CET 00:00:00 - 08/03/2010

مساحة رأي

بقلم: شاكر فريد حسن
في خضم وزحمة التحديات المصيرية الراهنة، هناك ضرورة وحاجة ماسة للعودة إلى مرجعياتنا الفكرية والثقافية، التي أسهمت في بلورة حركة التنوير وتأسيس النهضة الأدبية والفكرية الحديثة وصنع الحضارة الإنسانية ومستقبلها الزاهي، ونعيد قراءة ودراسة أعمالها وآثارها والإطلاع على كنوزها الإبداعية وتراثها الخالد واقتحام عالمها الذاتي، المتعدد الأقانيم والمترامي الآفاق، لنستضيء بأفكارها التحررية والتجديدية ونستلهم حلمها ورؤاها الثورية في معركتنا الفكرية المتواصلة لتوليد فكر عربي نهضوي طليعي وعقلاني معافى، يتجاوب مع التطور والتقدم العصري وينير طريق النهضة العربية المنشودة والمأمولة، ومن هذه المرجعيات المفكر والكاتب الاجتماعي والمثقف اللبناني البارز فرح انطون، أحد رواد حركة التنويرالعربية، الذي عانق ضوء الحياة سنة 1874 في لبنان ومات سنة 1922، وساهم في رسم المشهد الفكري والثقافي العثماني.

عانى فرح أنطون من التعصب في حواره مع أهل التقليد وأصحاب الأفق الجامد، هؤلاء الذين يسارعون إلى تكفير المرء إذا اختلف معهم في التأويل الديني، أو اتهامه بالخيانة إذا غايرهم في الاجتهاد السياسي أو الضلالة، إذا خرج عليهم في السلوك الاجتماعي.
لقد حمل فرح أنطون راية الحرية الفكرية والعلمانية وعمل على تحرير العقول من الانغلاق والتزمت والتحجر الديني، ومحاربة المعتقدات التي يرفضها العقل وتتبرأ منها الروح الإنسانية، وسعى إلى تغيير الواقع الاجتماعي للخلاص من القهر والظلم والقمع والاضطهاد والاستغلال.
لقد آمن فرح أنطون بأفكار الثورة الفرنسية كالدعوة إلى الحرية والعدالة وحقوق الإنسان والتسامح، وكان يعتبر الدين أصل الحضارة والمنبع الأول لكل صور التسامح وأنواعه.. وبدأ فرح أنطون الكتابة في "الأهرام" و"الهلال" و" المقتطف" ثم أنشأ مجلة" الجامعة العثمانية" ذات النزعة الفلسفية الاجتماعية التي رفعت شعار الإصلاح الفكري والاجتماعي.. وتأثر بالروح العقلانية والإنسانية التي لمسها في الآداب الفرنسية، فانصب عليها ونهل من معينها ومنابعها، خاصة ابداعات ونتاجات "روسو" و"رينان" و"فكتور هوغو" و" اناتول فرانس" و"فولتير" و"منتسكيو" وغيرهم.

أصدر فرح أنطون سلسلة من الكتب البحثية والفكرية الهامة نذكر منها : "ابن رشد وفلسفة الحب حتى الموت، الدين.. العلم.. المال، الوحش الوحش، مريم قبل التوبة، واورشليم الجديدة".. صاغ فرح أنطون رؤيته الفنية المتميزة صياغة تجريدية فلسفية ، وأطلق اسم" الإنسانية الجديدة" التي تتحقق فيها أحلام البشر بعالم مثالي يقوم على التوازن بين القوى والمصالح والاتجاهات والمعتقدات، والسؤال الذي كان يؤرقه: "ماذا يحدث عندما تتصارع قوى الدين والعلم والمال وتتحول العلاقة بينهما إلى علاقة تنابذ وقتال بدل أن تكون علاقة سلام ووئام وحوار وتفاعل؟!".

كان فرح أنطون منفتحًا على العلم والمعرفة، رافضًا التعصب والانغلاق، ومنحازًا إلى الإنسان وقضاياه ومؤمنًا به وبقدراته.. وكان داعية للخير والإصلاح والتسامح الديني والسياسي والاجتماعي بين الأديان والشعوب والأمم والحث على فصل الدين عن الدولة وتحرير المرأة واحترام العقل، والنهوض والرقي بالمجتمعات العربية والإسلامية ، وبهذا الصدد قال: "لا مدنية حقيقية ولا تساهل ولا عدل ولا مساواة ولا أمن ولا ألفة ولا حرية ولا علم ولا فلسفة ولا تقدم إلا في ظل مجتمع متطور ومتجانس ومفاهيم حضارية جديدة".. ومجمل القول، إن فرح أنطون مفكر مستنير ووجه نهضوي نقدي، حاول التوفيق بين العلم والدين، ورأى أن الخروج من المأزق الذي تعيشه مجتمعاتنا العربية يتمثل في تحقيق مصالحة بين التيارات الفكرية، في أجواء ومناخ من النقد العقلاني وحرية التفكير والتعبير والإبداع، وتأسيس المجتمع المدني والدولة المدنية.. وقد عاش قلقًا ومهمومًا وحزينًا إلى أن مات مكتئبًا وهو في عنفوان شبابه وغمرة عطائه ونشاطه.

(كاتب وناقد فلسطيني)

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق