بقلم : نذير الماجد وحده المنهج المقارن الذي يتيح كشف التواشجات والتماهيات بين السياقات الثقافية ليبدو التاريخ مجرد سلسلة من الاستنساخات في الزمان والمكان، أو وقائع وأنساق تنتج ذاتها في حركة دائبة، أو سنة أو قانون لا يدع مجالا في حركة التاريخ للخصوصية أو الذاتية التي تتكفل بها اللغة فتعطي الثقافة قيمة التفرد والتمايز. الثقافة إذن توظف اللغة في بناء تاريخ فوق التاريخ، حيث ترسي تقابلا بين تاريخ موضوعي يتموضع ضمن المنظور الوضعي ويعيد اكتشاف التاريخ المتواري خلف الطبقات المتراكمة التي شكلتها الثقافة وتصوراتها الذهنية، وآخر ذاتي ينزع لبناء خصوصية أو يمعن في خلق رمزية تموه التاريخ، كلاهما تاريخ لكن الأول اكتشاف وحفر أركيولوجي أما الثاني فبناء وتشييد أيديولوجي. في السياق السياسي تكشف اللغة عن طاقة تمويهية عالية تعزز أدبية التاريخ أو ذاتيته، وتزيد من وعورة الطريق الذي سيسلكه المنهج المقارن لتحديد البنى المتعالقة والسياقات المتماهية، فالسياق السياسي في الوسط القروسطي الاسلامي هو ذاته في الوسط القروسطي المسيحي، لكن مفردات كالمسجد أو الحوزة أو رجل الدين ليست هي ذاتها الكنيسة أو الأكليروس أو البابا، وبالمثل فإن الإمام ليس هو ذاته الخليفة والخليفة ليس هو ذاته الملك كما أن الإمام ليس هو ذاته البابا، وهكذا تموه اللغة بلعبة الكلمات التواشج العميق الذي يربط بين السياقات الاجتماعية، لتصبح العلمانية التي هي حل وضرورة اجتماعية في وسط معين بمثابة خروج عن الدين أو استعداء الذات في وسط آخر. التطابق بين السياقات لا يتجلى بوضوح إلا بمنهجية مقارنة تكشف تواطؤ اللغة مع الأيديولوجيا الأمر الذي ألح عليه وجيه كوثراني لدى مناقشته رأي المستشرق برنارد لويس الذي قال باستحالة استنبات العلمانية في مناخ إسلامي، حيث تساءل كوثراني عن العامل الذي جعل الغرب دون سواه حاضنا ومرحبا بالعلمانية (الفقيه والسلطان- وجيه كوثراني). إلحاح كوثراني يعكس امتعاضا شديدا من مواقف استشراقية عديدة تجاه التراث الاسلامي، حيث لا تخلو من قصور ابستمولوجي إن لم تخل من تحامل وتحيز أيديولوجي، على أن الاستشراق يتجه أكثر من اتجاه في التعاطي مع العلاقة الملتبسة بين الدين والسياسة في الوسط الاسلامي، حيث تتراوح الدراسات الاستشراقية بين اتجاهات تنفي روحية الاسلام فتختزله في بعده السياسي، وبين اتجاهات تلح على بعده الروحي إلى جانب بعده السياسي والاقتصادي كالمستشرق اغناتس غولدتسهير في مقابل الاتجاه الذي يضم إلى جانب لويس المستشرق الفرنسي ألفريد بريمار الذي أكد على التداخل الوثيق بين الديني والدنيوي أو السياسي، حيث يقول في عبارة كاشفة: "الاسلام هو في الواقع (وفي الآن نفسه) خضوع لسلطة سياسية وخضوع لنظام ديني أسسه نبي هو أساس هذه السلطة، فمن يرفض السلطة السياسية يرفض بالضرورة النظام الديني الذي يبررها ويخلع عليها المشروعية، ولهذا السبب فإن الردة تقدم عموما من قبل المصنفين المسلمين على أساس أنها ردة دينية" ( تأسيس الاسلام، بين الكتابة والتاريخ، بريمار). ومع استدراك بريمار في هامش هذا النص الجزمي والوثوقي حيث يستعيد مفهوم الردة كمفهوم مغاير لمفهوم الارتداد في الفقه الاسلامي رغم الاشتراك في الجذر اللغوي يصبح من الضروري إدماج القراءة المغايرة سواء كانت شيعية أو خارجية للتاريخ بغية ارساء "كتابة تاريخية" أكثر دقة أبستمولوجيا وهو الهدف الذي كان يسعى إليه بجدية المستشرق بريمار وأزعم أنه كان وشيكا منه. الإسلام تاريخي أكثر مما يجب!: هذا التحليل ينتهي إلى قراءة جوهرانية للوسط الاسلامي تمنع أي تطابق في السياقات الاجتماعية والسياسية والتاريخية مع الأوساط الدينية الأخرى وتحديدا الوسط المسيحي الغربي الذي يملك تراثا هجينا يضم إلى جانب الدين الذي يشكل عاملا مشتركا مع الشرق عقلانية تمثل خصوصية ثقافية. هذه الثنائية في التراث الغربي انعكست على شكل تداخل علائقي ووظيفي بين الزمني والروحي، فالغرب الذي يرتكز في ذاته التراثية على دعامة الدين القادم من الشرق أراد اكتشاف ذاته الخاصة به وهي ذات عقلانية كما تتبدى له، ولكن الذات لم تكتشف إلا بعد سيرورة تاريخية مضنية. الحق بين الله والإنسان: في خضم هذا الصراع انقسم المجتمع المسيحي على امتداد العصور الوسطى وحتى بداية النهضة إلى فريق مناصر للبابا وسلطته الزمنية وفريق آخر يناصر الإمبراطور المتوج من البابا نفسه، المثقفون كذلك كان لهم دور في الدفع بوتيرة النقاش السياسي المرتكز في أغلبه على مشروعية الملك بوصفه يتمتع بالحق الإلهي فقد انحاز المثقفون إلى صف الامبراطور لا بوصفه حاكما زمنيا بقدر ما يمثل عاملا وحيدا لجمع الشتات ووقف النزف الدموي في المجتمعات الاوروربية. دانتي الشاعر الايطالي أدرك في وقت مبكر "نهاية العصور الوسطى" حجم الكارثة التي يخلفها تسييس الدين، فكتب رسالة تعبر عن انحيازه إلى صالح الدولة ممثلة بالإمبراطور قبل أن يأتي مكيافيللي ويطالب بتجريد السياسة كليا من الأخلاق والكنيسة، ثم جهر بولائه الكامل للسلطة المطلقة للملك. ومع دانتي ومكيافيللي وغيرهما تتخذ ارهاصات العلمنة في أوروبا بعدا تنظيريا يتراوح بين سلطة الكنيسة وسلطة الملوك لكنه لم يفطن بحسب المؤرخين حتى لحظة مكيافيللي إلى مقولات سياسية رسختها كممارسة سياسية الثورة الفرنسية عام 1789م كسيادة الشعب وحاكميته وتوزيع السلطات ومرجعية الدستور وحقوق المواطنة وغيرها، فهذه المفاهيم كانت غريبة على الممارسة والنظرية السياسية في العصور الوسطى. إن التفكير السياسي آنذاك يتلخص في أن المشروعية السياسية يجب أن تكون متعالية، أي أن مصدر الشرعية هو مصدر إلهي سواء كانت الممارسة السياسية تبرر ذاتها بنظرية الحق الإلهي للملوك كما حاول أن يفعل دانتي، أو تتمسك تارة بحق البابا والأكليروس في السلطة الزمنية استنادا إلى السلطة الروحية التي يتمتع بها، وتارة أخرى بهبة قسطنطين وهي التي ثبت زيفها. ومع حدوث تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية كبرى انتصر الحاكم الزمني المكرس بالحق الإلهي على الكنيسة في أوروبا، مما يعني أن الملك كما البابا يؤسس سلطته على شرعية سماوية مستمدة من حق إلهي، وهو ما جعل المسار السياسي أشبه بحلقة مفرغة تعيد انتاج ما قوضته، كما هو واضح في المتوالية التالية: الحق الإلهي للباباوات - الاصلاح الديني - الملكية المطلقة - الحق الإلهي للملوك - القومية يقول الفيلسوف الأميركي ديورانت: "نمت نظرية حق الملوك الإلهي جنبا إلى جنب مع تطور القومية والانتقاص من سلطة البابوات" (قصة الحضارة- ول ديورانت) مما يعني أن السلطة المطلقة ذات الصبغة الدينية بعد أن انتقلت إلى البابا من الامبراطور عادت إليه مرة أخرى ولكن بعد توليفها بفكرة الحق الإلهي للأمير المسيحي، وهو الأمر الذي كان قد دعا إليه صراحة مارتن لوثر زعيم حركة الاصلاح الديني في ألمانيا. |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت | عدد التعليقات: ٢ تعليق |