بقلم : القس/ صموئيل زكي سليمان
عشت في مدينة الأقصر قرابة سبع سنوات من عام 1997 حتى أواخر عام 2003. كنت أعمل فيها راعيًا لثلاث كنائس هي الكنيسة الإنجيلية بالأقصر، الكنيسة الإنجيلية بالعديسات، والكنيسة الإنجيلية بالمريس. كانت هذه الفترة من أجمل فترات حياتي، وأصبحت تاريخ عظيم محفور في داخلي. لم أكن فيها مجرد واعظ علي منبر كنيسة، لكني باقتناع شديد كنت أقتاد بسيدي المسيح ـ له كل المجد ـ الذي كان يقدم الحب العملي لجميع الناس، حتى من كانوا يكنون له العداء من طوائف وجماعات اليهود المختلفة. فقد كان يجول يصنع خيرًا، ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس من جميع فئات الناس.
لذا لم تكن رسالتي لشعب الكنائس التي أرعاها فقط، لكن لكل إنسان له احتياج، ولديَّ مقدرة أن أمد له يد العون، بغض النظر عن دينه أو فكره أو عقيدته. وكانت تربطني بمن حولي أقوى الروابط والمشاعر الإنسانية الطيبة بما فيها من حب صادق وتآخي حقيقي مع المسلم قبل المسيحي. كنا نعمل معًا أنا والمعاصرين لي من قيادات الأقصر لخدمة بلدنا مصر. كان عملنا عملاً جماعيًا بروح الفريق الواحد، والكل كان يتسابق ويتفانى ويعمل على تعميق مشاعر الحب والانتماء لبلدنا مصر، وأيضًا على تعميق وحدة الوطن الواحد.
جمعتنا كمسئولين بالأقصر مواقف عظيمة لا تكفيها صفحات للتعبير عنها. كنت كرجل دين أجد كل الاحترام اللائق من رجل السلطة التنفيذية، لأنه يدرك إني حامل رسالة الله للناس وفي نفس الوقت كنت أقدم كل التقدير والمهابة لرجل السلطة التنفيذية، لأنه مسئول عن خدمة الوطن الذي نعيش فيه. بل كنت أعتبر نفسي الذراع الأيمن له لمساعدته والتعاون معه بقدر المستطاع. فكل منا راعٍ, وكل منا مسئول عن خدمة الوطن بحسب موقعه, ومن خلال مجال عمله, وفي حدود الدائرة التي يعمل فيها، وكلنا سنصفي حسابًا أمام الله على الوكالة التي ائتمننا عليها.
خدمتي بالأقصر حُفِرت في داخلي بأعظم المشاعر التي لا يمكن أن أنساها أو يغيب عن خاطري موقف منها لحظة واحدة. أنني لو أردت أن أكتب تفصيليًا عنها بأمجادها العظيمة بلا مبالغة فلا تكفيني كتب. وقد تُوجت بتكريم سيادة اللواء الدسوقي البنا لي وتقديمه لي درع الأقصر حبًا وعرفانًا وتقديرًا لخدمتي بالأقصر، بل كان هناك تاج أفضل هو محبة ودموع أهل الأقصر وخاصة لأحبائي المسلمين.
عزيزي القارئ ـ بهذه المقدمة ـ أردت أن أقول لك: إن الأقصر ليست غريبة عني, لم أكن قد سمعت عنها أو قرأت عن تاريخها؛ لكني عشت فيها وعاصرت أحداثها المرة والحلوة, وشاركت في برنامج خدمتها, لذا فأنني مُدرك تمامًا لتاريخها ودرست تركيبة وطبيعة شعبها, وفهمت أولويات احتياجاتها, وأعرف قيمة آثار مصر بها، وأفهم خريطة أرضها.
في هذه الفترة الزمنية ـ وفي عهد نخبة من المسئولين الأفاضل من المحافظين ومديري الأمن الذين تركوا بصمات جميلة في الأقصر ـ كانت هناك دراسات كثيرة لتطوير وتجميل الأقصر وكان في مقدمتها طريق الكباش، وكانت وسائل الإعلام تنشر ذلك وتم بالفعل عمل ما يسمى جسات لمعرفته (أي عمل حفر في الأرض بعمق يصل إلى أربعة أمتار)، وتم ذلك بجوار المحكمة القريبة من الكنيسة الإنجيلية, وتم ذلك أيضًا بالقرب من معبد الكرنك. وكل ما وُجد هو أجزاء من كباش، ولكن انتهت هذه الدراسات بالإجماع أن هذا المشروع فاشل لعدة أسباب:
1- كان هناك إدراك بأن هناك أولويات لخدمة البلد والآثار والسياحة أهم منه بكثير؛ فالبر الغربي يحتاج إلى عشرات السنوات للكشف عن الآثار النادرة فيه, ويحتاج إلى مجهود جبار. وفي نفس الوقت أن المجهود والتكاليف والأضرار التي تتم نتيجة حفر طريق الكباش بالمقارنة بما يظهر فيه من قطع كباش لا تتساوي بأجزاء ضئيلة من قطع الآثار النادرة في البر الغربي.
2- كل المحافظين والقادة السابقين لم يكونوا عاجزين عن القيام بهذا المشروع، لكنهم حكَّموا العقل وعملوا توازن للأمور. نعم كل قطعة أثار في مصر مهمة وهي تراث عظيم لمصر، ولكن أي مشروع لابد وأن تُحسب نفاقاته وأضراره والعائد منه قبل البدء فيه. ومن المهم استشارة الكثيرين من الخبراء في المجالات المختلفة, واحترام أرائهم ومشورتهم؛ حيث أنه لا يوجد إنسان على وجه الأرض يفهم في كل شيء، بل من المهم إخفاء الذات وإعطاء فرصة لفكر الآخرين أن يظهر.
3- إنه سيدمر الأقصر حيث أنه بطول قرابة 3 كيلو متر وعرض 76 متر والأقصر بكل منشأتها ليست كأي بلد عادية، لكنها مدينة سياحية ومبانيها غير عادية معظمها من الفنادق السياحية الفاخرة. وقد انتهى الأمر إلى أن هذا المشروع لم يكن مشروعًا للإصلاح والتطوير بل هو مشروع الهدم والتدمير.
تولى بعد ذلك السيد سمير فرج قيادة الأقصر، وأنا أُتابع أخباره لأنه غالي عليَّ. وجدت أن الاهتمام الأول والشغل الشاغل له هو طريق الكباش ودائمًَا تطالعنا الأخبار بهدم كذا ... وكذا... وكذا... والبلد تصرخ ومن يسمع لمن؟ حيث أن هناك تشدق بالكلمات... إنه مشروع التطوير وأنا أحترم كل رأي مهما كان مخالفًا لرأيي. ولكني أتفق تمامًا مع كل الذين يرون أنه مشروع فاشل... فاشل... فاشل لما تركه من آثار سلبية على البلدة.
أما ما حدث بالكنيسة الإنجيلية بالأقصر، أراه جريمة بشعة واعتداء سافر على الكنيسة وحرمتها وأن السيد سمير فرج يتصرف ولا يعط أي اعتبار للأخر وأقول ذلك للأسباب التالية:
أولاً: الكنيسة الإنجيلية بكل منشأتها ومباني خدماتها ومدرسة النصر المملوكة لها ـ والتي كنت مسئولاً عنها ـ تم بناؤها عام 1878 على يد الإرسالية الأمريكية الإنجيلية بمصر. وكانت مصلحة العوائد تحصل مني رسومًا باسم الإرسالية الأمريكية وقمت بالتصحيح طرفهم إلى اسم الكنيسة الإنجيلية بالأقصر. ويوجد مكتوب صادر من رئاسة الطائفة طرف مديرية أمن الأقصر يحمل اسمي واسم الكنيسة. وكانت هناك يافطة كبيرة تحمل هذا التاريخ بخط كبير على شارع معبد الكرنك. كانت موضوعة على السور المشترك للمدرسة والكنيسة، ويافطة أخرى على الباب الخلفي لمدرسة النصر. وبحسب قانون آثار مصر أي مبنى عمره أكثر من مائة عام يعتبر مبنى أثري ويلزم الحفاظ عليه لأنه تراث عظيم لمصر.
وكان من أهم انجازات السيد سمير فرج محافظ الأقصر هو هدم جزء من المدرسة المقامة عليها هذه اليافطة الكبيرة اعتقادًا منه بأن التاريخ يمكن أن يزال أو يطمس. أن هذا الاعتقاد خاطئ تمامًا فالتاريخ لا يمكن أن يُزال على الإطلاق.
والخطوة التالية: قام فيها بإحضار لوريات أمن ولوادر كبيرة, وقام بتدمير جزء حيوي مهم من كيان الكنيسة... أمر مذهل للغاية! لوريات وكردون أمن كبير ولوادر للهدم في الكنيسة الإنجيلية صاحبة الفضل والرسالة والتنوير! كنت أود أنه قبل أن يقوم بهذا الإجراء يسأل الطبقة المثقفة المحترمة فيخبرونه بأن الكنيسة الإنجيلية صاحبة الفضل وهي تملك ثلاثة من أفضل مدارس المدينة ذات المستوى العلمي الراقي والمتقدم.
إنه اعتداء على الكنيسة من زاويتين؛ اعتداء عليها ككنيسة أي كمؤسسة دينية، واعتداء أيضًا عليها كأثر عظيم وهو مطالب أن يحافظ عليها؛ فهي من آثار مصر العظيمة. إنه خالف قوانين ودستور مصر فيما يخص الآثار.
ثانيًا: التصريحات التي صرَّح بها ونشرت في جريدة المصري اليوم بتاريخ 25 /3/ 2010 وفيها يتهم الكنيسة بالكذب، هل الكنيسة تكذب! عزيزي القارئ أضع أمامك المعطيات وأترك لك الحكم... من الذي يكذب الكنيسة أم المحافظ؟ إنه يقول "إن المنـزل صاحبه كاهن في الكنيسة..." وهذا خطأ وغير الحقيقة تمامًا. فالقس لا يملكه بالمرة لكنه مبنى خدمات ملك الكنيسة الإنجيلية بالأقصر. والدليل على ذلك أنني أقمت أنا وأسرتي في ذلك المكان قبل القس الحالي وتركته عندما انتهت رسالتي بالأقصر، لأنه ليس ملكي ولا ملك أى قسيس آخر، ولكنه ملك الكنيسة. ومن زاوية أخرى أنه لم يكن منـزل ـ كما صرَّح ـ إنه يحتوي على مكان ضيافة لكبار الزوار، وقد شرفنا فيه سيادة اللواء سلمي سليم عندما كان محافظًا ومعه قيادات الأقصر عدة مرات بتمثيل رسمي في مناسبات الأعياد للتعبير عن مشاعر الحب من سيادته كمحافظ للكنيسة راعيًا ومجلسًا وشعبًا. وسيادة اللواء سلمي وكل قادة الأقصر الذين أمتعونا بعلاقات طيبة المسلمين قبل المسيحيين مازالوا على قيد الحياة ـ أطال الله أعمارهم ومتعهم بكل صحة وعافية ـ وهم يشهدون بذلك.
إن هذا المكان أيضًا هو مكان تربوي؛ فعندما جاءت اللوريات واللوادر وجدت بالفعل الأطفال داخل حضانة الكنيسة بهذا المبنى، وبه أيضًا مكتب للمشورة الرعوية للمساعدة في حل مشاكل الناس كجزء مهم وحيوي من رسالة الكنيسة. وبكل سهولة يأتي محافظ الأقصر باللوادر ويهدم ويدمر وكأنه لا توجد حقوق إنسانية, ولا مواثيق دولية, ولا قوانين مصرية رادعة لمن يخطئ. عزيزي القارئ إنك تتفق معي أن كل من أخطأ فليتحمل نتيجة خطئه مهما كان الثمن.
ثالثًا: في تصريحات السيد سمير فرج يقول: "أنا أزلت 4 جوامع ولم يفتح أحد فاه، لماذا لم يعترض المسلمين على هدم أربع مساجد؟" وأمام هذا التصريح أقول:
1- أن هذا التصريح لا يفرحنا بهدم أربعة مساجد فمن لا ينتمي لدينه فبالتأكيد لا يكون له انتماء لوطنه. ونحن نشجع الحفاظ على كل المساجد مثل الكنائس تمامًا.
2- أن هذا التصريح خطير للغاية لمن يفهمه؛ إنه يُحدث شرخ كبير في الكيان المصري وغير المصري بين المسلمين والمسيحيين. إنه تصريح يساعد على غرس أحقاد كبيرة داخل المسلم تجاه أخيه المسيحي. وبينما كنت أرى القيادات السابقة كان كل همها الحفاظ على الكيان الواحد أرى هنا غير ذلك.
3. 3- أتسأل هل هذا التصريح صحيح؟ هل يمكن للسيد سمير فرج أن يثبت لي أمام العالم كله بأية مستندات بشرط أن تكون صحيحة أن هذه المساجد أثرية؟ ويرجع تاريخها إلى تاريخ الكنيسة الإنجيلية بالأقصر وعمرها مائة وإثنين وثلاثون عامًا؟ مع تأكيدي أن أي تلاعب في التاريخ سيكشف الأكاذيب المبنية عليه.
رابعًا: قام السيد سمير فرج بالهدم والتدمير في مباني الكنيسة دون عقد أي اتفاق سابق مع الكنيسة الإنجيلية بمصر. وإذا كان لديه أي اتفاق واضح مكتوب فليعلنه أمام العالم كله. فالكنيسة الإنجيلية بالأقصر هي جزء لا يتجزأ من الكنيسة الإنجيلية العامة بمصر. وكل سنتيمتر مربع من كنيسة الأقصر, وكل حفنة تراب على أرضها هي ملك سنودس النيل الإنجيلي وهو "المجلس الأعلى للكنيسة الإنجيلية بمصر" ويمثله في هذا الشأن مجلس مسئول يسمى بمجلس الممتلكات السنودسية؛ فالقس راعي الكنيسة لا يملك, ولا مجلس الكنيسة المحلية يملك عقد أية اتفاقات. نعم يمكن أن يتفاوض فقط، ولكن المالك وصاحب القرار هو السنودس.
خامسًا: راعي الكنيسة وأسرته هو رمز للكنيسة وهو يمثلها أمام كل الجهات, لم يتدارك السيد سمير فرج هذه الحقيقة وأرسل لوادر ولوريات من قوات الأمن تجر الراعي, وتبعثر ملابسه, وتهدد بوضع ابنه تحت عجلات اللوادر, وتمسك جسد زوجته بطريقة غير محترمة. نعم أن السيد سمير فرج لم يكن موجودًا بالساحة، لكنه من حكم موقعة فهو المسئول الأول عن إهدار هذه الكرامة.
سادسًا: تجاهل السيد سمير فرج قوانين البلاد المصرية, ومواثيق الحقوق الإنسانية, وأرسل اللوادر واللوريات وتم عمل كردون الأمن, وأهدر كرامة الكنيسة وتوقع أنه "أمر وقد أنتهى" بل وربما وجد من يصفق له على هذا العمل البطولي. لا... فالحسابات كانت غير دقيقة، لأن هناك أخطر من كل هذا ألا وهو التجاهل لإله الكنيسة العظيم العادل الذي أعطانا الوعد في الكتاب المقدس: "إِنَّهُ إِنْ رَأَيْتَ ظُلْمَ الْفَقِيرِ وَنَزْعَ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِي الْبِلاَدِ، فَلاَ تَرْتَعْ مِنَ الأَمْرِ، لأَنَّ فَوْقَ الْعَالِي عَالِياً يُلاَحِظُ، وَالأَعْلَى فَوْقَهُمَا." جامعة 5:8
وللمقال بقية
الراعي السابق للكنيسة الإنجيلية بالأقصر
راعى الكنيسة الإنجيلية بالخصوص - عزبة النخل - القاهرة
عضو مجمع القاهرة الإنجيلي - عضو سنودس النيل الإنجيلي |