بقلم: أحمد الخميسي
في يناير 2010، أصدر مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، تقريرًا بإشراف د. ماجد عثمان بعنوان "ماذا يقرأ المصريون".. التقرير متاح في موقع المركز على شبكة الإنترنت.. والخلاصة العامة للتقرير – الذي لا ينص على ذلك صراحة – هي أن المصريين إجمالاً لايقرأون شيئًا! لا صحفًا ولامجلات ولا كتبًا ولا "يحزنون"، وإذا كانت هذه هي حالة القراءة، يصبح السؤال الحقيقي هو: "لماذا لا يقرأ المصريون؟".. فلنبدأ إذن بأن نخرج من الحسبة خمسة وعشرين مليون نسمة من المصريين العاجزين أصلا عن أي قراءة لأنهم أميون، أي 30% من السكان وفق التقرير.. ورحم الله عميد الأدب العربي طه حسين الذي قال إن التعليم مستقر الثقافة.. وترى 72 بالمئة من الأسر المصرية وفق التقرير أن السبب في العزوف عن القراءة هو تدهور مستوى الدخول (أي الفقر) الذي يحول دون شراء الكتب خاصة مع ارتفاع أسعارها.
الأمية والفقر في المقام الأول هما عدو الكتاب والثقافة والقراءة.. والأوضاع الاجتماعية أولاً وليست الذهنية هي التي تحتاج إلى تغيير، وتعديل هذه الأوضاع هو المقدمة الحقيقية للباحثين عن التنوير.. هناك واعتمادًا على معطيات مرصد الأحوال المصرية أرقام أخرى مدهشة.. فقد ورد فيه أن 88 % من الأسر المصرية لا يقرأ أي من أفرادها أي كتب على الإطلاق ماعدا الكتب المدرسية، يتجرعون ما فيها ويسارعون بنسيانه عن ظهر قلب.. وحين نقول 88 %، فإننا نعني في حقيقة الأمر تقريبًا أن كل الأسر المصرية لا تقرأ شيئًا!.. ويشير التقرير إلى أن أكثر من ثلاثة أرباع الأسر (76%) لا يشتري أية صحف من أي نوع على الإطلاق!..
وكثيرًا ما لاحظتُ عند أكشاك باعة الصحف الناسَ واقفين يطالعون عناوين الصحف دون أن يشتروا منها شيئًا، كأنهم يسرقون الوعي حتى يزجرهم البائع: "ح تشتروا ولا لأ؟!".. فينصرفون مغمغمين يكلمون أنفسهم.. ويرصد التقرير حقيقة أن نسبة من يقرأون الصحف بانتظام داخل الأسر المصرية لا تتجاوز سبعة بالمئة، ومن بين تلك النسبة ثلاثون بالمئة يستعيرون الصحف ويردونها لأصحابها بعد قراءتها!.. عنوان التقرير "ماذا يقرأ المصريون؟" وجوهره: "لماذا لا يقرأ المصريون الذين علموا الدنيا كلها الكتابة والقراءة والفنون كلها؟"..
هذا ويُلاحظ التقرير أن نسبة القراءة المرتفعة تتركز في القاهرة والجيزة والأسكندرية، أي في المدن الكبرى، وتتلاشى في الريف الذي تسوده "أرخص ليالي" التي كتبها يوسف إدريس منذ خمسين عامًا عن "عبد الكريم" الفلاح بإحدى القرى حيث تعشش تحت الظلام "البيوت المنخفضة الداكنة".. جافي النوم "عبد الكريم" بعد كوب شاي ثقيل، ولا يدري ماذا يفعل؟ إلى أين يذهب؟ أين يقضي السهرة وليس في جيبه مليم؟، ولا يبقى أمامه من نزهة للروح سوى بدن امرأته بقدميها اللتين" عليهما التراب بالقنطار" ، فيخلع ثيابه بقربها مستعدًا لما سيكون وهو يقول: "هه.. الله يخرب بيت اللي كان السبب!".
في آخر زيارة لي إلى موسكو، منذ عدة سنوات، ركبت مترو الأنفاق.. محطات المترو متاحف للوحات وتماثيل منذ إنشاء المترو.. الجديد في تلك المرة أنني رأيت عربة قطار خاصة ضمن سلسلة العربات كتب عليها من الخارج "عربة الثقافة"، تزينها صور كبار الشعراء والكتاب، تدخلها فتجد على حوائط العربة بالداخل قصائد صغيرة لأمير الشعراء بوشكين، وقصصًا قصيرة لتشيخوف، وجوجول، وأساطير شعبية موجزة، وعبارات جميلة كعبارة دوستيوفسكي "الجمال سينقذ العالم"، وصورًا للكتاب ونبذة عن حياة كل أديب. حينذاك سألت نفسي بقوة: "هل يمكن أن يحل يوم أرى فيه عندنا عربة مترو كهذه، عليها صور توفيق الحكيم ونجيب محفوظ؟.. عربة مخصصة للثقافة؟ ننقش على حوائطها قصص طاهر لاشين ويوسف إدريس ويحيي حقي؟ وقصائد لحافظ إبراهيم وصلاح جاهين؟".. يبدو أنني سرحت، وأن أحلامي أخذتني بعيدًا، فمعذرة!
Ahmad_alkhamisi@yahoo.com |