بقلم / د.أحمد أبو مطر
يظل برنامج الاتجاه المعاكس الذي يقدمه الدكتور فيصل القاسم في قناة الجزيرة أشهر برنامج حواري عربي على الإطلاق، رغم مرور حوالي 13 عاما على تقديمه، دون أن تخبو أضواؤه أو يتراجع عدد مشاهديه ، وذلك مثبت من خلال رصد دقيق بغير المواصفات العربية التي تعطيك النتائج التي تريدها إذا دفعت ، مما يجعل مصداقية الاستفتاءات العربية التي تقوم بها العديد من المراكز متدنية للغاية. وسواء كنت من محبي البرنامج أو كارهيه إلا أنه يمكن القول أنه أوجد حراكا حواريا سلّط الضوء على طبيعة وعقلية المثقف العربي خاصة عندما يواجه الآخر ،وهذه الطبيعة دوما نتاج الثقافة والتربية السائدة التي تخرج منها هذا المثقف وذاك السياسي ، فمثلا نحن الكتاب والسياسيون والمثقفون العرب من الجنسيات القليلة التي تستعمل حركات اليدين مع اللسان عند الحديث ، وهي حركات في الغالب عصبية ناتجة عن انفعال زائد لا يخدم الفكرة بقدر ما ينفس عصبية المتحدث .
هنا في النرويج أول درس تعلمته من المؤسسات النرويجية أن أتدرب على وقف حركات اليدين أثناء الحديث ، ومحاولة عدم الصراخ العصبي كي أستطيع إيصال الفكرة التي أريد ها لعقل المستمع والمشاهد . والغريب أن الكثير من أصدقائي يلومونني على نسبة هدوئي العالية وعدم صراخي حتى في وجه من يترك موضوع النقاش، ويبدأ الردح والشتائم ضد الشخص ناسيا أنه جاء لمناقشة فكرة وتقديم رأي ، كما حصل معي في أكثر من حلقة في الاتجاه المعاكس خاصة التي كانت بتاريخ الأول من يناير عام 2002 مع السيد أبو خالد العملة أحد مسؤولي الانشقاق عن حركة فتح مع شريكه أبو موسى قبل أن يختلفا ويتبادلا أبشع الاتهامات التي لم يوجهوها لياسر عرفات عند انشقاقهما عام 1983 . في تلك الحلقة عندما لم يتمكن أبو خالد العملة من الرد على بعض الحقائق التي طرحتها توجه للدكتور فيصل القاسم قائلا بعصبية : من أي جئت لي بهذا الجاسوس العميل الخائن؟. العديد من الأصدقاء الذين تابعوا الحلقة لاموني لأنني لم أرد على شتائمه بالمثل، وكنت هادئا تاركا له المجال حتى أكمل حديثه، ثم رددت عليه مكررا الحقائق التي أثارته ولم يتمكن من الرد عليها بحقائق تنقضها وتبين خطأها.
وماذا عن حذاء الزيدي؟
حلقة البرنامج يوم الثلاثاء الثالث والعشرين من مارس 2009 ، كنت مشاركا فيها في ضيافة حذاء منتظر الزيدي ، مع الزميل الليبي أحمد مبارك الشاطر رئيس اتحاد الطلبة العرب المقيم في دمشق ، وهذه هي المرة الأولى التي أتقابل أو أتناقش معه . كنت في موقف الإدانة الواضحة الصريحة الحادة لتعبير الزيدي عن أفكاره عن طريق رمي حذائه على الرئيس الأمريكي جورج بوش ، حيث بدأت حديثي بوصفه (عملا همجيا ، عملا حقيرا ، عملا لا أخلاقيا ، لأنه كصحفي سلاحه اللسان والقلم فاستبدلهما بالحذاء ، وهذا لا يليق بنا ككتاب وصحفيين عرب ). وأوردت العديد من الأدلة على رأيي ، أخلاقية وإنسانية وإسلامية ، مستشهدا برأي فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي الذي سخر من فعلة الزيدي تلك في إحدى خطب الجمعة بمسجد من مساجد العاصمة القطرية الدوحة ، إذا قال ما معناه : ( نحن نرد عليهم بالأحذية أي أن قنابلنا أصبحت أحذية بينما هم أصبحت أحذيتهم قنابل ).
وعلى الرغم من تنبيهي الواضح في بداية حديثي أن هناك فرق بين نقد فعلة الزيدي وسياسات بوش ، لأن الحلقة كانت لمناقشة ما فعله الزيدي وليس سياسات جورج بوش ، إلا أن الزميل الأستاذ أحمد مبارك الشاطر ركّز غالبية حديثه على سياسات بوش التي في رأيه يستحق عليها الضرب بالحذاء ، وبالتالي فإن الزيدي بطل جديد يضاف لأبطال العرب الذين يستحقون التكريم والتمجيد وليس النقد والتعنيف والسجن !!.
مبالغة تنقضها الوقائع
أفاض الزميل الشاطر في المضايقات والتعذيب الذي تعرض له الزيدي في السجن ناسبا إياها لشهادات من عائلته، إلا أن أغلبها ليس صحيحا وأيضا بشهادة بعض أفراد عائلته، كما نبهني لذلك وكتب لي الباحث العراقي الدكتور عبد الخالق حسين : " أما قضية التعذيب للزيدي وما ذكره القاسم عن تصريحات المالكي أنه قال هذا المليون ونصف المليون الذين قتلوا بسبب الاحتلال أو قتلهم الأمريكان فهذا افتراء أو محض خيال أنتجه الإعلام العربي المهرج. الزيدي لم يتعرض للتعذيب حسب تصريحات والدته ، ولم تكسر يده أو ضلعه كما ادعى الإعلام المتحالف مع البعث...حسب إحصائيات الأمم المتحدة فعدد قتلى العراقيين خلال السنوات الست الماضية لا يتجاوز 400 ألف ، وهذا العدد بالطبع كارثة وكل نفس خسارة...علما أن 99 % من القتل حصل على أيدي الإرهابيين من البعثيين وحلفائهم القاعديين الذين يسمونهم المقاومة الشريفة ، فلماذا ينسبونه إلى الأمريكان، بينما العراقيون وخاصة العرب السنّة يتمنون بقاء القوات الأمريكية ". وهذا ما قلته عندما سألني الدكتور فيصل القاسم : هل أستطيع أن أدين الاحتلال الأمريكي للعراق؟ كان جوابي ما معناه : الاحتلال احتلال ولكن هناك عراقيون يتمنون بقاء الاحتلال فليتفق العراقيون على ضرورة خروج الاحتلال كي ندعمهم في ذلك.
ردود فعل متباينة
كتب لي الكاتب المعروف الأستاذ سلمان مصالحة من كتاب " الخط الأخضر " أو " عرب إسرائيل " أو " الفلسطينيون الذين بقوا متشبثين بأرضهم ووطنهم " يقول: ( لقد شاهدت البرنامج في الجزيرة مع هذا الشاطر الذي يمثل غوغائية هذا الأمة أفضل تمثيل ، مع أني أخالفك الرأي بشأن الحكم على ملقي الحذاء . لا أعتقد أنه يجب الزج به في السجن . إن من يطلب الزج بالسجن يضع نفسه في طرف غوغائيين آخرين من الجهة الأخرى. ربما أقول هذا الكلام لأني أعيش في مكان آخر. على كل حال تحياتي دائما والعقل ولي التوفيق ). بصراحة شدّني رأيه خاصة أنه وضعني في زاوية غوغائية مقابلة للزاوية الغوغائية التي وضع فيها الزميل الشاطر ، فكتبت له أسأله : إذا ما هو الحكم الذي يرى أنه مناسب للزيدي على فعلته تلك ، فكتب لي رأيا يستحق التأمل والمناقشة إذا قال: ( لا أختلف معك بشأن تصرف هذا الشخص الذي يدّعي أنه صحفي. الصحفي وظيفته أن يسأل الأسئلة الصعبة ليس إلا. تصرفه غوغائي بلا أدنى شك . عقابه كان يجب أن يكون الطرد من المؤسسة الصحفية التي يعمل فيها ). وهو رأي فيه من الصحة نسبة عالية خاصة في ظل ما أسماه الغوغائية التي تتحكم في غالبية الصحافة العربية.
الكاتب العراقي المأمون الهلالي ،
له رأي مختلف ويستحق التأمل أيضا ، إذ كتب لي يقول: ( لم يكن رأيك فيما فعله منتظر الزيدي منصفا في لقاء الجزيرة ، كما أنك وضعت كل من كتب عن منتظر في سلة واحدة وهذا غير صحيح . تذكر مقالتي التي أرسلتها إليك وبينت فيه أن فعل منتظر الزيدي خطأ عموما ، لكن الظروف القاهرة تخرج الناس عن طورهم وهذا في القديم والحديث وفي كل مكان. وأما استضافة السيد أحمد الشاطر ليكون مدافعا عن منتظر فهذه لم تكن موفقة من قناة الجزيرة ، وأنا معك في أن هذا الرجل من أتباع ثقافة الحذاء التي أرفضها واستهجنها ، أتمنى على جنابك الكريم ألا تعمم ، وأن تضع البعد النفسي أمام عينيك إذا أردت أن تنقد الذات العربية ). أنا أوافق الكاتب المأمون الهلالي في ضرورة أخذ البعد النفسي بعين الاعتبار، ولكن من هذا المنظور يستطيع كل من يرتكب خطأ أن يعيده للبعد النفسي أي أنه غير مسؤول مائة بالمائة لأن نفسيته اضطرته لهذه الفعلة. أما التعميم فأنا لا أتذكر لا في الحلقة ولا في كتاباتي أنني عممت حكمي على الجميع، لأنني أعرف أن هناك خاصة من الكتاب العراقيين من أيدّ فعلة الزيدي وهناك من أدانها بحدة أكثر من صراحة إدانتي لها.
من المسؤول عن الصراخ والخروج عن الهدوء ؟
العديد من الكتاب والمشاهدين يلومون مقدم البرنامج الدكتور فيصل القاسم لأنه يحرك الحوار بطريقة مثيرة وربما استفزازية ، تجعل نسبة الصراخ والتعرض للشخص بعيدا عن فكرة البرنامج . أنا شخصيا لا أضع اللوم على الدكتور فيصل القاسم لأن دوره هو تحريك النقاش بهذه الطريقة ليجعل المشارك مثارا ليعبر عن رأيه بصراحة دون لف أو دوران كما يفعل بعض المشاركين . أما من يلجأ للصراخ والعنف فهذه مسؤوليته الشخصية بدليل أنه ليس كل المشاركين يلجأون لهذه الطريقة ، وأعتقد أنّ حيوية البرنامج من هذا المنظور تجعله الأكثر مشاهدة في العالم العربي ، والعرب يقولون ( كل واحد ذنبو على جنبو ).
وغلطة الشاطر بألف ،
أما من جانبي فانا ألوم الزميل أحمد الشاطر على مسألتين :
الأولى : أنه كان ينبغي أن يخبرني أنه سيجيء للبرنامج يلبس الملابس الشعبية الليبية ، كنت عندئذ لتحقيق المساواة جئت بالملابس الفلوكلورية الفايكنجية النرويجية، بحكم أنني مواطن نرويجي من أصول فلسطينية كما يشاع.
الثانية : هي ضرورة إخباري مسبقا أنه سيلجأ في نهاية البرنامج لإخراج الحذاء يلوح به ، كنت عندئذ أعددت له الرد المناسب وهو ( قلم أطول من الحذاء الذي استعمله )، لأن سلاحي سيبقى دوما اللسان والقلم امتثالا لقول الله تعالى ( وادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ) ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم ( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) .
ويبقى ضرورة التأمل أن حذاء الزيدي أحدث من الحراك الثقافي والسياسي ما لم يحدثه غيره، وهذا دليل أكيد على الغرام العربي بثقافة الحذاء ، إذ لاحظت أن البطولة والمجد والعظمة التي اصبغها كتاب عرب على منتظر الزيدي لم يحظ بها صلاح الدين الأيوبي محرر القدس ، ونسبة الكرامة التي أعادها ذلك الحذاء للشخصية العربية لم تحدث إثر النصر الإلهي الأول لحزب الله في بيروت في تموز 2006 أو النصر الإلهي لحماس في غزة في يناير 2009 ...لذلك تحتاج هذه الأمة العربية لدراسة نفسية إذ يعيد لها الكرامة حذاء وفي الوقت نفسه يتهجم بعضنا على خصمه بالحذاء أو يصفه بأنه حذاء ، وآباء يضربون أطفالهم وأبناءهم بالحذاء أيضا ، مما جعل الحذاء لازمة من لوازم الشخصية العربية ، وهذه هي ( كندرة الملايين ) كما سماها رائد الشطناوي قائلا:
هاي كندرة الملاييني
اليساري واليميني
تسلم ايدك بالزيدي
حر وما ترضى الكيدي
ودعت الظالم بعز وشجاعة
صار العالم يتمنى يلبس كندرتك ساعة
ولا أستبعد أن تبدأ موضة جديدة في العالم العربي ، وهي إهداء الأحذية بدلا من الزهور ، وعندئذ علينا أن نتوقع ما هو غير متوقع..ولله في خلقة شؤؤن !!!.
ahmad64@hotmail.com
www.dr-abumatar.com |