CET 00:00:00 - 14/03/2010

مساحة رأي

 بقلم : نذير الماجد
في مكان ليس ببعيد عن المكان الذي شهد اهتزاز العفة حيث الماراثون العائلي "المختلط"  الذي أقيم تحت شعارات موغلة في الدنيوية جرى حديث لا يبتعد كثيرا عما قد تؤول إليه المبادرات الأنثوية من تقييمات تبجيلية أو تبخيسية.
 هؤلاء الأصدقاء المنفيين إلى الظل والذين عادة ما يتجاذبون أطراف الحديث في أماكن أكثر دنيوية كمقهى أو على ضفاف البحر أو أي مكان يخلو من ضجيج الشعارات الأيديولوجية هم الأكثر دراية ووعيا بتحديات المغايرة.
 
ولأن عزلة المكان تفرض شعورا ثقيلا بالتوحد ورغبة موازية في أي يوتوبيا أخذ أحدهم يتساءل عن اللحظة التاريخية الحبلى بالتغيير، متى ستأتي؟ ويجرد الحيز العام من المعايير والرؤى الذاتية ويحصل الرجل السعودي والمرأة السعودية على حقوق متكافئة ومتساوية؟ متى ستقود المرأة سيارتها الخاصة حتى لا يتحول الرجل إلى سائق أكثر منه زوج أو قريب؟
الأقل تشاؤما أجاب ساخرا: ليس أقل من مئة عام! تشاؤم يقتل بوحشية الأمل في الانعتاق والحرية لكنه مع ذلك لم يولد من فراغ ولم يحصل نتيجة طبيعة متشائمة. ثمة انسداد معمم وتواطؤ كامل بين أطراف متناشزة ظاهريا لكنها تتقاطع في عامل مشترك يجمع بينها هو تصفية كل رغبات التحرر.
نعرف جميعا أن المجتمعات تخضع للحتمية التاريخية، لكن للفرد اشتراطا مختلفا كليا عن اشتراطات المجموع، كما أن العمر الزمني للحياة والتطور والنمو والانعطافات والتحولات التي قد تحدث للفرد تختلف عنها في حياة المجتمعات والثقافات، تفاوت جحيمي يسحق الفرد وهو يتطلع نحو الأفاق البعيدة والمفتوحة، ويسحق فيه كل أمل وتفاؤل.
المجتمع واشتراطاته أقوى منك رغم تفردك واستقلاليتك، هكذا يقول صديقنا في مقهى المهمشين، ولذلك فأنا متشائم ساخر أتهاون بكل شيء حتى التنوير بوصفه مسؤولية اجتماعية ملقاة على كاهل المثقف، فالمثقف لدي هو كائن فرداني بامتياز وليذهب هذا المجتمع المؤدلج إلى الجحيم. يقول ذلك وهو يستعيد في ذاكرته المثخنة عشرات الشواهد التي تدل على انعدام ارادة التغيير في المجتمع كما في السلطة.

هناك عقل ديني مهيمن يمتلك السلطة الرمزية والمادية أيضا ولديه أدوات ووسائل محكمة للتصفية المعنوية، فلا تنس أن مفاتيح الجنة بحوزته، وأنه الحارس الأمين على الشرف والعفاف وسائر القيم الأخلاقية، فتوى بسيطة يحررها كافية لتحديد مصيرك بشكل لا رجعة فيه.
ماراثون القطيف الذي حدث مؤخرا هو شاهد مشحون بالدلالات والأحكام التبخيسية التي أطلقها هذا العقل. أن يحتشد نساء ورجال في محفل عام ذو طابع مجرد من كل غاية دينية فإن ذلك يعني انتهاكا صارخا لأخلاقيات الاحتشام والعفة وتهديد أنثوي سافر للحيز الذكوري المعني بحراسة الأخلاق والقيم وتحديدها بمحددات موغلة في الوقار والهيبة الفحولية التي ستشعر بإهانة كبيرة وانتقاص في صميم الوجود.
المنظومة الرمزية كلها مهددة وعرضة للانهيار الكامل ذلك لأن الجسد الأنثوي ملغم بمفاتنه التي من شأنها اختطاف النجومية وسحب الأتباع والتنابلة، فالمرأة هي أكبر منافس للسلطة الروحية والأخلاقية، كما قال أحد الآبقين الذي تجمعني وإياه وكذلك المرأة صفة الانتماء للظل، المرأة كائن لا أخلاقي إنها الطبيعة ذاتها –يسترسل صديقي- ما إن تداهم هيكلا حتى يهتز لتتحول كل القيم والمعايير والطقوس نحو وجهة جمالية كانت ذات يوم هي التي تتربع عرش المعنى.

لكنك ستطعن دون شك في هذا التصور الجنساني الذي لا يخلو من الدلالة التشييئية فالدراسات الجندرية الحديثة ترفض الفوارق الجنسانية الجوهرية، فما هو جنساني هو في أكثره ثقافي مكتسب، والأدوار الجنسية التي يقوم بها كل من المرأة والرجل ما هي إلا تواضع أو لعبة يتقن أدوراها الجميع، يقول تيودور روزاك: يلعب هو دور الذكر وتلعب هي دور الأنثى وهو يلعب دور الأذكر لأنها تلعب دور الأنثى وهي تلعب دور الأنثى لأنه يلعب دور الذكر، وهو يقوم بدور ذلك النوع من الرجل الذي تعتقد هي أن نوع المرأة الذي تقوم بلعب دوره لابد أن تعجب به، وهي تقوم بدور ذلك النوع من المرأة الذي يعتقد هو أن الرجل الذي يلعب دوره لابد أن يرغب فيه، ولو لم يكن يلعب دور الذكر لكان على الأرجح أشد منها أنوثة، اللهم إلا في الحالات التي تكون فيها مسرفة في لعبة الأنوثة، ولو لم تكن تلعب دور الأنثى لكانت على الأرجح أشد منه ذكورة إلا في الحالات التي يكون فيها مسرفا في لعبة الذكورة، وهكذا يزداد لعبه شدة ويزداد لعبها نعومة..."
ولكن مع ذلك فإن الجسد الأنثوي في المنظور الديني السائد هو موضوع ايروتيكي غني سيميائيا، فإذا كان الجسد البشري بشكل عام ليس مجرد جسد بالمعنى الفسيولوجي المحض بقدر ما هو جسد ممأسس خاضع لاشتراطات الثقافة والسلطة الرمزية فإن الجسد الأنثوي يتمايز بشكل خاص بتحوله إلى دلالة رمزية ونفسية واجتماعية. إن الأنثى يا صديقي ليست سوى "جسد مؤسس" يجعل من المرأة كائنا شبحيا بقدر ما هو كائن ايروتيكي.

 هذه الرسالة البيداغوجية والقيمية ستصل إلى المرأة، لكنها ستصل مشفرة، وما عليها إلا أن تفكها، وبالتالي فهي إما أن تكون متوافقة مع أجندة الخطاب أو تناقضها ولكنها مع ذلك ستحمل دلالة الرفض في كلتا الحالتين، لأن الخضوع الكامل هو في جوهره رفض وتمرد، لكن التمرد بشكله الايجابي والواضح هو الذي يهمنا هنا، فما حدث في المارثون من تهتك بالحرمات يأتي تحديدا في هذا السياق، إن ما حدث وفقا للمنظور الديني أشبه بعرض أزياء واستعراض مفاتن وتبرج بأحمر الشفاه وجينز واختلاط ضمن قائمة لا تنتهي من المحظورات التي توقظ مارد الجسد وشهوة الحواس، فالمرأة تلجأ إلى التمرد على تشبيحها بسلاج من ذات السنخية هو سلاح الجسد، إنها تعلن الحرب بجسدها الملغم ضد التشييء والهيمنة الذكورية والخطاب الديني السائد الذي يدعم هذه الهيمنة ويوفر لها الشرعية والتبرير.
إننا امام خطاب غني بعناصر احتكار الهوية وتملكها سعيا نحو السلطة والسيطرة الكاملة على الحيز العام وهو بوصفه خطابا تجييشيا ورمزيا يستعير من القاموس الديني ما يعزز رأسماله الرمزي: الطهر، العِرض، النجف الصغرى، التشيع، الحجاب، التأسي بالستر والعفاف الفاطمي وغيرها من مفردات قادرة على ملأ الفراغ في الذاكرة والمخيال والهوية الاجتماعية، إنها المفردات نفسها التي تشكل في آن معا خطابا اسلامويا محافظا وذكوريا يخشى الأنوثة ويؤدلج الجسد ويتخفى خلف الهوية المهددة والفضيلة المنجرحة.  

لا تحول هذه القراءة رغم تشاؤمها دون الاستشراف الذي يتصف بقدر من التفاؤل، فهذا المارثون سيتحول إلى حدث عالق في الذاكرة، سيكون محلا للتبجيل أو للتبخيس، وجه حضاري وبادرة جريئة عند البعض وشجاعة أو انتكاس وافساد وفسوق عند آخرين، كما أنه سيكون موضوعا للتحليل السيسولوجي والثقافي الذي من شأنه أن يفسر التمايز الذي يفصل بين انتهاك وآخر، فمارثون القطيف الذي حدث في وسط محافظ ومحتبس سياسيا واجتماعيا وفكريا يحتم على الذاكرة أن تستعيد من الارشيف انتهاكا مماثلا حدث بداية التسعينات في المجتمع البحريني وهو الحدث الذي أنتج صداما حادا مع السلطة السياسية التي تمثل دور الآخر.
الخطاب نفسه أنتج قراءتين متغايرتين، فبين الحادثتين أوجه شبه عديدة في السياق الاجتماعي والدلالة الثقافية ولكن التاريخ وحده الكفيل بإجلاء العوامل الذاتية الفاصلة بين مارثون البحرين بوصفه شرارة انتفاضة ضد الانتهاك السياسي ومارثون القطيف بوصفه انتهاكا مماثلا ولكن للأخلاق والقيم. 
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٢ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق