بقلم د. سعد الدين إبراهيم
إن الزعيم الصينى ماوتسى تونج هو أكبر أسطورة فى ممارسة والتنظير لما يُسمى بحروب الاستنزاف. وفحوى نظريته هو أنه فى مواجهة الدولة، أى دولة، وجيشها النظامى تصعب هزيمتها بواسطة المُعارضة إلا باستخدام حرب العصابات، وأسلوب الاستنزاف. فحيثما قد لا يستطيع المناوئون للدولة قطع الذراع القوية، واليد الطويلة للدولة، فإنه من الممكن أن تشلّها أو تتغلب عليها بقطع أصابعها، واحداً بعد الآخر، أو توقع بها عدة جروح، وتتركها تنزف!
وهذا بالضبط ما تحاوله جماعة الإخوان المسلمين مع الدولة المصرية. فمن السهل عليها نسبياً أن تُهاجم نقاط وكمائن الشُرطة، أو الجيش، الثابتة. فيستطيع شاب إخوانى، مثلاً، على دراجة، أو موتوسيكل أن يقذف قنبلة يدوية، أو زُجاجة مولوتوف على كمين ثابت، ثم يُسارع بالفرار، ويختفى فى أى منطقة سكنية أو تجارية مُزدحمة.
وفى الغالب فإن أفراد الشُرطة فى الكمين الثابت لا تكون لديهم أوامر بترك الكمين وتعقب من هاجمه. وحتى إذا فعل أفراد الكمين، فهم لن يعثروا على من هاجمهم بسهولة. ومع الإحباط والشكوك والبحث عن المُهاجم، فإن الشُرطة أو جنود الجيش قد يُسيئون إلى الجمهور أو السُكان المدنيين. وهو أحد أهداف الإخوان لخلق جفوة بين الشُرطة والشعب. فإذا تكرر المشهد فإن الجفوة تتحول إلى فجوة، قد تتزايد مع طول المواجهة، حتى تصبح قلقاً، على أمنهم اليومى، ثم على المستقبل بشكل عام.
ويقول ماوتسى تونج إن هذا القلق العام يخلق حالة من «سيولة الولاء»، الذى يُتيح الفُرصة لمن يستطيع تلبية احتاجات المواطنين بشكل أفضل، بما فى ذلك أول هذه الاحتياجات وهى الأمن على الحياة، فينحاز إليه تدريجياً. فإذا استمرت الأوضاع على ما هى عليه، فإن الولاء يكتمل للطرف الآخر، والذى هو فى الحالة المصرية، جماعة الإخوان المسلمين. وأظن أن هذا هو ما تُراهن عليه تلك الجماعة.
وتتجلى حرب استنزاف جماعة الإخوان المسلمين للدولة المصرية فى حوادث الاعتداءات اليومية على قوات الشرُطة والجيش. وبينما لا تجرؤ الجماعة على مواجهة قوات الأمن والجيش على نطاق واسع، فإن مجموعات صغيرة منهم، على الدراجات أو الموتوسيكلات تقوم بمُباغتة كمين هنا أو قسم للشُرطة هناك، تطلق عليهم النيران، ثم تُسرع هرباً، وهو ما يُعرف بحرب الشوارع أو حرب العصابات. وحينما يهربون، فإنهم يندسون بين الناس فى الأسواق والشوارع المُزدحمة، أو يُغادرون المدينة أو القرية التى وقع فيها الهجوم. وبهذه الطريقة تسببوا فى اغتيال حوالى ثلاثمائة من رجال الشُرطة والجيش منذ إسقاط د.محمد مرسى.
وكما يقول ماوتسى تونج، من المهم أن يكون من يُمارسون هذا النوع من حرب الشوارع على علاقة طيبة ببقية الشعب. فالناس العاديون هم بمثابة المياه التى يسبح فيها أولئك الذين يُقاتلون الدولة. وفى أحد تشبيهات تونج الأخرى، فإن الشعب هو بمثابة الغابة التى يمكن أن يختفى فيها المتمردون أو الثوار ضد الدولة، فإذا لم تكن هناك غابة، فإنه من السهل على قوات الدولة أن تصطاد المُقاومين لها فرادى، أو كمجموعات صغيرة فى أرض مكشوفة. فما علاقة هذا كله بما يفعله الإخوان المسلمين فى مصر فى الوقت الحاضر؟
طبعاً، لا ندرى على وجه الدقة، ما إذا كانت القيادة الإخوانية قد قرأت كتابات ماوتسى تونج، أو غيره من أولئك الذين قادوا حروب عصابات، مثل الزعيمين الفيتناميين، هوتشى مِنّه، والجنرال فو تجوين جياب، أو الكوبيان فيديل كاسترو، وتشى جيفارا، وهم الذين تحدثوا جميعاً عن هذا النوع من حروب الاستنزاف. كما لا نعلم على وجه الدقة، ما إذا كان المسؤولان الرسميان المصريان عن مُقاومة الإخوان المسلمين، وهما زير الدفاع، المشير عبدالفتاح السيسى، ووزير الداخلية اللواء محمد إبراهيم، قد قرآ تلك الكتابات.
ولكن الشاهد، هو أن الإخوان المسلمين قد فقدوا، أو هم يفقدون تعاطف الشعب المصرى معهم، وذلك لسببين رئيسيين:
أولهما، أن أداءهم فى السُلطة، حينما تولوها بعد طول انتظار (٨٥ سنة) كان مُخيباً للآمال، فهم لم يستطيعوا تنفيذ أى مما وعدوا به الناخبين، خلال حملتهم الانتخابية، عام ٢٠١٢.
ثانيهما، أن الرئيس محمد مرسى، الذى هو أحد قياداتهم البارزة، أظهر نهماً غير مسبوق لتكريس سُلطاته، وهو ما تجلى بشكل واضح وفاضح فى أحد قراراته الجمهورية (نوفمبر ٢٠١٢)، بعد شهور معدودات من اعتلاء منصب رئاسة الجمهورية. فقد أعطى لنفسه سُلطة التشريع، فى غياب مجلس نيابى مُنتخب.
ولكن الأدهى من ذلك، أنه أصدر قراراً آخر مُنفرداً، حصّن به نفسه ضد أى مُساءلة، وضد أى مُحاسبة، وضد أى مُحاكمة. أى أنه اغتصب لنفسه أيضاً أهم اختصاصات السُلطة القضائية.
لقد كان هذا النهم الواضح والفاضح هو الذى أفقد جماعة الإخوان أى تعاطف شعبى، بعد سنة واحدة من استئثارهم بالسُلطة. ثم تجلى الازدراء والغضب من الجماعة، بشكل أكثر درامية، حينما خرج ثلاثون مليون مصرى فى مُظاهرة احتجاجية ضد الإخوان المسلمين، يوم ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
وقد أبهرت تلك المُظاهرة الاحتجاجية العالم كله. فهى أكبر مُظاهرة من نوعها فى تاريخ البشرية. إذ لم تشهد لها أى من بُلدان القارات الست، مثيلاً من قبل، بما فى ذلك بلد المليار نسمة، وهى الصين، فى مُظاهراتها الشهيرة فى ميدان السلام السماوى، قبل عشرين عاماً.
ورغم إبهار تلك المظاهرات للعالم كله، إلا أنها لم تُبهر الإخوان على الإطلاق. والسؤال هو: لماذا فقد معظم الإخوان المسلمين القدرة أو الحساسية لإدراك نظرة معظم المصريين والعرب والعالم لهم؟
تكمن الإجابة على هذا السؤال فيما تنطوى عليه عملية تنشئة أعضاء الإخوان، والتى تستغرق عادة عشر سنوات على الأقل، تبدأ عادة من الطفولة، لأبناء وبنات الكبار من قدامى الإخوان. وتستمر، طوال سنوات الصبا والشباب. وأهم عناصر هذه التنشئة هى مبدأ السمع والطاعة العمياء لأوامر الجماعة، كما تتسلسل من أعلى إلى أدنى ـ أى من مكتب الإرشاد، وهو أعلى سُلطة فى الجماعة، ويتكون من واحد وعشرين عضواً، إلى مسؤولى المحافظات، إلى مسؤولى المراكز والأقسام، إلى المُدن والقُرى والشياخات، إلى الأسر (ومفردها أسرة).
والجدير بالاهتمام فى هذا التسلسل التنظيمى، أن العضو، أو الأخ، هو جزء من أسرة، يتعود ويشعر حيالها كابن، أو شقيق، يستمد من هذه الأسرة معظم احتياجاته، ويقضى فى كنفها معظم وقته. وهى لذلك، تملك قلبه ووجدانه، وتُلغى عقله. فالجماعة تلغى هوية أفرادها، ليصبحوا كائنات مُطيعة، بلا عقول أو قلوب.. فلا حول ولا قوة إلا بالله.
نقلآ عن المصري اليوم |