بقلم : ماجد سوس المحامى
المكان: منطقة العصافرة القبلية بالأسكندرية.
الزمان: بداية القرن الحادي والعشرين.
الأحداث: مائة الف قبطي يعيشون بدون كنيسة أو حتى حجرة صغيرة للصلاة. الإمكانيات بسيطة، فالمنطقة بها جزء كبير من العشوائيات. وكان الحل هو البحث عن مكان صغير للصلاة وسط الأبنية المتهالكة والمتواضعة.
وكان قداسة البابا شنودة الثالث - اطال الله حياته - قد قام برسامة آباء كهنة لهذه المنطقة لخدمتها دون وجود بناء كنيسة لأنه دائماً يعتبر أن رسامة كاهن هو بمثابة بناء كنيسة في ظل أجواء الظلم والتعسف المانعة لبناء الكنائس.
وبعد بحث وتنقيب تم الحصول على مخزن في شارع يسمى "شارع 45" وكانت فرحة الشعب به غامرة وبدأوا بالصلاة في المكان واشترك معهم أحد الآباء الأساقفة الأجلاء. ولكن كما يقولون "يا فرحة ما تمت" فقد تحركت قوات الأمن بأعداد هائلة.. ولم تكن متجهة نحو غزة لحماية الفلسطينيين.. ولا لمواجهة جماعات الجهاد المسلحة أو لقتال منظمة حماس الإرهابية.. بل تحركت تلك القوات نحو مجموعة من الأقباط العزل لكي يحتلوا مكان صلاتهم الصغير، وقاموا بطرد الآباء الكهنة والشمامسة وأفراد الشعب بالقوة ثم أغلقوا المكان وختموا بابه بأختام الشمع الأحمر و وضعوا عليه المتاريس وقوة لحراستة... ولم يملك الأقباط إلاَّ أن ينصرفوا إلى بيوتهم في حزن شديد.
في اليوم التالي ذهب أعضاء المجلس الملي السكندري إلى الحاكم الفعلي للدولة المصرية وهو جهاز مباحث أمن الدولة، وكان والدي في ذلك الوقت عضواً في المجلس الملي ورئيسًا للجنة الشئون القانونية بالبطريركية. حاول أعضاء المجلس الملِّي جاهدين ان يعيدوا فتح هذا المكان للصلاة فرفض مدير مباحث أمن الدولة، وألحوا عليه أن يفتح المبنى ولو للخدمات الروحية والإجتماعية فقط دون ان تسمى كنيسة، فرفض بشدة بل وصرخ قائلا: هذه الكنيسة لن تفتح ولاعلى جثتي.!
انقطع الأمل في فتح الكنيسة خصوصًا بعد ان أكَّد مدير المباحث أنها لن تفتح إلا على جثته. إلا أنه حدث أمرٌ عجيب.. فقد ألهم الله أحد الآباء الكهنة الشبان أن يذهب مع كاهن آخر إلى شيخ الجامع الأزهر الراحل محمد سيد طنطاوي، ليقصاعليه ما حدث، واستأذنا قداسة البابا الذي رحب بالفكرة وباركهما.
ذهب الكاهنان ومعهما خادماً من المنطقة إلى مشيخة الأزهر وإذا بالشيخ الجليل يستقبلهم إستقبالاً طيباً جداً وأنصت لقصتهم جيداً.
تصور معي عزيزي القارئ.. ماذا فعل هذا الشيخ الجليل؟ لم يعطهم وعوداً براقة - كما تفعل الحكومةً؟ لم يتأثر وقتياً ويقول ان هذا شأن قبطي مع الحكومة لا دخل لنا فيه؟ لم يعدهم بحل الموضوع قريباً؟ ولكنه اتخذ خطوة إيجابية إذ أمسك بجهاز التليفون الموجود أمامه وضغط على الزر الذي يتيح التحدث والإستماع الجماعي speaker وتحدث إلى وزير الداخلية وقال له بصوت عال: كيف تكون هناك منطقة يعيش فيها هذا الكم الهائل من الأقباط وليس بها كنيسة واحدة.. واستفسر منه عن هذه الكنيسة. زعم الوزير أنه لا يعلم شيئاً عنها وأنه لا مانع لديه لفتحها، فانتزع الشيخ موافقة وزير الداخلية من فمه، وقال الوزير أنه ربما تكون لدى المحافظة أسباب تمنع فتحها!.
شكره الشيخ وقام بطلب محافظ الاسكندرية على التليفون وتحدث إليه بصوت عال أيضاً.. فقال المحافظ أنه ليس لديه أي مانع على الإطلاق من إعادة فتح الكنيسة، وهكذا انتزع من فمه ايضاً الموافقة. وقال للآباء الكهنة أرجعوا إلى الاسكندرية وستفتح كنيستكم غداً، واقسم لهم انه لو وجد في منطقة الأزهر عائلات مسيحية لكان هو أول من طالب ببناء كنيسة لها هناك.
وبالفعل... ويا للعجب... قام جهاز الأمن في نفس اليوم بالاتصال بوكيل البطريركية وبالمجلس الملي وألحوا عليهم ان يتم فتح الكنيسة والصلاة فيها، حتى ان الأقباط طلبوا الانتظار حتى يوم الأحد لترتيب المبنى ولكن مدير أمن الدولة رفض التماسهم واصر على فتح الكنيسة فوراً.
بعد عام تم ربط شارع 45 بشارع رئيسي كبير يربط المنطقة القبلية بالمنطقة البحرية فأصبحت الكنيسة موجودة على هذا الشارع الرئيسي وسميت بكنيسة القديس الأنبا موسى الأسود. وفي عهد المحبوب عبد السلام المحجوب محافظ الأسكندرية العظيم السابق تم بناء هذه الكنيسة لتصبح كاتدرائية ضخمة جميلة مزينة بالقباب والمنارات.
هذا ما فعله شيخ الأزهر الراحل، وهذا ما شاهدته بعيني وعاصرته بنفسي، وكان فضيلته قد قام بفتح كنيسة بمحافظة البحيرة من قبل، ويقال أنه قام بهذا العمل الجليل مع الأقباط في عدة مواقف أخرى كما ساهم في بناء بعض الكنائس على قدر استطاعته.
هذا الرجل عالم الدين المعتدل المحب للأقباط وللوحدة الوطنية لا بالكلام ولا باللسان بل بالعمل، فقد أجاز للمسلم أن يتبرع لبناء الكنائس ورفض الفتوى التي صدرت من دار الإفتاء بعكس ذلك، كما رفض الزَّعم بأن الأقباط يعبدون ثلاثة آلهه، بل قال بالحرف الواحد أمام وفد منظمة الاتحاد المصري لحقوق الإنسان أن "البابا شنودة يقول في خطبه العامة أمام الرئيس وأمامي وأمام الجميع "باسم الإله الواحد الذي لا إله غيره،" فما دام سيادته يقول هذا فلماذا أسيء الظن بعد ذلك؟ الذي يحاسبني ويحاسبك هو الله..".
وعن رأيه في بناء الكنائس قال أنه "ليس لديه مانع بل يود أن تبنى كنيسة ومسجد في كل شارع". وحول مشروع قانون دور العبادة الموحد قال: "لو سئلت من الجهات المختصة، سأقول ان الأزهر ليس لديه أي مانع". وقد نشر كل هذا الحديث بتفاصيله في جريدة الدستور وفي جريدة مصراوي الالكترونية، كما كان للرجل موقف نبيل ورائع مع الأقباط في حادث شهداء نجع حمادي حيث قام بزيارتهم بنفسه في الوقت الذي لم يتحرك رئيس الحكومة أو الوزراء بزيارة المكان بل أكثر من هذا قيل أنه في أحداث بني سويف تبرع بمبلغ مائة الف جنيه من ماله ولكن قداسة البابا شكره ورفض ان يأخذ منه أية مبالغ.
و مواقفه العامة التي جلبت عليه المشاكل بهجوم شرس من المتشددين والمتطرفين كثيرة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، مناصرته لقضايا المرأة، فقد أفتى بجواز التحاق الفتيات بالكليات العسكرية والجيش. بل أكثر من ذلك أنه رأى أن المرأة: "تصلح أن تكون رئيسة للجمهورية وتتمتع بالولاية العامة التي تؤهلها لشغل هذا المنصب".
في 5 أكتوبر 2009 زارفضيلة الشيخ طنطاوي معهداً أزهرياً للبنات وطلب من إحدى الطالبات التي تبلغ من العمر 13 عاماً بأن تخلع نقابها ونقلت وسائل الإعلام قوله "أن النقاب مجرد عادة ولا علاقة له بالدين الإسلامي من قريب أو بعيد". ورفض إرتداءه داخل المعاهد والكليات الأزهرية وإثر ذلك طالب نائب إخواني يدعى حسن حمدي بعزل الشيخ الجليل إلا أن مجمع البحوث الإسلامية ساند الشيخ في موقفه وأيده رسمياً في قرار حظر النقاب.
و في دفاعه عن المرأة وافق على قانون "الخُلع" وأصدر فتوى في عام 2000 بأنه لا يوجد في الشريعة الإسلامية ما يمنع المرأة من الحصول على الطلاق بسهولة.
في 30 ديسمبر 2003 استقبل الشيخ طنطاوي وزيرالداخلية الفرنسي آنذاك "نيكولا ساركوزي" - وصرح الشيخ بأنه من حق الفرنسيين ان يصدروا قانوناً يحظر ارتداء الحجاب في مدارسهم ومؤسساتهم الحكومية باعتباره شأناً داخلياً فرنسيا، وأثارت آراؤه هذه علماء الدين الإسلامي في معظم أنحاء العالم.
هذا بخلاف فتواه ضد ختان الإناث وفتواه بتأييد فوائد البنوك التجارية، وتأييده لنقل الأعضاء البشرية وهي فتاوي جلبت عليه الكثير من المشاكل وهجوم المتشددين.
وفي الشأن السياسي:
- في أعقاب هجمات سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة قال أنه "ليس من الشجاعة بأي شكل قتل شخص بريء أو قتل آلاف الأشخاص من بينهم اطفال ونساء ورجال" ورفض وأنكر دعوة أسامه بن لادن للجهاد ضد الغرب.
- في عام 2003 قال الشيخ طنطاوي: أن من يقومون بالعمليات الإنتحارية "أعداء الإسلام" في الوقت الذي أفتى الشيخ القرضاوي بشرعية تلك العمليات ولاسيما ضد إسرائيل.
- في شهر فبراير 2003 وقبل إحتلال القوات الأمريكية للعراق أقال الشيخ طنطاوي الشيخ علي أبو الحسن رئيس لجنة الفتوى بالأزهر من منصبه بسبب ما قيل أنه صرح بفتوى يؤكد فيها "وجوب قتال القوات الأمريكية إذا دخلت العراق، وأنه بحل سفك دماء الجنود الأمريكيين والبريطانيين ، أما قتلى المسلمين فاعتبرهم من الشهداء.
- في نهاية أغسطس 2003 أصدر الشيخ طنطاوي قرارا بإيقاف الشيخ نبوي محمد العش رئيس لجنة الفتوى، عن الإفتاء، وإحالته للتحقيق، لأنه أفتى بعدم شرعية الحكومة العراقية - المجلس الانتقالي للسلطة - وحرم التعامل معها.
- في 12 نوفمبر 2008 اشترك في مؤتمر حوار الأديان الذي نظمته الأمم المتحدة والسعودية بنيويورك وعندما مد الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز يده ليصافحه مد هو أيضاً يده وصافحه. فانقلب الأخوان المسلمين عليه وطالب نوابهم بعزل الشيخ من منصبه.
- صباح الأربعاء 10 مارس 2010 كان يوماً حزيناً على العالم الإسلامي والمسيحي فقد توفى الشيخ الجليل عن عمر يناهز 82 عاما أثر نوبة قلبية تعرض لها في مطار الملك خالد الدولي عند عودته من مؤتمر دولي عقده ملك السعودية ودفن في منطقة البقيع بالمدينة المنورة بالمملكة العربية السعودية.
وقد نعى قداسة البابا شنودة الثالث في كلمات مؤثرة جداً الشيخ الجليل قائلا: "حزنت حزناً تملك كل كياني حينما فوجئت بسماع خبر وفاة صاحب الفضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر. إنها خسارة كبيرة لا تعوض. فقد كان رحمه الله مجموعة من الفضائل، وكانت له في قلبي محبة عميقة. وكنت أعتبره أخاً لي وصديقاً. وكنا نتفق معاً في كثير من الأمور والمواقف، ولا أجد عزاء في فراقه".
وقد طالب كهنة الاسكندرية بل والكنيسة القبطية كلها - ممثلة في النائب البابوي - من محافظ الاسكندرية بإطلاق اسم د. محمد سيد طنطاوي، شيخ الأزهر الراحل على أحد الشوارع أو الميادين الرئيسية بالاسكندرية أو على المعهد الديني الذي درس به الشيخ خلال رحلته العلمية، وكان هذا في الكلمة التي ألقاها القمص رويس مرقس وكيل قداسة البابا بالاسكندرية، كما نعى الفقيد الكبير كل من الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الانجيلية وأشاروا إلى التعاون الكبير الذي وضع بذرته الشيخ طنطاوي في حواراته مع الطوائف المسيحية.
عزيزي القارئ... هذا هوالراحل العظيم الإمام الأكبر الشيخ طنطاوي، الرجل الذي كانت إبتسامته نابعة من قلبه بكل صدق ومودة دون زيف، وكنا نشعر أنه مختلف عن أي رجل دين آخرفقد كان يردد دائماً إن إختلاف العقائد ليس له شأن في المحبة والتعاون والعمل المشترك. لقد فقد العالم إنسانا من الصعب أن يتكرر، دمث الخلق، متمسكاً بأخلاقيات ومبادئ جعلت كل المتطرفين والمغيبين ضده، ولكنه لم يأبه بشيء بل ظل ثابتا على مواقفه الإنسانية حتى آخر نفس في حياته..
وداعاً أيها الشيخ الجليل.. وداعاً أيها البشوش الذي كان يخشى على الوحدة الوطنية وسلامة الدولة اكثر من الدولة نفسها.. وداعاً للرجل الذي لم يركب موجة إضطهاد الأقباط أو موجة إنحدار المجتمع نحو مجتمع الجاهلية. وداعاً للرجل الذي تخلى عن مجده الأرضي ليكون ناموساً لنفسه.. لقد ملء الدمع جفن قداسة البابا بل وجفن كل قبطي عرفك جيداً.. إلهنا يا شيخنا غير ظالم، لن ينسى تعب المحبة الذي قدمته لإخوتك الأقباط وللكنيسة.. في مراحم الله نطلب من أجلك.
أحبائي... آه.. لو كل المسلمين كذاك الرجل، لعادت مصرنا لأجمل أيامها.. لعادت لعهود الحب والعمل المشترك ووحدة الوطن. |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|