بقلم: لطيف شاكر
ورد لي ضمن رسالة من الكتب النفيسة التي صدرت بمصر خلال الشهور السابقة والذي يحرص احبائي بمصر أن يوافوني بها تباعًا كتابًا أعتبره من أفضل الكتب قاطبة، بل لا أغالي أن أصفه بإكليل الكتب وتاجها في الوقت الحالي، وعنوانه سجون العقل العربي للاستاذ النابغة والكاتب المستنير والمؤلف العالم طارق حجي، وقام سيادته بتشريح الجسم العربي المترهل وعقله الذي اختل، وعمد على كشف الجسد من قمة الرأس إلى إخمص القدم، واستطاع بذكاء ومهارة أن يشخّص أمراض الجسد وراح بجرأة يحدد حلولاً جازمة ولازمة لشفاء جسم الوطن وتجنيبه مستقبل سيئ يصعب علاجه كلما استفحلت فيه الأمراض المزمنة.
وشغفت بقراءة الكتاب بنهم شديد، ووجدت بين صفحاته ما يشدني أكثر إلى التركيز على موضوعاته المختلفة، وقد حرصت أن أشارك القارئ متعة قراءة هذا الكتاب والوقوف على مشاكل الوطن بعين الكاتب الفاحصة والحلول الواقعية والإيجابية التي طرحها سيادته.. فقمت فورًا بالاتصال بالسيد طارق حجي لاستئذانه في نشر بعض الفصول من مؤلفه الرائع, وكان سريعًا في رده وكريمًا في قبوله وهذه عادته دائمًا معي في حالات سابقة، فهو رجل مهذب ويحترم كل إنسان.. فله جزيل الشكر أصالة عن نفسي ونيابة عن القراء الأعزاء..
وفضّلت اختيار موضوعات تمس الأقباط، وأدهشني أمرًا هامًا، فبالرغم من أن الكتاب صدر قبل مذبحة نجع حمادي إلا ان كلماته تعبر عن شفافيته وكأنه استشف المستقبل قبل أن يصير حاضرًا، وأن ما حدث بنجع حمادي لايختلف كثيرًا عن أحداث الكشح الأولي والثانية، فكلها مجازر للأقباط وأسبابها واهية ومخزية وساذجة. وسأحرص على نقل النصوص كما وردت دون تصرف.. لنصل معًا إلى المعنى المراد لكاتبنا المحترم:
مقدمة لازمة ص 334
رغم أن مصر كانت كلها مسيحية لعدة قرون، ورغم أن المساهمة المصرية في بقاء العقيدة المسيحية بالشكل الحالي كانت المساهمة الكبرى، وبرغم أن أكثر من مليون مصري قد ماتوا دفاعًا عن إيمانهم المسيحي، فإن معظم المصريين المعاصرين -بما في ذلك المثقفين، وخاصة المثقفين- إما أنهم لايعرفون شيئًا على الإطلاق عن المسيحية وتاريخها في مصر أو أنهم على الأكثر يعرفون القليل جدًا عن كل ذلك, وتدلني خبرتي المعرفية والثقافية على أن الإنسان كما أنه دائمًا معرض لأن يكون عدو ما يجهل، فإنه يكون أيضًا أكثر قدرة على التعايش والتجاور المتحضرين مع الآخر عندما يكون مزودًا بمحصول معرفي واسع عن هذا الآخر، كان ذلك من جهة، ومن جهة أخرى تعاطفي مع الآخرين كمعلم من معالم تفكيري ووجداني، هما الدافع لي أن أغوص في عالم المسيحية كما فعلت في عوالم أخرى درستها وتعرفت على دقائقها، فأصبح من المستحيل أن توجد بيني وبينها علاقة رفض قائمة على التعصب والشعور بالتمييز في جانب والدولية في جانب آخر "فالمعرفية تمحو إمكانية ذلك كلية".
ويمكن تلخيص رحلتي المعرفية مع المسيحية بوجه عام والمسيحية في مصر بوجه خاص في المحطات الرئيسية:
الكتاب المقدس
رغم مطالعتي للكتاب المقدس (بعهديه) مرات عديدة منذ منتصف الستينات، إلا أنني أوليته عناية خاصة خلال السنوات العشر الأخيرة حيث طالعته عشرات المرات بدقة شديدة كما طالعت خلال هذه السنوات مئات الدراسات التي وضعها المتخصصون في الكتاب المقدس بمراكز بحث عالمية مرموقة، وبالذات الدراسات المتعمقة فيما يعرف بالمصدر الألوهيمي والمصدر اليهووي الأسفار الخمس الأولى من الكتاب المقدس، ثم تركيز أشد على الفترة التي تتعلق بالأنبياء من صموئيل إلى أنبياء الأسر البابلي مع عناية فائقة بعهد وشخصية وأسفار النبي الملك داود. وبنفس القدر كان اهتمامي بالعهد الجديد وبدراسات مرتبطة مثل كل ما نُشر من أبحاث عن لفائف البحر الميت ونجع حمادي.
تاريخ المسيحية
خلال السنوات العشر الماضية طالعت مئات المراجع عن تاريخ المسيحية بوجه عام وتاريخ المسيحية في مصر بوجه خاص، وهو ما قادني إلى منطقتين أخريين من مناطق البحث والدراسة، هما دراسات اللاهوت المسيحي بوجه عام ومواقف الكنيسة المصرية من هذه المسائل اللاهوتية ولا سيما حقبة الخلاف الكبير الأول (الآريوسية والنسطورية) والخلاف الكبير الثاني (حول الطبيعة الواحدة أو الثنائية للسيد المسيح لا سيما إبان بابوية الأنبا ديسقورس )... وثانيا موضوع "تاريخ البطاركة في مصر" حيث أوليت اهتمامًا كبيرًا بتاريخ البطاركة بوجه عام وبالمحطات الرئيسية في هذا الموضوع، ومن أبرزها عهود وشخصيات مثل البابا أثناسيوس الرسولي وكيرلس عمود الدين وديسقورس ثم في العصر الحديث البابا كيرلس الرابع، كما أوليت عناية فائقة بعهد البابا كيرلس الخامس.
الرهبنة والأديرة المصرية
وكان من الطبيعي أن تؤدي رحلة المعرفة بالمسيحية (سواء من زاوية الكتاب المقدس أو من زاوية تاريخ المسيحية ومواقف الكنيسة المصرية من المسائل اللاهوتية وتاريخ البطاركة في مصر) إلى التعرف على عالم رحب آخر هو عالم الرهبنة والرهبان والأديرة في مصر، وهو ما تطلب مطالعة عشرات المجلدات وزيارة عشرات الأديرة في شتى أنحاء مصر.
توضيح
هذه المقدمة هي من جهة الكلمة التي بدأت بها واحدة من محاضراتي عن (البعد القبطي في رقائق التكوين الثقافي المصري)، وهي هنا مقدمة لازمة لورقة استراتيجية قدمتها لمؤتمر آخر يبحث في الأصولية والتعصب، وهدفي من جمع النصين معًا هو أن أقول ببساطة أن الجهل هو أب التعصب.... كما أن التعصب هو الآفة التي من رحمها تخرج "المسألة الفبطية المتأزمة في مصر اليوم".
وبالتالي فإن المعرفة الواسعة من جهة هي الأداة الوحيدة لاستئصال آفة التعصب (ثقافيًا)، كما أن علاج أعراض المسألة القبطية يبقى أمرًا غير مجدي بدون التعامل مع المطبخ الذي أفرز هذه الأزمة، وأعني (مطبخ التعصب).
ونظرًا لأن هذه الكلمة والورقة التي ستأتي بعد هذه الكلمة كانتا قد القيتا في معهد علمي طالب المشاركين فيه الالتزام بسرية الندوة لاعتبارات منطقية للغاية، فإنني أنشر ما قلته أنا (لأنها بضاعتي الخاصة) ولا أنشر شيئًا آخر قيل في تلك الندوة، كما لا أشير لاسم المعهد المنظم للندوة ومكان وتاريخ الندوة.
ويقول سيادته في صفحة سابقة ص333 عن التعصب:
إن التعصب وعدم احترام حق الآخرين في الاختلاف هو من جهة من ملامح العقل البدوي الذي غزا بثقافته (أو ببعض ثقافته) الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية وتسلل لها من عدة طرق مثل أبناء هذه المجتمعات التي ألجأتها ظروف الحياة للعمل عند البدو، ومثل امتلاك البدو للمحطات الفضائية وكذلك للصحف والمجلات بفضل "البترودولار"، والذي جعل شيخ عربي جاهل من قادة الإعلام في بلد أحمد لطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى (يقف شعر رأسي وأنا أكتب تلك الحقيقة)، كما أن التعصب ينتقل من الطبقة القدوة -أي رموز المجتمع في كل المجالات-، وأخيرا فإن مؤسسة التعليم هي إما باذرة بذور التعصب في القول أو باذرة بذور السماحة والتآلف والتعايش مع الاختلاف والتعدد.
ملحوظة: يذكر المؤلف أن من بين مؤسسي كرسي الدراسات القبطية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة ثلاثة مسلمون هم طارق حجي والأمير طلال بن عبد العزيز وفؤاد سلطان وزير السياحة الأسبق.
من الموسوعة الحرة جاء الكثير جدًا عن د. طارق حجي ويمكن للقارئ الرجوع إليها، ولكن الذي يهمني هنا الآتي:
- كانت دراسته بكلية الحقوق بجامعة عين شمس بمصر خلال مرحلة الليسانس ثم بقسمي الدراسات العليا والدكتوراه بجامعة عين شمس وجامعة جينيف بسويسرا.
- حاضر بأقسام الدكتوراه في دراسات الشرق الأوسط بجامعات أكسفورد ولندن وبرينستون وكولومبيا وكاليفورنيا بيركلي وميرلاند وكولورادو في بريطانيا، والولايات المتحدة وجامعة روتردام الهولندية وجامعة طوكيو في اليابان.
- يمتلك واحدة من أكبر مجموعات الفنون التشكيلية في مصر (لفنّي التصوير والنحت) كما يمتلك واحدة من أكبر المكتبات الخاصة في العالم (32000 مجلد / كتاب).
- حسب كلمات البروفيسور Abraham Udovich (وهو يقدم "طارق حجي" لأساتذة معهد دراسات الشرق الأدنى بجامعة برينستون الأمريكية) فإن المشروع الفكري الذي يروج له.
وهنا يأخذني مؤهلات هذا الرجل إلى أمر هام جدًا جدًا وهو الحاصل على شهادات الدكتوراه من جامعة عين شمس وجامعة جنيف بسويسرا..
وهنا دعوني أوضح نقطة غاية الأهمية، لم يقرن طارق حجي أبدًا اسمه "بدال الدكتوراه"، التي يفتخر الكثير بأقل منها ومن أدنى الجامعات مستوى ويطنطن بها وكأنه يريد أن يمسك بمكبر صوت ويسير في الشوارع ليعلن للناس على مؤهله المبجل.
ومن خلال كتابات د. طارق حجي أستشف أن الشهادات العالية لا تُعطي للإنسان قيمة وقدرة وشرفًا، بل الإنسان هو الذي يعطي للشهادة قدرًا ويضفي عليها قيمة وشرفًا، أي ليست العبرة في الشهادة لنحترمها بل في صاحب الشهادة لنحترمه ونوقره ونهنئ الشهادة به. |