CET 00:00:00 - 19/03/2010

مساحة رأي

بقلم : نبيل المقدس
هي دي أمي ... لا يمكن أن أنكر فضلها عليّ ... لا تطلب مني أو من إخوتي شيئاً ... فهي تعرف مدي مشغولياتنا ومسئولياتنا ... لو قصّرنا في السؤال عنها , تطلبنا هي من خلال التليفون ... لا تنتظر منا أن نداوم في السؤال عنها ... هي التي تقوم بهذه المُهمة ... نحن أربعة أخوة ... ماشاءالله كلنا ميسورين الحال , بفضل وقوفها المتواصل بجانب أبي في أول حياتهما الزوجية .. ساعدتهُ ... كانت معينة لهُ ... ذاقتْ ايام المُر والحُلوة معهُ ... ربتنا وعلمتنا ووقفت بجانبنا ... ياما كانت تداري وتحجب أخطائنا ... لكن كنا نُعطيها وعداً أن لا نكرر أخطائنا ... عظيمة هي في إصرارها ... عظيمة هي في تواصلها معنا ومع والدنا ... كل يوم نجد فيها خبرات الحياة وكنا ننقلها إلي نفوسنا ... لم تتواني أو تتقاعس في أي طلب ... لم تُميّز أحداً منا علي حساب الآخر ... لذلك أحببناها ... وخصوصا بعد وفاة أبي ... رفضتْ أن تقضي باقي أيامها عند أي أحد من أبنائِها ... كنا نجتمع عندها أسبوعيا بالإضافة إلي المناسبات ... كان مبدأها (إللي عايز يشوفني يجي البيت إللي خرج منه كبير) ... لها حق مافيش أحلي من بيت العيلة ... كانت تعامل كل واحد منا طبقا لطباعهِ وصفاتهِ ... فهي دائما تقول : البشر يختلف ... لا يمكن تجد أخ مثل الآخر ... يعني كانت بتتعامل معنا علي أربعة محاور وجبهات ... لا أعرف كيف إستوعبت هذه المعرفة والقوة والحكمة بحيث أننا جميعنا توحدنا في حياتنا الروحية ... وتوحدنا في حمل المسئولية , علمتنا كيف نحترم زوجاتنا ... حتي وصل بهن أنهن اتخذن من والدتنا أما لهن .
  
إقترب يوم عيد الأم وإتفقنا جميعاً الذهاب إليها ليلة يوم الأم ,  لنقدم لها كلمة عرفان بالجميل ... وفي صباح يوم عيد الأم ,  وعندما وصلتُ إلي مكتبي إتصل بي شريكي في العمل من خارج البلاد ليبلغني أن البضاعة وصلت وهي موجودة الآن علي رصيف إسكندرية وعليّ أن أذهب لتخليصها بأقصي سُرعة ... فإتصلت  بزوجتي  ... وأبلغتها أنهُ من الصعب عليّ الذهاب اليوم إلي بيت الوالدة لأحتفل بها  ... إنزعجت زوجتي من هذا القرار ... لكنها قالت : عُموما أنت أدري بمصلحتك , وأنا سوف أذهب وأقوم بالواجب ... نزلتُ من المكتب لكي أتوجه إلي الإسكندرية ... وقلتُ لنفسي سوف أعرج علي محل ورد , وأرسل لوالدتي باقة من الزهور . وفعلا قبل ما أترك المكتب كتبت رسالة رقيقة لها مملوء حب , وأن تدعو لي بالبركة والسلامة. عندما وصلتُ إلي كشك الورد الذي يقع أمام مكتبي تقريباً , وجدتُ طفلة يتراوح عمرها العشر سنوات تختار بعض الزهور لكي يصنع منها صاحب الكشك باقة جميلة لها. ثم أخذتهُ بعد ما أخرجتْ كل النقود إلاّ بعض النقود المعدنية القليلة التي كانت تحتفظ بهم في منديل , ثم خرجت والإبتسامة علي وجهها .
  
أوصيتُ صاحب الكشك أن يجمع لي بعض الزهور في سبت جميل , وأعطيتُهُ الرسالة التي كتبتها , ومعها عنوان بيت والدتي , لكي يرفقها مع سبت الورد وإرساله لها في الوقت الذي حددته له . ثم إنتظرت بضعة دقائق لكي أخذ فكرة سريعة عن ما سوف تكون عليها الباقة , ثم شكرته ودفعت له الحساب وأجر من سيقوم بتويصلهِ وخرجت متوجهاً إلي عربيتي قاصداُ إسكندرية مباشرة .
 
كان الوقت مابين خروج الفتاة الصغيرة وخروجي من الكشك ووصولي إلي عربيتي حوالي 20دقيقة , وعندما فتحت باب العربة لمحتُ علي الرصيف الآخر الفتاة بعينها .. تحاول أن تلحق بميكرباس ... لكن لم تستطيع اللحاق به , كما أنني لاحظتُ أن إحدي رجليها فيها عجز , وهذا ما جعلها لا تستطيع الجري لتلحق بالميكروباس ...  أسرعتُ وعبرتُ الشارع وتوجهتُ إليها ... وسألتها : إنت إسمك إيه ؟ : قالت والدموع في عينيها : إسمي ( سامية ) ... قلتُ لها وإنت عايزة تروحي فين ياسامية ؟ قالت لي أريد أن أذهب لوالدتي ..! تعجبتُ من الجواب ! ... قلت لها هي مامتك مش في البيت ؟؟ قالت والدموع تنهمر من عينيها ... مامتي طلعت من سنتين عند ربنا ... وكان نفسي أروح قبرها أحط لها باقة الورد ده زي كل سنة... لكن خالي مسافر , كان هو دايما  بيوديني عندها ... تعجبتُ جداً , وتحركت مشاعر العطف عليها , وعرضتُ عليها أن أوصلها للمدافن لو هي تعرف المكان بالظبط ... وجدت الإبتسامة علي شفتيها وقفزت فرحاً ... وقالت لي ... يعني انت مستعد توصلني ؟؟ وبدون تفكير وجدت نفسي أحملها علي ذراعي وأعبر بها الشارع وأدخلها العربة ... وأتوجه إلي المدافن التي قالت لي عليها ... ومن العجيب وجدتها علي علم بمكان المقبرة ... وعندما وصلنا نادت علي الخفير ... ياعم عبده , يا عم عبده ... وإذ أري رجل آت من الداخل ويرحب بها ... اهلا يا إبنتي سامية ... انت لسه فاكراها ؟؟! وأدخلها , لم أدخل معها , لكنني تتبعتها بعيوني حتي وضعت باقة الورد الصغيرة , وجلست حوالي 5 دقائق , ثم رجعت والإبتسامة ما تزال ترتسم علي وجهها ... أخذتها , وأوصلتها إلي مكان ما قابلتها عند كشك الورد ... ثم تركتها .

توجهت بسيارتي إلي إتجاه إسكندرية ... وعندما وصلت لأول الطريق ... تذكرت الطفلة سامية ... التي أصرت وهي الصغيرة العاجزة الفقيرة أن تذهب لأمها لكي تجدد ذكراها معها ... خجلت من نفسي ... أنا الشاب المتعلم ... الميسور الحال ... كما أنني سليم صحيا وليس هناك ما يعطلني من الذهاب إلي والدتي لكي أقول لها ... كل سنة وانت طيبة يا أغلي الحبايب ؟! أستخسر أن أقوم بهذه المهمة من أجل عمل يمكنني تأجيله إلي اليوم الثاني !!؟ لكن شهوة المال والعمل كادت تفتك بي , وتحرمني من هذا اللقاء الجميل مع ست الحبايب . عُدت إلي منزلي وأخذتُ زوجتي وأولادي , وألتقيتُ بإخوتي عند البيت الكبير ... وعندما رأتني الوالدة ... قالت لي أشكر ربنا أنك جيت بالسلامة يا إبني . قلت في سِري ... سامحيني يا أمي ... ماكُنتش جاي , وتذكرتُ  في حينها الطفلة سامية , والدرس الذي تعلمته منها .... !
 
ثم جاءت المفاجأة والتي جعلتني أقدر أمي  أكثر وأكثر ,  نادتني من بعيد ... وأخذتني إلي حجرتها , وقالت لي بصوت خافت : سبت الورد كان جميل ... وأشكر ربنا إنك أتيت بالسلامة ... إطمأن إخوتك لن يعرفوا شيئا عن رسالتك الرقيقة لي والتي وصلتني هذا الصباح مع سبت الورد ... وبالرغم أنها رقيقة لكن ألقيتها في أعماق البحر ...  أما كلماتها  أصبحت صدي في فكري ووجداني  !!.
هي دي أمي .... ستـــــــر وغطــــــا علينــــــا كلنــــــا  !!!
هذا الحدث قد حدث معي منذ خمسة عشر سنة تقريبا مع إضافة بعض المواقف أو تغيير بعضها لتكون قصة مناسبة لهذا اليوم الجميل وهو الإحتفال بأعز الحبابيب .
إلي كل أم اقول لها كل عام وانت بخيـــــــر , وسوف نظل نأتي إليك طالما نحن نتواجد في الحياة , لأننا نحيا بصلواتك , وننعم ببركاتك يا ست الكل

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١٠ صوت عدد التعليقات: ٢١ تعليق