بقلم : د/ عاطف نوار
لقد دفعتنى الأحداث المتواترة فى الأونة الأخيرة إلى البحث فى أمر هام .. هو سؤال ظل يطرق جنبات رأسى طويلا مُلحا فى إيجاد الإجابة الشافية المُقنعة عليه .. فما هو سبب تصاعد إضطهاد الأقباط فى مصر إلى أن وصل إلى حد الإبادة و التهجير ؟.. و تخطى هذا السؤال حدود ذلك إلى سؤال أعم و أشمل .. ماهو سر ازدياد رغبة إنسان فى النيل من آخر و الجور على حقوقه الأدبية و المادية ؟ .. حينئذ تبادر إلى ذهنى المقولة المصرية الشهيرة " مالك يا فرعون مفرعن قاله أصل ملقتش حد يردنى " .. أى أن الشخص المسلوب حقه هو الذى صنع هذا الفرعون و أوجده و شجعه على فرعنته .. إن الذى صنع هذا الفرعون هو حاجز
وهمى فولاذى يُزرع فى النفس إسمه الخوف ..
نما هذا الحاجز على مر الأزمان إلى أن أصبح ثقافة و نهج يعانى منه الكثير و ينتفع منه الكثير .. إنها ثقافة الخوف.. يُعرف عُلماء النفس الخوف بأنه هو رد الفعل الأساسي الذي يجعل الفرد يتعامل مع الخطر ..فالشعور بالخوف هو الذي يجعل الجسم مستعد للتصرف إما عن طريق الفرار من الموقف أو حماية نفسه باستخدام القوة الجسدية .. فالإنسان يحاول طلب النجاة لنفسه والبحث عن ملاذ يلوذ به ويبعد عنه ذلك الخطر، وقد عرّف علماء النفس ذلك الملاذ بأنه (الشعور بالأمن).. و أغلب شعوب العالم يلوذون من الأخطار بمواجهتها فتزول أما الشعوب العربية فقد سلكوا أسهل الطرق .. هؤلاء تعودوا و عودوا أولادهم أن يدخلوا خنادق الخوف و على رؤوسهم خوذات الصمت عند مُهاجمة الخطر لهم ولأرزاقهم و مصالحهم و من ثم استفحل الخطر و أصبح صناعة مُربحة .. استغلت الحكومات ذلك الخوف و أقامت مصانعا لآبتكار انواع شتى من الأخطار يهرب منها الشعوب بالخوف والإستكانة تاركين الساحة لهم يصولون و يجولون مُحققين مآربهم و اطماعهم.. تطورت صناعة الخطر و أصبحت إرهابا ليس من الحكومات فقط بل من أى فرد أو جماعة تمتلك مقومات إنشاء مصانع للخطر .. استفحلت هذه الصناعة و أصبحت فوق المسائلة و أعلى من القانون فأنتجت مُنتجا ساد على الشعوب و لا سيما فى مصر ألا و هو البلطجة ..
لقد درست الحكومات العربية نفسية الشعب العربى فوجدوا شعارهم " من خاف سلم " .. فتفنن أولئك الحكام فى ممارسة التهديد ثم القمع و التعذيب و التنكيل وأدا لأى صوت ينوى أن يطالب بحقوقه أو يتشجع للدفاع عن مبادئه .. حرص أولئك الحكام على تنفيذ قاعدة" فرق تسد" حرصا منهم ألا يتحد أفراد شعوبهم لأن فى الإتحاد قوة تحطم جدار الخوف الفولاذى فتصدأ و تكهن منتجات أخطارهم.. حينئذ لا يستطيعوا إرهاب شعوبهم و إشباع مطامعهم ..فعلى مدى أربعين عاما من الزمان أخذ هذا الجدار يعلو و يرتفع فى نفسية مسيحي مصر مُنتجا مئات المذابح و آلاف الجرائم من حرق لكنائسهم و هدم لبيوتهم و خطف و إغتصاب لبناتهم إلخ
لم يثور الأقباط طيلة هذه الفترة مما زاد المعتدين جُرأة و انتهاكا لحقوقهم بل و ساندتهم الحكومة فتجاهلت حقوق المواطنة للمسيحيين فى بناء الكنائس و اعتلاء الوظائف القيادية وإمعانا فى هذا التجاهل برأ القضاء المصرى ساحة كل من قام بجريمة شنعاء ضد الأقباط بداية من الخانكة حتى ديروط مرورا بالكشح الأولى و الثانية و الأسكندرية إلخ .. إن جدار الخوف قد بناه الأقباط فى نفوسهم و نفوس أولادهم .. فقد رسخ كل رب أسرة فى بيته مبدأ " واحنا مالنا هو احنا اللى هنغير الكون ملناش دعوة بالحاجات دى خلينا فى حالنا".. تحايل كل فرد على تثبيت و تعميق ذاك الجدار مُستشهد بتفاسير خاطئة لآيات من الكتاب المقدس .. فكانت آيات التسامح و المحبة هى المادة الأسمنتية فى إقامة هذا الجدار و المادة المُخدرة المريحة للضمائر حتى تسكت و تصمت .. أحبائى .. إن التسامح و المحبة لا يتعارضان مع المطالبة بالحقوق و التنديد بالجرائم التى تحدث للأقباط يوميا فى مصر .. لقد علمنا السيد المسيح ربنا و إلهنا أن نواجه المعتدين ليس بالإعتداء عليهم بل بالتنديد و المطالبة القوية بحقوقنا .. علمنا أنه " إن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه" (مت 18 : 15) .. إن عبارة من لطم على خدك الأيمن حول له الآخر أيضا ليس معناها أن نكون ( ملطشة ) وقد فسرها لنا السيد المسيح عمليا حيث أدار خده الآخر ليواجه من لطمه
"ولما قال هذا لطم يسوع واحد من الخدام كان واقفا ، قائلا : أهكذا تجاوب رئيس الكهنة 23أجابه يسوع : إن كنت قد تكلمت رديا فاشهد على الردي ، وإن حسنا فلماذا تضربني" ( يو 18 : 22 و 23) .. إن الجدار الذى رسخ فى نفوسنا هو خوف مُقنع بالمحبة و التسامح .. و الخوف هو ضعف إيمان يقود صاحبه إلى خارج ملكوت السموات حيث أن " الخائفون وغير المؤمنين والرجسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الاوثان وجميع الكذبة فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنار وكبريت الذي هو الموت الثاني " )رؤ 21: 8) .. أحبائى ..لقد بدأنا فى هدم جدار الخوف العازل من نفوسنا و بدانا بقوة إلهنا فى مواجهة جريئة مع من يعتدون على أقباط مصر و مُحرضيهم .. و ها ثمرة من ثمار هذه المواجهة قد جنيتموها بعزل معالى السفير ناصر شامل سفير مصر بكندا من منصبه بعد أن هدد أقباط كندا و توعدهم إذا خرجوا فى المظاهرة السلمية فى 30يناير 2010 للتنديد بمذبحة نجع حمادى و إخوتها من المذابح التى تُمارس على أقباط مصر تحت مظلة أمنية مكثفة .. و ما قام به الأقباط فى مصر و الخارج من مظاهرات استنكارية تندد بتلك المذابح و الجرائم كان لها عظيم الأثر فى إحتلال القضية القبطية مقدمة المؤتمرات و الجلسات العالمية .. فقد أدان الكونجرس الأمريكى و الإتحاد الأوربى تقاعس الحكومة المصرية عن حماية أقباطها و جاء تقرير الخارجية الأميريكية مُتهما مصر بتجاهل الحرية الدينية وبعدم الدفاع عن الأقباط .. لقد بدأنا و علينا أن نكمل .. علينا أن نتكاتف لهدم هذا الجدار اللعين بمعاول الجُرأة واثقين من معونة إلهنا .. علينا أن ننزع جذور الخوف المخزية من نفوسنا و نفوس أولادنا بتربيتهم تربية سوية سليمة و هذا موضوع المقال القادم . |