CET 00:00:00 - 05/04/2009

مساحة رأي

بقلم / كمال غبريال
في استعراضنا للخطوط العريضة، التي تشكل علامات لمراحل تاريخ الأقباط الوطني، باختلاف معالمها وتأثيرها على وضع الأقباط ونشاطهم في المجال العام، وصلنا إلى بداية القرن العشرين، حيث حركة الاستقلال المصري عن انجلترا، بعد الحرب العالمية الأولى، وهي الحركة التي عرفت بثورة 1919، بقيادة سعد زغلول، والتي نشط فيها صفوة الأقباط، ورفعت الثورة شعار الصليب في حضن الهلال، وظهر فيها القمص سرجيوس الخطيب المفوه وسنيوت حنا، الذي فدى طعنة لسعد بذراعه، وكانت تلك بداية ما درج المؤرخون على تسميته بالحقبة الليبرالية من تاريخ مصر، والتي تواجد فيها الأقباط بقوة، ومنهم مكرم عبيد، وكثيرون غيره، تلك الفترة التي استمرت حتى اغتالها انقلاب عسكر يوليو.

ولكي لا نعطي الأمور أكثر من حجمها الحقيقي، وأيضاً لكي نجد تفسيراً لولادة جماعة الإخوان المسلمين المشئومة في قلب تلك الفترة (عام 1928)، وانتشارها منذ ذلك التاريخ انتشار النار في الهشيم، رغم اغتيال قائدها حسن البنا، علينا أن نحاول التدقيق في حقيقة ما يعتبره كثيرون "فترة ليبرالية"، ومعه حقيقة ما اعتدنا على تلقيبه بثورة 1919، فولادة جماعة الإخوان المسلمين لا ينبغي أن ينظر إليها، وكأنها ميكروب أصاب الجسد المصري فجأة. . فأي حركة أو دعوة ناجحة، لا ينبغي تبسيط توصيفها، بإسنادها إلى شخص منشئها أو الداعي لها، فأي داعية ناجح لابد وأن يعزى نجاحه هذا، إلى أنه جاء في الوقت المناسب، معبراً عن عما يكون الناس مهيئين له، فالبذار لا تنمو إلا إذا كانت التربة مناسبة لها،ومستعدة لقبولها. .

وإذا كان ما حدث هو نمو دعوة حسن البنا، لتصل إلى ما نشاهده الآن من توحشها، وسيطرتها على معظم الساحة المصرية، وفي المقابل انصراف الناس عن دعوة الليبرالية، إلى حد المثال الشهير، لسقوط رائد الليبرالية المصرية أحمد لطفي السيد في دائرته الانتخابية، لاتهامه بأنه ديموقراطي، وهتاف طلبة الجامعة ضد طه حسين، وزير المعارف وقتها، قائلين "يسقط الوزير الضرير"، مما اضطره أن يخرج إليهم في الشرفة، ليقول لهم: "أشكر الله الذي خلقني أعمى، كي لا أرى وجوهكم"، وأيضاً تكفير الشيخ على عبد الرازق، الذي أنكر ارتباط الدين الإسلامي بمسألة دولة الخلافة، وطرد الرجل من الأزهر، ومصادرة كتابه "الإسلام وأصول الحكم". . ليس الأمر بالطبع أمر حوادث أو مواقف فردية نستشهد بها، لكنه الانكسار العام للتوجه الليبرالي، حتى قبل أن تحل على البلاد لعنة حكم العسكر المغامرين.

تحرضنا تلك الوقائع وما ترتب عليها، على التشكك في توصيف ثورة 1919 وما تلاها، على أنها فترة ليبرالية، بل وعلى توصيف حركة سعد زغلول ورفاقه ذاتها، على أنها ثورة شعبية بكل معنى الكلمة. . فنجاح عملية جمع توقيعات لتوكيل سعد وزملائه، لا تعطي دلالة حقيقية على مشاركة كل المصريين والفلاحين في أنحاء مصر كما يتم تصوير الأمر، فالثورة كانت بحجم الصفوة المشاركة فيها في المدن الكبرى، وبالأخص في القاهرة، فقد توفر من الوعي ما يكفي، لالتفاف الجميع حول دعاة الاستقلال، وهذا بالتحديد نجاح جدير للثورة وفكرتها المحورية، لكن عموم الفلاحين، الذين هم الجسد الرئيسي للشعب المصري، فليس لنا أن ندعي أن وعيهم كان قد وصل إلى النضال من أجل استقلال، أو من أجل دعوة ليبرالية، ترفع شعار الهلال يحتضن الصليب، إنما كل ما في الأمر وراء نجاح الوفد، أن قياداته كانت من الإقطاعيين، وكان الفلاح المصري الذي يعمل في مزارعهم، مستعداً أن يوقع لهم على أي توكيلات يشاؤون، وأن ينتخب بعد ذلك للبرلمان، إما هؤلاء الملاك أنفسهم، أو من يشيرون لهم بانتخابهم.

لا نستهدف بما ذهبنا إليه هنا أن نقلل من شأن ثورة 1919، فهي محاولة جليلة لتحرير مصر من الحماية البريطانية، وهي أيضاً محاولة نبيلة لاستزراع الليبرالية في مصر، لكننا نهدف إلى تأمل حقائق الواقع والتاريخ، لكي نكون لها تصوراً أقرب ما يكون للواقعية، حتى لو كان ذلك التصور سيبتعد بنا عما كنا نتمناه، أو ما يحلو لنا أن نتصوره. . فالحقيقة هي أن محاولة تلك الصفوة النبيلة لتحديث مصر، لم تستطع تجاوز القشرة الخارجية، ممثلة في صفوة ونشطاء المدن والمراكز، لكنها لم تتجاوز ذلك إلى عمق الكتلة الجماهيرية المصرية، مع الأخذ في الاعتبار أن التيار اليساري بل والشيوعي، كان في تلك الفترة أيضاً في أوج ازدهاره، ويجوز القول أنه كان له النصيب الأكبر في استقطاب المثقفين والعمال والطلبة، وإن لم يستطع هو أيضاً اختراق الريف، وقد شارك الأقباط في التنظيمات اليسارية، كتفاً بكتف مع سائر إخوانهم في الوطن، ولم يكن من المتوقع أن يأخذ أحد منهم في اعتباره، في ذلك الزمن، أن الليبرالية وحدها هي الكفيلة بقبول واستيعاب الأقباط داخل النسيج المجتمعي المصري، نظراً لتضادها مع فكرة امتلاك أي طرف للحقيقة المطلقة، وهو الفكر الذي يدفع معتنقه لمحاولة استئصال كل مخالف من الساحة، يستوي في هذا الخلاف السياسي الأيديولوجي والخلاف الديني.

لو افترضنا أن زعمنا هذا صحيح، ونظنه كذلك، فعلينا أن نبحث السبب، فيما يعد إخفاقاً لهذه الصفوة الرائعة ولا شك من الليبراليين. . هنا نجد في طريقنا أكثر من عامل، قد يكون أحدها أو بعضها أو حتى كلها مجتمعة، هي سبب ما نزعمه من فشل وانتكاس لتيار الليبرالية الوليد:
· لم يكن توجه دعاة التنوير في ذلك العصر نحو الانفتاح والحداثة منطلقاً من استشعار رغبة وتيار عام شعبي يتوق للحرية، ولمغادرة عصور الظلام، والحلم بغد مختلف، أو حتى تذمر من حالة التخلف والقهر التي يرزحون فيها. . فقد كانت دعوة الاستنارة مستوردة تماماً، حيث أتى بها رواد التنوير، بعد سفرهم للخارج، واطلاعهم على العالم، المختلف تماماً عما يعرفون في وطنهم، سواء من حيث مظاهر الحضارة، أو من حيث طريقة الحياة والعادات والتقاليد

· أن يكون ما أتى به دعاة التنوير، قد اصطدم بالأفكار والتقاليد السائدة، والتي يعدها أصحابها مقدسة، ولم تجد الأفكار الجديدة قبولاً أو استعداداً للتجاوب معها، بعكس ما حدث مع دعوة حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان، والتي وجدت صداها لدى الجماهير، ورغم المناهضة الشديدة لها عبر عصور الحكم المختلفة، فإنها كانت تقوى يوماً بعد يوم، لدرجة كانت تغري الحكام باللعب بها على عواطف الجماهير، أو المزايدة عليها، كما هو حادث في أيامنا هذه.

· أن يكون رواد التنوير قد عجزوا أو تقاعسوا عن النزول برسالتهم إلى القاعدة الشعبية، واقتصرت دعوتهم وآليات نشرها، على حدود المتعلمين والصفوة في المدن، وأهملوا  الطبقات الدنيا والأرياف، والتي أصبحت فيما بعد المورد لقوى التخلف والتعصب، خاصة مع التطور الصناعي وتزايد الكثافة السكانية بالريف، والنزوح المستمر من الريف إلى المدن، لتكون النتيجة هو قيام هؤلاء بترييف المدينة، بدلاً من أن تقوم المدينة بتمدينهم، والأخذ بيدهم في طريق الحضارة، إذ قاموا هم بفرض قيمهم وأزيائهم على المدينة، بل وتمادوا في أيامنا هذه في ذات الاتجاه التراجعي، حتى صارت قيم وأزياء الريف القديمة، أكثر تحضراً من الواقع الراهن، الذي فرض الآن على كل من المدينة والريف.
·الاحتمال أوالنقطة الأخيرة، هو أن تكون عملية الإجهاض لمسيرة الحداثة، التي ترتبت على انقلاب عسكر يوليو، قد حرمت تيار التنوير والليبرالية، من فرصة ومهلة زمانية كان في أشد الحاجة إليها، لكي يحسن من أداء دعوته، ويكتشف بنفسه الأساليب المناسبة لواقع الحياة المصرية.
مازال لحديثنا ورحلتنا بقية نستكملها.
kghobrial@yahoo.com

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٥ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق