بقلم: محمد مسلم الحسيني ليست السمنة فقط التي زادت نسبتها، إنما الأمراض المزمنة الأخرى قد زادت وتفاقمت أيضًا. فارتفاع ضغط الدم وداء السكري لا يخلو بيت منهما.. وبصفتي طبيبًا قادمًا من الخارج قد استشارني الكثيرون من بين الأهل والأصدقاء، لم أجد أحدًا منهم خاليًا من الأمراض! حتى أن ضغط الدم كان عند أحدهم 26/14 درجة وهو رقم هائل. كان المريض لا يدري بمرضه وحينما أخبرته بخطورة العلّة بدأ يضحك ويقول "ولا يهمك فلا تقلق، إن توفاني الله فسوف لن أخسر شيئا!؟".. قوله هذا أثار عندي التساؤل والاستفهام، فهو يعني الكثير وأهم ما يعنيه هو عدم الاكتراث بالحياة، لأنها لم تعد ممتعة ومهمة.. هذا المفهوم يدل على الإحباط والكآبة وضمور الطموح وغياب الأمل.. ربما هذه حالة خاصة لا تشمل الجميع لكن الوقوف عندها والتبصر فيها أمر يستحق التحقيق. أما الأمراض المعدية المزمنة كأمراض التدرن الرئوي والجرب فقد زادت الإصابة بها إلى حد مهول.. لقد أخبرني بعض الأطباء المختصين بهذا الشأن بأن السل الرئوي يضرب ثلاثة أشخاص في كل عشرة في بعض المدن! هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن الكثير من الناس يشكو من عارض الإسهال الذي ينتج عن التلوث الغذائي والمائي، فقد أعلمني أحد المحللين المختبريين بأن فطريات الـ "مونيليا" مثلاً، وهي فطريات تصيب بعض الأشخاص الذين يشكون من قلة المناعة عادة أو الأطفال وكبار السن، موجودة في الكثير من التحاليل التي يجريها للمرضى بغض النظر عن أعمارهم.. كما أنني شخصيًا وقعت على أربع حالات فيها التهابات من هذا النوع لبعض من أجريت المعاينات عليهم.. ومن الحالات المرضية المنتشرة أيضًا هو ارتفاع غير طبيعي لعدد كريات الدم الحمراء في الجسم وهي حالة تسمى طبيًا بـالـ "بوليسايثيميا"، وهذا يتطلب البحث والتنقيب لمعرفة الأسباب. حينما كنت أعود سرير النوم وفي ساعات متأخرة في أغلب الأحيان، كان البعوض يسامرني طول الليل، لا يتركني وهلة لوحدي، يشبعني طنينا وعضّا.. البقع الحمراء انتشرت في كلّ زاوية من جسمي، ورغم التخفي تحت الغطاء كان يخترق الحواجز والسدود فأطرد فيه ثم يعود.. لا عجب في النمو المضطرد للبعوض، فالبرك الآسنة تنتشر في كل حدب وصوب، تمتلأ بمختلف أنواع النفايات والفضلات فتكون بيئة صالحة لنمو الجراثيم وتكاثر الحشرات والبعوض.. لا أحد يكترث بذلك فكلٌّ يرمي الحبل على الغارب التلوث البيئي والتخلف الصحي لا ينحصر على خلفيات البنية التحتية المتدهورة ومخلفات الحروب والحصار الذي مر به العراق فحسب، إنما تغيّرت البيئة لأسباب إضافية أخرى لا تقل أهمية عن سواها كشحة موارد المياه ومجهولية طرق تعقيمه ومعالجاته وعدم توفر الكادر الفني والعلمي المؤهل وغياب الآلة الصحيحة والضرورية للعمل.. كما الانقطاعات أن المستمرة للتيار الكهربائي وعدم الاهتمام بالزراعة وقلة التشجير وشحة الأحزمة الخضراء، كلها لعبت دورًا في التلوث البيئي وكثرة الغبار.. ورغم أنني كنت مسافرًا في موسم الشتاء، فإن غيوم الغبار قد حجبت عني وجه الشمس، وفي كثير من الأيام، كنت مضطرًا أن أغسل شعر رأسي كل يوم مرة أو مرتين لأتخلص من عوالق الغبار والأتربة التي تستلمني حالما أخرج من الدار.. وحينما تحدثت مع الأهل عن هذه الأتربة قالوا: ليتك تأتي في فصل الصيف لترى بأن السماء تمطر ترابا! كنت أختنق من كثرة الأتربة يوميّا حتى صار صوتي مبحوحًا، فساعد الله حناجر العراقيين وصدورهم.. الغبار المنتشر والمستمر ربما يفسر حالات الحساسية والالتهابات في الجهاز التنفسي المتكاثرة عند الكبار والصغار. الروتين كان قاتلاً، فعلى سبيل المثال لا الحصر، انتحرت ثلاثة أيام من إجازتي القصيرة في دائرة الجنسية.. فيوم أجريت فيه معاملة الوصول، ويوم أجريت تحاليل الإيدز، ويوم لإجراء معاملة المغادرة والخروج.. رغم أنني في وطني فليس لي الحق البقاء أكثر من عشرة أيام دون إجراء هذه المعاملات المملة.. كنت أراجع مع الأمواج البشرية التائهة من شبابيك مقلوعة الأبواب مكسرة الزجاج وكأن غارة أمريكية قد قصفت الموقع منذ لحظات.. الكل كان مكفهرًا بوجهي معبرًا عن كثرة "الغبطة والفرح" بالضيف الثقيل! وحينما خرجت من تلك الدائرة القاهرة وجدت نفسي أصيح وأبتهل....وابهدلتاه ....وااحتراماه....واديمقراطيتاه..... وقبيل عودتي لأرض المهجر، بلاد الاحترام والإنسانية، هاتفت شركة الطيران في بغداد لتأكيد الحجز، فكان الجواب هو ضرورة حضوري شخصيّا إلى مكتب الشركة فلا يمكن عمل ذلك عن طريق الهاتف!. ياللعجب، فقد زرت نصف دول العالم ولم يطلب مني أحد أن أكون حاضرًا في مكتب السفريات من أجل تأكيد الحجز، فلماذا يحصل هذا في العراق؟ هل هذا تعبير عن احترام أوقات الآخرين أم إشارة محبة ومودة لأن في اللقاء تزداد الألفة ويعم التواصل وتذوب الأحقاد!؟ وهكذا ينتحر يوم رابع من أيامي المعدودة!. أما اليوم الخامس فقد انتحر أصلا في سياقات الطريق.... خرجت مبكرًا في الساعة الثامنة صباحًا من محافظتي التي تبعد مائة كيلو مترًا جنوب المطار، فوصلت الساعة الثالثة عصرًا لأرض المطار لأن مفرزات "التكريم والتوديع" المزروعة على طول الطريق وفي كل مكان كانت تكرمني وترمي عليّ الورود!. فالتفتيش كان عنيفًا ومتكررًا والنتيجة هو أن عبوة "فاسقة" قد انفجرت قبلي وأخرى بعدي رغم قوة التفتيش! ربما أخطأت مفرزات التفتيش في تشخيص الهدف فآلاتهم الحديثة الخاصة كشفت معجون أسناني لكنها أخفقت في كشف معجون المتفجرات! |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت | عدد التعليقات: ٠ تعليق |