بقلم: د. عبدالخالق حسين
وَضعُ العراق فريد من نوعه، ففي هذا البلد "الأمين" وحده دون غيره يستطيع الإنسان أن يكون نائباً لرئيس الجمهورية، أو وزيراً في الحكومة، وفي نفس الوقت يتهجم على السلطة، ويطرح نفسه في الندوات واللقاءات مع العراقيين وغير العراقيين، في الداخل والخارج، بأنه معارض للحكومة، ويبرئ نفسه عن التقصير. يعني (رِجِل مع السلطة ورِجِل مع المعارضة بل وحتى مع الإرهاب). وأحسن مثال على ذلك هو السيد طارق الهاشمي، نائب رئيس الجمهورية، حيث يستطيع سيادته توظيف صفته الرسمية في الإستفادة من السفارة العراقية في لندن لتتهيِّئ له لقاءً مع الجالية العراقية، ولكنه عندما يتم اللقاء، وبشهادة الدكتور رشيد الخيون (1)، وبدلاً من أن يمثل العراق في ذلك اللقاء، اختار الهاشمي أن "يقدم نفسه، من خلال حديثه، كمعارض، وليس أحد أقطاب المؤسسة الحكومية، ومن الفاعلين فيها..." وكما يضيف الدكتور رشيد: "أن نائب الرئيس أكثر المسؤولين دراية بما فعله النَّظام السابق، ... وما فعلته آلة ذلك النَّظام، لذا يصعب الحديث عن الخراب الحالي من دون الإشارة إلى الكبائر السابقة". إلا السيد النائب وكعادته في معظم أحاديثه ولقاءاته حمَّل النظام الحالي وحده مسؤولية كل هذا الخراب الذي حل بالعراق. بل وفي محاضرة سابقة له في اسطنبول، راح الهاشمي يذرف الدموع على دولة صدام حسين ويكيل اللعنات على من شارك في إسقاطها.
والهاشمي ليس الوحيد في هذا الموقف المزدوج، مشارك في السلطة ومعارض لها، بل وحتى وزير الداخلية السيد جواد البولاني صرح مرة عن تصاعد موجة الإرهاب، فألقى المسؤولية على رئيس الوزراء وحده لأنه هو القائد العام للقوات المسلحة!! وبرأ نفسه من أي تقصير. وليس هذا فحسب، بل وفي العراق يستطيع الإنسان أن يكون وزيراً وفي نفس الوقت يقوم بعمليات إرهابية فيقتل العراقيين كما حصل في حالة أسعد الهاشمي، وزير الثقافة السابق، وابن شقيقة طارق الهاشمي، والهارب من وجه العدالة لأنه محكوم عليه بجريمة قتل نجلي النائب العراقي السيد مثال الآلوسي رئيس حزب الأمة.
لا نريد هنا أن ندافع أو نتهجم على أحد، سواءً كان رئيساً للوزراء، أو وزيراً أو أياً كان موقعه في الحكومة. ولكن وباعتراف الجميع نعرف أن الحكومة العراقية الحالية هي حكومة إئتلافية تضم وزراء من خمسة إئتلافات كبيرة الممثلة لمعظم مكونات الشعب العراقي، المشاركة التي لا مناص منها لأن عهد الإستحواذ على السلطة من قبل فئة واحدة قد ولى وإلى الأبد، وفي الظروف الراهنة ليس بإمكان حزب واحد أن يضم في صفوفه ممثلين عن جميع مكونات الشعب، لذا ففي هذه الحالة وإلى أن تنضج الديمقراطية، ومعها الأحزاب السياسية، فلا بد من هذه المشاركة والتي يسمونها "المحاصصة" قبحها الله!! ودون أن يطرحوا البديل العملي الممكن في هذه الظروف لإرضاء الجميع.
ففي هذه الحكومة الإئتلافية ولأول مرة في تاريخ العراق، ليس بإمكان رئيس الوزراء تعيين أو إقالة حتى موظف بسيط في الدولة، ناهيك عن وزير. وهذا يعني أن مسؤولية نجاح الحكومة وفشلها في أدائها يجب أن تقع على عاتق جميع المشاركين في السلطة الإئتلافية وليس على عاتق رئيس الوزراء وحده. أما وأن يدعي المشارك في السلطة نصيبه في النجاح ويبرئ نفسه من الفشل في حفظ الأمن وتقديم الخدمات فإنها حقاً لقسمة ضيزى!!! وتهرب من المسؤولية وعذر غير مقبول ولا معقول ولا يتقبله أي منصف يتمتع بعقل سليم وضمير حي.
ولكن من المؤسف حقاً أن ينجح هؤلاء المشاركون في السلطة في اختزال السلطة في شخص رئيس الوزراء وحده وتحميله مسؤولية فشلهم في أداء مهماتهم، والادعاء بأنهم معارضون للسلطة لا مشاركين فيها. فإذا كان إدعاؤهم صحيحاً، وأن كل شيء بيد رئيس الوزراء وحده، ولا يلتزم بتعليمات وزرائه، ففي هذه الحالة كان على الوزير الهمام أن يستقيل احتجاجاً، ليثبت لنا براءته من المسؤولية أمام الشعب وبذلك يحافظ على مكانته وماء وجهه ومصداقيته قولاً وفعلاً. ولكن الذي حصل أن بقي هؤلاء الوزراء الفاشلون متمسكين بأظافرهم وأسنانهم بمناصبهم الوزارية لما تدره عليهم من منافع وما تحققه لهم من مكانة وامتيازات، وفي نفس الوقت يبرئون أنفسهم من مسؤوليات التقصير في واجباتهم.
إن هذه الإزدواجية في مواقف بعض المسؤولين العراقيين ناتجة عن حالة شاذة ابتلى بها العراق وحده دون غيره في العالم، وهو إرث تاريخي بغيض. إذ كما ذكرت في مقال سابق لي بعنوان (في نقد السلطة ) أن تراكمات مظالم الحكومات المتعاقبة عبر التاريخ، جعلت السلطة وأية سلطة كانت، بغيضة لدى الشعب يجب معارضتها والتهجم عليها بغض النظر إن كانت هذه السلطة جيدة أو سيئة، ولهذا ما أن يتورط أي كاتب في قول الحقيقة إذا كانت في صالح السلطة حتى وتنهال عليه تهمة الانتهازية، واعتباره من مثقفي السلطة. ولهذا نرى حتى المشارك في السلطة بمنصب وزير أو أعلى، يطرح نفسه كمعارض. وهذا لعمري انتهازية صريحة وضحك على الذقون، الغرض منه الاستفادة من الطرفين، السلطة والمعارضة. ومما يجدر ذكره بهذا الصدد، أن زار السيد طارق الهاشمي، معتقلاً يضم المتهمين بالإرهاب، فأبدى تعاطفه الشديد معهم، وواساهم بقوله أن حالهم في المعتقل أفضل من حاله هو كنائب لرئيس الجمهورية، وحال غيره خارج المعتقل. فهل هناك تحريض على السلطة والوقوف إلى جانب المتهمين بالإرهاب أكثر من ذلك؟
حول هيئة المساءلة والعدالة
هناك حملة ضارية من قبل البعض لأبلسة "هيئة المساءلة والعدالة" وإظهارها وكأنها هي وحدها المسؤولة عن كل الشرور التي ابتلي بها العراق منذ سقوط حكم البعث الفاشي وإلى الآن، وأن السبب الوحيد لهذا الإرهاب ونقص الخدمات هو إبعاد البعثيين عن المشاركة في السلطة، والحل الوحيد لهذه الأزمة هو في مشاركتهم في العملية السياسية. أعتقد أن هذا الكلام غيردقيق للأسباب التالية:
أولاً، إن إبعاد بعض البعثيين من أمثال ظافر العاني وصالح المطلك عن المشاركة في الانتخابات، لم يتم إلا مؤخراً، حيث كان هذان الشخصان نائبين في البرلمان طيلة الأعوام الأربعة الماضية، ومع ذلك كان الإرهاب البعثي القاعدي على أشده.
ثانياً، يشارك في هذه الانتخابات 6172 مرشحا يمثلون 165 كياناً سياسياً ينتمون إلى 12 ائتلافاً انتخابياً لاختيار 325 نائبا في البرلمان الجديد، أي بمعدل 20 مرشحاً يتنافسون على كل كل مقعد، ولم يتم إبعاد أكثر من 145 مرشحاً من قبل الهيئة التمييزية من مجموع 177 مرشحاً مبعداً من قبل مفوضية الانتخابات العليا والذين اعترضوا على إبعادهم ،ووافقت الهيئة على طعون 26 منهم فقط. أما الباقي من مجموع 511 المبعدين في أول الأمر، فلم يقدموا أي طعن على قرار إبعادهم وتم تبديلهم من قبل كتلهم بمرشحين آخرين، وهو دليل على صدق المعلومات التي قدمتها هيئة المساءلة والعدالة.
ثالثاً، والجدير بالذكر أن الكتلة "العراقية" التي يقودها السيد إياد علاوي تضم عدداً كبيراً من البعثيين السابقين ودون أن يتم إبعادهم أو يعترض عليهم أحد. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا يعتمد نجاح أو فشل الانتخابات على الـ 145 بعثي الذين تم إبعادهم من قبل الهيئة التمييزية؟ ولكن الغريب في الأمر أن ظهر علينا عدد من الكتاب الديمقراطيين فجأة صار البعثيون في نظرهم رمزاً للديمقراطية، ومشاركتهم في الانتخابات الشرط الأساسي لمصداقيتها وتكاملها وإلا فهي ديمقراطية ناقصة ومزيفة!! ونحن إذ نسأل: هل حقاً يؤمن البعثيون بالديمقراطية لكي نأخذهم رمزاً لها؟ عجيب والله أمر هؤلاء الأخوة سامحهم الله في الدنيا والآخرة.
رابعاً، خلافاً لإصرار البعض، نؤكد أن إبعاد البعثيين مسألة قانونية وليست سياسية، تتعلق بمادة دستورية وهي المادة السابعة، ولا علاقة له بأي سبب آخر، أما إذا فرح خصومهم السياسيون بإبعادهم فهذا تحصيل حاصل ولا يعني أن إبعادهم كان غير دستوري. وكما ذكرت سابقاً، ففي حالة عدم الالتزام بالدستور، فإن الهيئة التمييزية، وهي هيئة قانونية قضائية بمثابة محكمة التمييز، تضع سابقة خطيرة في مخالفة الدستور.
خامساً وأخيراً، واعتماداً على قانون هيئة المساءلة والعدالة، وكما صرح السيد الشامي أحد أعضاء الهيئة في لقاء صحفي (الرابط أدناه) (2)، نؤكد مرة أخرى، أن هذه الهيئة هي قانونية حسب قرار المحكمة الدستورية، وهي غير مخولة في إبعاد أحد، بل وظيفتها معلوماتية فقط، حيث يتوفر لديها بنك هائل من المعلومات عن العراقيين بمن فيهم البعثيون، حصلت عليها من دوائر المخابرات البعثية، وظيفة هذه الهيئة تجهيز المؤسسات الحكومية الحالية ومنها المفوضية العليا للانتخابات، بالمعلومات عند الطلب عن المرشحين للانتخابات النيابية وغيرها أو لأي منصب حكومي آخر. ولهذا فمن الخطأ إلقاء اللوم على هيئة المساءلة في إبعاد البعثيين.
مردود الحملات السلبية
وبالعودة إلى الصراع بين الكتل السياسية وتبادل التهم فيما بينها بالعمالة لهذه الجهة أو تلك، نقول أن الكتلة السياسية المخلصة للشعب العراقي والواثقة من نفسها، هي تلك التي تقدم برنامجاً إنتخابياً إيجابياً تستطيع به إقناع الناخب وكسبه بالمنطق وليس عن طريق شن الحملات السلبية بكيل الافتراءات وتوجيه الاتهامات الباطلة ضد المنافسين من الخصوم السياسيين، فهذه سياسة فاشلة ودليل على الإفلاس الفكري والسياسي. ولحسن الحظ يبدو أن الشعب العراقي ومن تجاربه المرة خلال السنوات السبع الأخيرة، قد تعلم قواعد اللعبة الديمقراطية، وعرف حقيقة هذه الحملات السلبية وطريقة مواجهتها. فأكثر الهجوم صار موجهاً ضد رئيس الوزراء وحزبه وكتلته الانتخابية (إئتلاف دولة القانون). وهذا الهجوم بحد ذاته ذو مغزى مفيد. فهو من جهة يشير إلى نجاح الديمقراطية في العراق بحيث يستطيع أي عراقي أن ينتقد، بل وحتى يتهجم على الحكومة ورئيسها كما يشاء وبمنتهى الحرية، الأمر الذي لم يكن عرفه العراق سابقاً ولا أي دولة عربية حالياً. ومن الجهة الأخرى، فقد عرف الشعب كيف يميز الحقيقة والزيف في هذا الهجوم.
ودليلنا على ارتفاع وعي الناخبين وفشل الحملات السلبية في التأثير عليهم، ورغم الهجوم المتواصل على (إئتلاف دولة القانون) الذي يقوده رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، فإن أكثر استطلاعات الرأي تؤكد تفوق هذه القائمة. إذ كشف استطلاع للرأي العام الذي أجراه المركز الوطني للإعلام تقدم (ائتلاف دولة القانون) على التحالفات الأخرى في الانتخابات البرلمانية المقررة في السابع من مارس/ آذار المقبل. وأفاد الاستطلاع الذي تم الكشف عن نتائجه يوم الأربعاء (24/2/2010) أن ائتلاف دولة القانون حصل على تأييد نسبة 29.9 بالمئة من العراقيين الذين شملهم الاستطلاع فيما جاءت الكتلة العراقية التي يتزعمها رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي في المرتبة الثانية بحصولها على 21.8 بالمئة، فالائتلاف الوطني العراقي بقيادة عمار الحكيم في المرتبة الثالثة بنسبة 17.2 بالمئة من الأصوات.] أما على مستوى المحافظات فقد بين الاستطلاع ان "ائتلاف دولة القانون سيحصل على 32 بالمئة من مقاعد بغداد و41 من مقاعد البصرة و49 من مقاعد بابل و42 من مقاعد ذي قار و50 بالمئة من مقاعد كربلاء و56 من القادسية و44 في المثنى". (الرابط أدناه هامش رقم 3). وهذه تجربة جديدة ورائدة يمارسها العراقيون بنجاح بفضل الديمقراطية والعهد الجديد.
حملة التشكيك في نزاهة الانتخابات
الملاحظ أيضاً أن أنصار كتلة "العراقية" وحليفتها كتلة المرشح المبعد صالح المطلك، بدأوا من الآن يشككون في نزاهة الانتخابات طالما لم يشارك فيها البعثيون المبعدون وذلك تمهيداً ليبرروا فشلهم من الآن. إذ كما قال السفير الأمريكي في بغداد، كريستوفر هيل في محاضرة القاها في المعهد الامريكي للسلام بواشنطن ان يشهد العراق "اياما تتسم بالعنف" حوالي موعد الانتخابات. وقال: "إن الامتحان الحقيقي يتمثل في الكيفية التي سيتقبل بها الخاسرون - وليس الفائزين - نتيجة الانتخابات. فإن الخاسرين هم دائما الذين يحددون جودة الديمقراطية." وهذا لعمري جد صحيح. مؤسف القول أننا وفي هذه المرحلة من عمر الديمقراطية، لا نتوقع أن يتقدم الخاسر بتقديم التهنئة إلى الفائز كما هو جار في الديمقراطيات الناضجة.
بل وراح البعض منهم يردد أقوال المطلك وظافر العاني أن إبعادهما كان تنفيذاً لتعليمات الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، لأن الأخير صرح ضد عودة البعثيين إلى حكم العراق. أقول ورغم تزامن الإبعاد مع تصريحات الرئيس الإيراني، إلا إنه من غير المعقول أن نلقي كل ما يحصل في العراق على شماعة الإيرانيين وكأن المسؤولين العراقين فعلاً صاروا عملاء لإيران. نعم نحن ضد تدخلات إيران وغير إيران في الشأن العراقي، ولكن هل بإمكان المسؤولين العراقيين أن يلجموا المسؤولين الإيرانيين وغير الإيرانيين ومنعهم من إطلاق مثل هذه التصريحات غير المسؤولة؟ فهذه سوريا والسعودية تطلقان تصريحات مستمرة في الشأن العراقي، ويذهب السيد علاوي ليدشن حملته الانتخابية من السعودية، فهل يصح لنا القول أن "الكتلة العراقية" تنفذ أجندة سعودية؟ كلا.
لقد سأم شبعنا من هذه التهم، لذا نهيب بالسياسيين العراقيين أن ينضجوا ويرتفعوا إلى مستوى المسؤولية، ويعتمدوا على شعبهم في الداخل وليس على الإستقواء بإيران والسعودية وسوريا، فحكام هذه الدول لا يريدون للعراق خيراً، لأن هدفهم إفشال العملية السياسية برمتها وذلك عن طريق دعم الإرهاب وتأجيج الصراعات بين الكتل السياسية العراقية. فالدعم الخارجي لأي زعيم سياسي يضر به ولا ينفعه، وأفضل مثال هو الرئيس السوفيتي غورباتشوف الذي كان يتمتع بدعم قوي وشعبية واسعة في الخارج، ولكن عندما رشح نفسه لرئاسة روسيا الإتحادية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، كان نصيبه من الأصوات لا يتجاوز الـ 1% . لذلك على قادة الكتل السياسية الاعتماد على شعبهم والتركيز على خدمته وذلك بتقديم البرامج الانتخابية الواقعية والمفيدة والعمل على إنجاح الديمقراطية، لا بالاستقواء بالخارج، وبتوزيع تهم العمالة والخيانة الوطنية على منافسيهم، والتي صارت مثار القرف والاشمئزاز.
ــــ
هوامش:
1- رشيد الخيون: طارق الهاشمي لم يعد "إخوانياً
2- هيئة المساءلة والعدالة: سوف تظهر نتائج تفاجىء الجميع
3- استطلاع للرأي العام يظهر تقدم ائتلاف دولة القانون ... |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|