CET 00:00:00 - 14/04/2010

مساحة رأي

بقلم : نذير الماجد
بين الغرب والشرق:

كانت حركة الإصلاح الديني في أبعادها الخفية ونتائجها البعيدة تعبيرا عن شعور قومي بدأ بالتنامي مع نهاية العصور الوسطى، وما كان يمكن ترسيخ المشاريع القومية والدول الوطنية آنذاك لو لا فكرة الحق الإلهي التي توفر التبرير الشرعي لبناء انتماء قومي كان يمثل وفقا للعقلانية السائدة آنذاك انشقاقا أو نزوعا انفصاليا.

إن البروستانتية في أغلب اتجاهاتها وفروعها لم تكن محض حركة دينية تستهدف إصلاح التجاوزات والانتهاكات التي كانت تلطخ المؤسسة الدينية الحاكمة في الفاتيكان، بما أنها ساهمت في إضفاء شرعية على تحول تاريخي كبير أدى إلى انتقال الحق الإلهي من البابا إلى الحاكم الزمني في مسار سوف يصل مع لحظة الحداثة إلى شطب الحق الإلهي واستبداله بالسيادة الشعبية. فالحاجة إلى استبدال البابا بملك بدت ملحة، يقول لوثر مدافعا عن الحق الإلهي للملوك: إن اليد التي تدير السيف الدنيوي ليست يدا بشرية وإنما هي يد الرب، والرب لا الانسان هو الذي يشنق ويحطم الضلوع على دولاب التعذيب ويقطع الرؤوس بالمقصلة ويجلد بالسياط، والرب أيضا هو الذي يشهر الحرب".من هنا وبناء على كلام لوثر فإن الملك المدعوم بالحق الإلهي كان يتمتع بصلاحيات مطلقة لا يحدها دستور.

 استمرت هذه النظرية فاعلة حتى 1789م  العام الذي سقط فيه رأس الملك الفرنسي لويس السادس عشر إثر اندلاع الثورة الفرنسية، حينها فقط انتقلت المشروعية السياسية من السماء إلى الأرض، وترسخت اللائكية والعلمانية كنظام اجتماعي وسياسي واقتصادي، وحلت الأنسنة وحقوق الإنسان محل الله والحق الإلهي ، والتعددية "البلورالية" السياسية والاجتماعية محل الأحادية والأرثوذكسيات، وأخيرا: السلطات المقيدة بالدستور بدل السلطة المطلقة والحكم التيوقراطي. هذا ما حصل في الغرب قبل أن تفرض العلمانية نفسها كخيار وحل ونتيجة طبيعية لمسار يتسم بتآكل المرجعيات الشمولية ذات الصبغة الدينية.
ولأن المنهجية المقارنة في التحليل التاريخي تسعى لاكتشاف التواشجات بين السياقات والوضعيات الاجتماعية والثقافية فإن المقاربة يجب أن تضيء المفاهيم والمؤسسات والبنى من خلال علاقاتها الوظيفية وفحص التأسيس الوظيفي للتفكير السياسي في الوسط الإسلامي تحديدا، فللكشف عن حجم التوافق بين السياقين لابد من مقاربة الأشكال الوظيفية للمفاهيم والعلاقات الاجتماعية السياسية بمعزل عن مسمياتها واصطلاحاتها التي تموه الواقع كما رأينا وتعزل النظرية السياسية عن سياقاتها الاجتماعية والتاريخية لتكرس وعيا زائفا يحول دون الفهم والمعرفة.

إن العلاقة بين الديني والسياسي تتخذ عدة أشكال تجعل منها علاقة ملتبسة، حيث ثمة تداخل وثيق بين المشروعية السياسية والمشروعية الدينية، بين السلطان الذي هو ظل الله في الأرض وبين الأمناء على مرجعية الوحي، هذا التداخل ينزع تارة لإخضاع الديني للسياسي وتارة العكس، خاصة وأن الخلاف المذهبي هو في العمق خلاف سياسي رغم احتجابه خلف عناوين دينية، إن المذاهب الإسلامية هي في الأساس حركات سياسية جرى لاحقا تأصيلها دينيا وفكريا، المنظور السياسي هو القاعدة والمحور الذي تتحرك من خلاله كل الأدبيات المذهبية، هذا لا يعني رجما للذات وانحيازا للموقف الاستشراقي الذي لا يخلو من تحامل. فالمنطلقات المعرفية التي تؤطر هذه القراءة تتجاوز المنظور الاستشراقي والأيديولوجيا الدينية في آن معا نحو مطمح جدي يتمثل في "تأسيس كتابة" للتاريخ كما يعبر بريمار.
 ولكي نموضع معرفيا المنظور الاستشراقي والمنظور الأيديولوجي الديني في منظومة فكرية مختزلة سأقترح التمييز التالي بين مستويات الدين والأيديولوجيا الوضعية والأيديولوجيا الدينية: 

الدين  الأيديولوجيا  الأيديولوجيا الدينية
الوحي - الله العقل - الإنسان  الوحي -الإنسان
سلبي –فوقي ايجابي – تحتي  سلبي – تحتي
تفسير – أسطورة  تغيير – تكنولوجيا (تقنية)  تغيير - أسطورة


 مستوى البعد الروحي للإسلام يأتي موازيا للمستويات التي تشكل في مجموعها التراث الإسلامي، هذا فضلا عن أن القراءة البشرية ستفرغ حصيلة كبيرة مما تشكل تحت يافطة "الدين الإسلامي" من شحنتها المقدسة والمتعالية والثابتة، ليس المقصود الجوهر وهو روح الإسلام بما هو تجربة دينية تهدف إلى اندماج وانصهار كامل في المطلق والمعنويات، وإنما ما هو تاريخي في الإسلام الذي يتمظهر على شكل مذاهب تحول التاريخ والجغرافيا إلى دين.
تديين التاريخ:

كل الطوائف والمذاهب الاسلامية قد نشأت في سياق سياسي ولذلك فإنك لن تجد مذهبا دينيا نقيا دون أي صدى لأحداث أو اتجاهات سياسية تبلورت في عصور النشأة وعليه فإن "فن تحويل التاريخ والجغرافيا إلى دين" هو داء تعاني منه كل المذاهب، وما التضخم والتشعب الممتد في مفاصل علم الكلام والفقه والتفسير وسائر العلوم الدينية التي تشكل رافعة للواقع السياسي ونتيجة له في الآن نفسه إلا نتيجة مباشرة للصراعات السياسية التي غالبا ما تتصاعد إلى حروب دموية عنيفة.

نستطيع أن نشكل تمفصل واضح في الفكر الديني الإسلامي حول السلطة، فإذا كان التشيع أيديولوجية المعارضة فإن المذهب السني يمثل أيديولوجية السلطة، بعبارة أخرى: الفكر الديني السني هو محاكاة لتاريخ السلطة فيما يمثل التشيع محاكاة لتاريخ المعارضة. هكذا بشكل أولي ولكن في التفاصيل فإن كلا المذهبين يتضمنان شيئا من التفاوت والتداخل لسبب بسيط هو أن التاريخ بشري صرف، فالوسط السني كما الوسط الشيعي هو عنوان واسع يشمل عدة توجهات كلامية وفقهية وسياسية، وعلى امتداد التاريخ شهد كلا المذهبين عدة تحولات ومحطات تاريخية حاسمة ساهمت في تحديد صورتهما النهائية كما هي سائدة اليوم.
هذا التمفصل رغم ما تكتنفه من ثغرات تفضي في حالة عدم ردمها إلى التسطيح يقود إلى تمفصل آخر، يشبه حد التطابق ثنائية البابا والملك المقدس صاحب الحق الإلهي، وإذا كانت النظرية السياسية السائدة في المذهب الشيعي تجنح لتصور مثالي لأنظمة الحكم والمجتمع  بلحاظ الواقع المدان باستمرار، فإن المذهب السني في غالبه لا يعدو أن يكون تفكيرا سياسيا مهمته تبرير هذا الواقع نفسه.

 التشيع يبشر بإمام لم يأت بعد، هذا الإمام يجمع كما البابا كلا السلطتين الروحية والزمنية بل إن سلطته على الأرض ليست سوى انعكاس لمكانته في السماء، في مقابل المذهب السني الذي يمنح السلطة الزمنية هيبة الدين ووراثة الله على الأرض "نظرية الحق الإلهي". نلاحظ في كلتا الحالتين مرجعية متعالية تمثل قاسما مشتركا يجمع بينهما في منظور متداخل يتمحور حول التعالق الديني السياسي الذي يتراوح بين التبعية المطلقة والقطيعة الكاملة فيما يتخذ أحيانا شكل علاقة متكافئة، وذلك على النحو التالي:
المهادنة والقبول بالأمر الواقع:
وهو موقف يسعى لبناء علاقة متكافئة تتسم بالتواطؤ. الجهد المعرفي الأساسي في هذه المدرسة هو جهد تبريري الهدف من وراءه إضفاء الشرعية على أجهزة الحكم والدولة وفق تنظير سياسي يتماهى كليا مع الوضعية السياسية فالواقع هو المرجعية مما يعني افتقاده إلى التفكير السياسي الذي يلتزم العقلانية كمرجعية وليس الواقع / السلطة.

يبرز في مقدمة منظري هذا التيار في الوسط السني المارودي الذي عمل على تأصيل "ثنائية السلطة بين الخليفة والسلطان" بغية إضفاء الشرعية، قبل أن يأتي الغزالي الذي ساهم في بلورة تفكير سياسي ديني على مقاس الواقع/ السلطة.
أما في الجانب الشيعي فإن هذا التيار يمثل امتدادا للمؤسسين الأوائل للفكر الشيعي في استسلامهم وتعايشهم مع الواقع الذي هو مدان وسيبقى كذلك على امتداد عصر الغيبة، فالغيبة التي هي فكرة ميتافيزقية تقود إلى غيبوبة على المستوى السياسي والاجتماعي، هنا يتواشج الغياب الكامل عن واقع عصي على التغيير مع المقولة الشهيرة التي وردت في الإنجيل: "ما لقيصر لقيصر وما لله لله". حاز هذا الموقف التسووي نجاحا ورواجا كاسحا" يقول الباحث الغربي كولن ترينر: "كان الرفض المطلق نادرا، ولم يشكل نية جدية بأي شكل لتحدي السلطنة الصفوية والسلطة الدنيوية، إذ كان اعتزال الحكام في معظم الأحوال فضيلة، بيد أنه يتعين عدم تأويله كتعبير عن المعارضة" 

المفارقة أن الفكر الديني الشيعي هو الأقرب إلى خيار المعارضة باعتبار الطبيعة السياسية المتجذرة في المذهب الشيعي والتي تتحرك حول محور العدالة بصفته أصلا أساسيا للمذهب، ولكن هذا التيار يقوض هذا النزوع السياسي، يضيف ترينر: " في هذه الملابسات تنزع عن الإمامة صبغتها السياسية وتغدو مفهوما محض أخروي هو الجوانية إمامية – المركز التي تركز على شخوص الأئمة سكانا شبه إلهيين لعالم الغيب السماوي..."  (التشيع والتحول في العصرالصفوي- كولن تيرنر).

ولئن كان الفقه السياسي عند الماوردي والغزالي وغيرهما هو فكر تبريري يجنح إلى تبرير الواقع المعاش عبر مفاهيم أدمجت في المنظومة المفاهيمية كقاعدة التغلب أو مفهوم الاستيلاء، فإن ممارسة التقية ستحل كعنوان ومفهوم مركزي وآلية للتعايش مع الواقع المعاش في الذهنية الشيعية. ستكون التقية هي الوسيلة لردم الهوة بين الغياب والحضور، غياب الإمام الذي يمثل بؤرة النظام السياسي النموذجي وحضور الذات الشيعية التي تجابه الواقع وتحتويه بأداة التقية وتوابعها.

من أبرز ممثلي هذا التيار هو الشريف الرضي الذي كانت له علاقة حميمة بالخليفة العباسي إلى درجة نزعه العمامة الخضراء واستبدالها بالعمامة السوداء رمز العباسيين، وصولا إلى السيد محمد كاظم اليزدي الذي تصدى للحركة الدستورية وحارب أتباعها فيما كان يعرف بالمستبدة وانتهاءً بالفقهاء المعاصرين من أتباع نظرية حفظ النظام العائمة التي بإمكانها أن تنسجم مع أي سلطة، كالسيد الخوئي والسيد السيستاني. وهي النظرية التي تعكس في العمق جهدا توليفيا بين التقية كآلية للتعاطي مع الواقع المدان إذ يمنع وفق هذا التصور الخروج ضد السلطة وبين فعالية الانتظار، أي أن الشرعية هي حصرا لسلطة غائبة وواقع مثالي، مما يؤدي إلى انسداد سياسي وتعطيل كامل: لا تسع إلى التغيير ولا تمنح الشرعية لأي سلطة مهما توافقت مع طموحك السياسي، إذ لا يمكنك تغيير الواقع، كما لا يمكنك في الآن نفسه التعايش معه أو الاندماج الكامل فيه.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق