بقلم: د. نجيب جبرائيل
"منذ إنشاء المجلس الدولي لحقوق الإنسان لم يوجه اتهامات لدولة مثلما وجهها لمصر"، هكذا قالت إذاعة الـbbc في نشرتها الافتتاحية.
وهذا يعكس مدى جسامة انتهاك مصر لحقوق الإنسان وعدم احترامها للمواثيق والاتفاقيات الدولية.
ولطالما نادينا مرارًا وتكرارا أننا لم نكن نريد أن تضع مصر نفسها في حرج دولي أمام العالم، فلقد ذهب وفد مصر رفيع المستوى وقد ظن أن ما حمله في جعبته من ردود تقليدية كافية لإقناع المجتمع الدولي لغض نظرها عن الانتهاكات التي تحدث في مصر، وظن وفد مصر أن خصوصيات الدولة وتقاليدها وعادتها وأديانها يمكن أن تتغلب على المفاهيم الدولية أو أنها سبيلاً للانفكاك او الالتفاف حول المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي يتعين على مصر الالتزام بها، وكان لا بد لمصر أن تعرف جيدًا أنه سوف يأتي اليوم لتقف موقف المحاسبة الدولية، إذ من العبث أن نشتم الورد ولا نلتزم بنزع الشوك.
ومن معطيات القدر أن يأتي توقيت مناقشة الملف المصري -وهو مُعلن عنه منذ أكثر من ثمانية أشهر- عقب أحداث جسام تجسد وتعكس استمرارية انتهاكات حقوق الإنسان في مصر، فقد تزايد عدد المُعتقلين في مصر وقيل أنه يربو على ثلثمائة ألف مُعتقل بدون إجراءات قانونية، فهم اعتُقلوا في ظل قوانين استثنائية هو قانون الطوارئ المعمول به منذ أكثر من ثلاثون عامًا.
وأيضًا يأتِ مناقشة الملف المصري في ظل تصاعد انتهاكات حقوق الأقليات الدينية في مصر، ومنها اضطهاد الأقباط وعدم اعطائهم مشروعية بناء كنائسهم واستمرارية بناء الكنائس وترميمها وفقًا لقرارات استثنائية من رئيس الجمهورية ومن المحافظين، بعد موافقات أمنية شديدة التعقيد قد تستمر لسنوات لمجرد ترميم حائط آيل للسقوط في كنيسة أو ترميم دورة مياة، ناهيك عن التهميش الواضح لحقهم في ممارسة الحياة السياسية والنيابية واقصائهم عن بعض الوظائف الحساسة بالدولة، رغم توافر عناصر الكفاءة، ولكن بسبب الهوية الدينية والاعتداء على حياتهم وأموالهم والازدراء بديانتهم.
ولعل رصد تلك الحوادث المستمرة قد تابعتها جمعيات حقوق الإنسان، وكانت مذبحة نجع حمادي الأخيرة بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير كما يقولون، ناهيك عن انتهاكات حقوق البهائيين في الإعلان عن هويتهم، وكأن القدر وضع لمصر أن يُناقش ملفها الخاص بالحريات في أعقاب واستمرارية هذه الاحداث
ولعل من المخيب للآمال وعدم وضوح الرؤية ما تعلل به رئيس الوفد المصري في جنيف بأنه لا يمكن لأحد أن يؤثر على عاداتنا وتقاليدنا وخصوصيتنا تحت مظلة انتهاك أو عدم انتهاك حقوق الإنسان، كما لو كانت خصوصيات الشعوب وعاداتها هي ضد حقوق الإنسان وليست معها.
وحين اشتدت لهجة اللوم والإدانة لمصر وكان ليس هناك مفر من الاعتراف بالخطأ والانصياع لإرادة المجتمع الدولي، جاءت تصريحات الدكتور مفيد شهاب "رئيس الوفد المصري في مناقشات جنيف" والمنشورة في أهرام السبت محاولة للخروج من هذا النفق المظلم وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فقال "إن مصر تقدمت بعدد من المبادرات من أهمها مراجعة شاملة من القوانين المصرية ذات الصلة بحقوق الإنسان"، وأعتقد أن ذلك يستلزم تقريبًا من وجهة نظرنا لمراجعة كاملة لكافة القوانين المصرية ابتداءًا من قوانين التعليم في رياض الأطفال وانتهاءًا بمراجعة بل حذف المادة الثانية من الدستور.
وقال أيضًا أنه سوف يراجع معنى التعذيب في القانون لضمان اتساقة مع الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب، ونقول له أيضًا أنه يجب مراجعة كل قانون يمييز بين الرجل والمرأة ورفع التحفظات التي أوردتها مصر على بعض الاتفاقيات الدولية بحجة أنها تخالف الشريعة الإسلامية، لأننا وبحق إذا ابتغينا أن تكون قوانيننا متسقة مع الاتفاقيات الدولية فينبغي ألا نقبل جزء ونترك الآخر، لأنه إذا كان الدين شيئًا عظيم في ضمير وأخلاق الأمم فإن مهمة الدولة ليست أن تدخل مواطنيها النار أو الجنة، فلا نقبل دولة مؤمنين بل دولة مواطنين فهذا هو مفهوم الدولة المدنية.
ثم أضاف أيضًا أنه سوف تتم دراسة القانون المقترح لبناء دور العبادة وترسيمها، ولعل هذه العبارة ظلت الحكومة ترددها لأكثر من خمسة عشر عامًا وتحنث بوعودها عندما يطالب الأقباط بهذا القانون، ولكن هل تحنث الحكومة الآن بما وعدت به على لسان وزيرها ورئيس وفدها الدكتور مفيد شهاب إثر مطالبة المجتمع الدولي بضرورة إصدار قانون موحد لبناء دور العبادة؟
لعل الأيام القادمة سوف تثبت من هو الصادق ومن هو....!!
وأخيرًا وعد شهاب بإعداد قانون مكافحة الإرهاب بدلاً من قانون الطوارئ الذي يستغل الإنسان المصري أسوأ استغلال وتحت مظلته يُنتهك الحقوق والحريات وتُسلب الحرمات.
عمومًا, إن مصر الآن على المحك الدولي وليس المحلي، وأقول لحكومتنا.. كنت ترفضين لجنة الحريات الدينية الأمريكية المكونة من سبعة أفراد منذ أسابيع قليلة واليوم تواجهين أكثر من سبعة وأربعين دولة بعشرات الاتهامات، فهل ذلك أيضًا تدخل في سيادة مصر أم أن ذلك احترام وإعطاء فرصة لمصر أن تحترم سيادتها باحترامها للقانون الدولي والاتفاقيات الدولية؟
لكن لا بد من القول أنه ليس بالشعارات المعسولة والخروج المؤقت من المواقف المحرجة، لكن باتت الآن الضرورة ملزمة وحتمية لتغيير وتحسين ملف الحريات الدينية فى مصر طالما كانت مصر وحبنا لها خوفًا على مكانتها الدولية، مما يدفعني الآن إلى تحذير الحكومة من إهمال أو ترك هذا الملف أو حتى التسويف أو المماطلة أو إضاعة الوقت، لأن العواقب بعد ذلك لا يمكن أن تكون مجرد حرج أو لوم وإنما سوف تكون طبقًا لقواعد القانون الدولي الإنساني إجراءات أخرى تعرفها مصر جيدًا.
رئيس الاتحاد المصري لحقوق الإنسان
Nag_ilco@hotmail.com |