبر أن (99% من أوراق اللعب في يد أمريكا)، ولعبت الأقدار دورا في إداره (نائبه) مبارك 30 عاما من هذه العلاقة. أقول " الأقدار " لأن اغتيال السادات لم يكن سببا كافيا وحده لتولي مبارك الحكم (حتي لو كان الدستور المصري هكذا).
بعد ساعتين من حادث المنصة (6 أكتوبر 1981) اتصل مسئول أمريكي رفيع المستوي بالدكتور " بطرس غالي "،
وسأله سؤالا واحدا: ما هو تصورك لمستقبل اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، وهل سيكمل النائب المسيرة حتي النهاية (نريد الرد مكتوبا).. هذا ما سجله " غالي " في مذكراته، وحين أجاب بالإيجاب قال له المسئول الأمريكي: مبروك لمبارك وليعلن نبأ (اغتيال السادات) بنفسه! لا يوجد أي حديث لمبارك بعد تنحيه (2011) ومحاكمته إلا (ويلعن) أبو أمريكا وأمها باعتبارها المسئول الأول عن نهاية حكمه، وما يعرف بثورات الربيع العربي وحكم الإخوان وتدهور أوضاع منطقة الشرق الأوسط، وهو علي صواب في بعض هذه التسريبات (من حيث الشكل وليس المضمون)، لأن قصوره الذهني وضعف بصيرة من حوله من الهبيشة والفاسدين لم يمكنه (م) حتي اليوم من قراءة المشهد بشكل (أمين) ومعرفة (الأسباب الحقيقية) لتغير طبيعة العلاقات بين الولايات المتحدة والمنطقة برمتها (ومن بينها مصر).
أهمية هذا اليوم التاريخي لها علاقة بالمستقبل لا بالماضي، مستقبل مصر وإلي أين تتجه وكيف، لأن المشهد كله الآن (معبأ بالكراهية) ضد أمريكا، وهو يدار للأسف من خلال – نفس الأشخاص والأفكار والسياسات والتصريحات – التي تنتمي إلي (أسوأ) ما في هذا الماضي الذي يمتد إلي 52 عاما. بداية من تشويه سمعه (الكل) مرورا بنظرية المؤامرة الخارجية (الخبر الرئيسي اليوم فقط: 7 دول تتآمر علي مصر) وانتهاء بتكميم الأفواه والاعتقال وإقصاء الشباب والمعارضين (عاطل في باطل)! لم تعد مصر أو السعودية أو تركيا (أو " عبده مشتاق " في دويلة قطر) ولا حتي إسرائيل هي التي تدير مصالح أمريكا في المنطقة وإنما " روسيا " وتلك " معلومة " وليست تنظيرا أو تحليلا فوقيا، وكتبت مرارا تلميحا وتصريحا (في إيلاف) أن الرئيس " بوتين " يدير أشد الملفات الغربية تعقيدا في الشرق الأوسط من الملف النووي الإيرامي للملف السوري للصين وكوريا الشمالية وافغانستان، وحين هاجم " مرسي " نظام " بشار الأسد " قبل خلعه يوم 30 يونيو 2013، قال له (بوتين) بالحرف الواحد: سترحل أنت قبل نهاية العام وسيبقي (الأسد).. وقد أوفي بوعده وعهده! روسيا لم تعد (عدوا) للولايات المتحدة كما كان الحال في النصف الأخير من القرن العشرين، بل إن مفهوم " العدو " و" الحليف " تغير تماما الآن، وكل من يحاول إدارة عجلة التاريخ إلي الخلف ستفرمه هذه العجلة لأنها ببساطة سترجع عليه، فقد تغيرت العلاقت الدولية والتوازنات (والمصالح) بين القوي الكبري والدول الإقليمية في الشرق الأوسط،
وانتهت تماما الصيغة المبتكرة التي ابدعها السادات (أخطر داهية سياسي عربي) للعلاقة مع الولايات المتحدة في السبعينيات من القرن الماضي، التي خدمت امريكا في سقوط الاتحاد السوفييتي السابق عبر أفغانستان، وانهاء القومية العربية وتفتيت دولها وجيوشها من العراق لليبيا وسوريا.. والقصة تطول. لم يعد مقبولا في العقد الثاني من الألفية الثالثة – نتيجة للتخلف والفقر الشديد في الأفكار الملهمة – أن تدور في نفس الأطر والصيغ القديمة بينما العالم ينطلق للأمام (بسرعة الضوء) من النظام الرأسي للسلطة والعلاقات الدولية إلي النظام الأفقي بين الدول، ومن الدولة القومية ذات السيادة التي بدأت بمعاهدة " ويستفاليا " عام 1648) إلي (فيدرالية " اتحاد " المدن الكبري في حكم العالم)، ومن الديمقراطية الليبرالية كنظام سياسي (لحكم الشعب بالشعب وللشعب) إلي " الفيتو قراطية " أو (حق النقض الشعبي) في " ما بعد الديمقراطية " في العصر الرقمي! السادات – سواء أتفقنا أم اختلفنا معه – ابتكر صيغة جديدة منذ عام 1971 في العلاقة مع أمريكا، من العداء في العهد الناصري الذي انتهي رسميا بالهزيمة النكراء في 1967، إلي الصداقة (والتحالف) مع الولايات المتحدة وعربونها " اتفاقية السلام " مع اسرائيل عام 1979 التي استرد بها أرضه بالكامل. كل ما فعله " الخامل " مبارك عبر 30 سنة هو أنه استفاد من صيغه سلفه الذي لم يمهله القدر أن يجني ثمار أفكاره الملهمة وأغتيل في يوم عرسه برصاص الإسلاميين الذين يطرحون انفسم كبديل لحكم المنطقة – وبالشروط التي تريدها أمريكا – منذ عشرات السنين! لم يطور أبدا مبارك أية صيغ جديدة للعلاقة مع الولايات المتحدة – التي انتهي مفعولها بالفعل بعد عشر سنوات من حكمه 1991 - لصالح شعبه المطحون من الناحية الاقتصادية أو السياسية في الداخل والخارج، وأكتفي فقط بدور " السمسار " الطماع في المنطقة التي كانت تغلي بالمتغيرات والتحولات الدراماتيكية، ناهيك عن أنه (أفسد) بكل السبل كل فرص تطوير العلاقات الخارجية في أفريقا وآسيا وأوروبا،وأجهض كل محاولات التحول الديمقراطي في الداخل لصالح " التوريث " الذي جلب علي مصر الخراب والدمار والعار. أتصور إننا إذا لم نبتكر صيغة جديدة تطرح مشروعا مستقبليا تشارك به مصر في صنع العالم الجديد الذي يتشكل حولنا، ويحقق التنمية الاقتصادية (دخولنا في التحالفات الاقتصادية الإقليمية الجديدة في آسيا) لن تقوم لنا قائمة مرة أخري ولا ينفع فيها التغني بكراهية الغرب أو التغني للجيش (تسلم الأيادي)! همسة أخيرة في أذن (الملقن المسرحي) الذي يحكم ولا نراه: لن يصلح مصر من تسبب في خرابها.. لا أيتام مبارك والسادات ولا عبدالناصر والإخوان!
نقلا عن إيلاف |