بقلم: كمال غبريال يقول راعي "جمعية التغيير" أن "الذين شاركوا في هذا الاجتماع التأسيسي، إن صح التعبير، لم يأتوا من فراغ وإنما كان وراءهم جهد تنسيقي متراكم". هذا جميل ومحبط في آن، جميل أن نعلم ربما للمرة الأولى أن هناك من يبذل جهودًا للتغيير، ويقوم بمراقبة وتنسيق تلك الجهود، من أجل انتشال الشعب المصري من هوة التخلف، الذي يزداد يومًا فيومًا غوص البلاد والعباد وتورطهم في أوحالها. . لكن المحبط في الأمر فعلاً، أن يتمخض الجبل التراكمي الذي يتحدث عنه هؤلاء فيلد فأرًا!! ربما الفأر الذي أنجبه هؤلاء وليد جيد ولا بأس به، فنحن نحتاج الفئران لقرض بعض خيوط شبكة التخلف الملتفة حول أعناقنا، لكن إن كان هذا الفأر هو أقصى ما تستطيع النخبة المصرية إنجابه، من خلال مجهوداتها المتواصلة المتراكمة كما يتحدث صاحبنا، فبئس تلك النخبة، وبئس التغيير المبتغى على يد هؤلاء، بل وبئس المستقبل إذا ظل أمثالهم في مقدمة مسيرة مبتغاة للتغيير!! الفأر الذي تمخض عنه جبل التغيير الذي يدعيه هؤلاء، هو فقط رفض التوريث للسلطة في مصر. . لذا نقول أنه فأر جيد، نحن بالفعل في أشد الاحتياج إليه. . يحتاج جيلنا في بداية العقد الثاني من الألفية الثالثة، أن يحقق ما أقسم عليه أحمد عرابي في بداية العقد التاسع من القرن التاسع عشر، وهو "أننا لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم". . هي خطوة كبيرة بالفعل أن نكف عن أن نكون متاعًا يورث، أو عزبة إقطاعية يتوارثها العسكر وأبناؤهم. لكن هل هذا هو كل شيء؟. . هل كل ما تحتاج إليه مصر الراسبة بجدارة في امتحان التحضر والتطور، أن نستبدل من هم على كراسي الحكم حاليًا، ببعض ممن يقفون خارجه، يمارسون الصياح والشجب والتنديد؟. . هل هذا وحده كفيل بمنع تصادم القطارات وغرق العبارات، وآلاف حوادث القتل على الطرق السريعة والبطيئة، ووقف تدهور كافة مجالات حياتنا، بداية من العلاج والتعليم والبطالة، وصولاً إلى حالة القضاء والمنظومة التشريعية بمجملها، وليس انتهاء بقنبلة الالتهاب وليس مجرد الاحتقان الطائفي؟!! نعم تطوير آليات تداول السلطة السياسية لابد وأن يترتب عليه بالتبعية تطور في نواح عديدة من حياتنا، لكن ما لا يغتفر لنخبتنا المتصدرة للصياح والتغيير، خاصة وأن في مقدمتها من يحملون لقب "بروفيسير" في العلوم السياسية، هو أننا لسنا في عصر الرجل أو الرجال الأفراد وإنجازاتهم، لكننا في عصر المؤسسات والنظم والعلاقات، التي إذا ما أسسناها على الصورة الأكمل، فلابد وأن يضطر الرجال مهما كانت نوعيتهم، إلى السير على هداها، وإلا سيجدوا أنفسهم عاجلاً أو آجلاً مطرودين خارج الحلبة!! هل يتصور من يستنهضون الشعب الآن للمطالبة بالتغيير، أن ما يخنق مصر وقد يجعلهان إذا استمر الحال على هذا النحو، مرشحة لأن تكون دولة فاشلة، هو مجرد رداءة شخوص القائمين على الأمور؟! أتصور أن من يمكن أن يجيبوا على هذا التساؤل بالإيجاب هم فقط السذج. بل وربما يجدر بنا هنا قول كلمة حق وحقيقة، هو أن كثيرين ممن يتصدرون الآن لتسيير أمور البلاد، هم من خيرة رجال مصر ومستنيريها وشرفائها. نعم هناك أضعاف أضعافهم من عينة أخرى، لا داعي للتفصيل في ذكر صفاتهم ومنطلقاتهم، فما نريد التركيز عليه هو أن المسالة أو المشكلة المصرية، لم ولن تكون بالدرجة الأولى مشكلة رجال، وإن كان لابد وأن تكون كذلك بالدرجة الثانية أو الثالثة. بل هي مشكلة ثقافة سائدة، وعادات وتقاليد ونظم وعلاقات وقوانين ودستور. . هي أيضًا مشكلة سلوكيات مصرية فاسدة وعشوائية، تبدأ من القاعدة. . من القرى والنجوع والأزقة والحارات والأسواق والدكاكين والورش الصغيرة، لتتصاعد للمصانع والوزارات ومجمع التحرير بما يحوي ومن يحوي، لتصل في نهاية لابد منها إلى القصر الجمهوري. إذا عدنا إلى السادة رموز وأركان ما قدم للناس على أنها "الجمعية الوطنية للتغير"، والذين لم يتكرموا علينا، أو لم يتراكم لديهم (على حد تعبير كبيرهم) سوى الدعوة لتغيير يتيح تداول السلطة، فهل لنا أن نتيقن بأن هذا التداول إن حدث، سيأتي برجال أكثر قدرة، وأكثر إخلاصًا في عملية التغيير الحقيقي للواقع المصري؟ الإجابة المثلى على هذا السؤال هو كلمة "ربما"، وهي إجابة مبشرة ولاشك، خاصة في ظل حالة اليأس والإحباط التي أصابنا بها القائمون على أمورنا الآن. . فأن نتحرك من وضع اليأس التام، إلى وضع "ربما" يكون أفضل، هو بلا شك نقلة ولو طفيفة للأمام. . لكن مع الأسف لن يدوم هذا التفاؤل الحذر، إذا ما تأملنا في تشكيلة الشخصيات التي تتكون منها "الجمعية الوطنية للتغيير"، وهي الشخصيات المرشحة بلا شك لأن "تتمجلس على الكراسي" في حالة نجاح عملية التغيير المنشود في آليات تبادل السلطة في مصر. لقد تذكرت هنا مقطع من أغنية في مقدمة مسلسل تليفزيوني قديم، يقول: "سكان العمارة تشكيلة غريبة. . فيهم الأمارة، والناس العجيبة. . . ."، نجد فيهم ذوي اللحى الخفية والمستترة، والذين يتمثل التغيير والإصلاح في مفهومهم، في العودة بنا إلى نظم وتشريعات كانت متبعة يومًا لدى تجمعات بشرية محدودة في القرن السابع الميلادي. . ونجد أصحاب الحناجر فائقة القدرات، ممن يزعقون بشعارات معارك الستينات الوبيلة، والمنادين بعودة رأسمالية الدولة، وعدالة توزيع الفقر على الشعب، وعدالة اقتسام المنهوب منه على ثواره ومناضليه. . ونجد فيهم من لا يعرف من التغيير غير إعلان الحرب الساخنة والباردة على إسرائيل ومن هم وراء إسرائيل، ولا يعرف ولا يكترث بتأثير فيروس الكبد الوبائي والفشل الكلوي وسائر قائمة الأمراض المنتشرة، على صحة الجنود الذين سيواجهون إسرائيل وضفتي المحيط الأطلنطي وربما الهادي أيضاً، ومن هؤلاء أيضًا نجد أبواق المقبور صدام حسين، وأسرى فضل وهبات القذافي ملك ملوك أفريقيا. سنجد أيضًا الباحثين عن دور عربي وإسلامي ريادي لمصر في المحيطين الإقليمي والعالمي، في حين لا دور يذكر للحكومة المصرية في الدويقة التي تنهار على رؤوس ساكنيها، ولا في نجع حمادي ومرسى مطروح، حيث الكلمة الأولى والأخيرة للقبائل العربية والبدوية، تحمي الأقباط تارة، وتعمل فيهم حرقًا وتدميرًا وتقتيلاً تارة أخرى، دون أن تجسر الدولة المصرية العريقة في الطغيان، أن تقر سيادة القانون والعدالة. كما نجد وسط أشاوس "الجمعية الوطنية للتغيير" أيضًا مطاريد الحزب الحزب الوطني، الذين صبروا على البقاء بين صفوفه، حتى تأكدوا أن لا نصيب لهم من كعكة الوطن المنهوبة، فتحولوا إلى طلاب تغيير وتداول سلطة!! هل ما يجري الآن بالفعل دعوة للتغيير الحقيقي، الكفيل بنقل مصر من عصورها الوسطى إلى عالم الألفية الثالثة، أم هو مجرد صراع على السلطة، بين المهمشين والمطرودين والذين انتهت صلاحيتهم وصلاحية ما يحملون من أفكار وشعارات، وبين الممسكين بزمام الأمور، يرضعون بشراهة من ضرع البقرة المصرية، تلك التي كانت يومًا بقرة حلوب، قبل أن يقفز على ظهرها العسكر والمغامرين وشذّاذ الآفاق؟!! |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت | عدد التعليقات: ١ تعليق |