بقلم :نسيم مجلي
فالواقع أن يعقوب لم ينشق على حكم الأغلبية المسلمة من المصريين. إذ كان الحكم في يد الوالي العثماني ومماليكه وعساكره. ولم يكن فيه من الإسلام إلا الواجهة. أما ما يقوله الدكتور أحمد الصاوي من أن مصر كانت تحكم في ظل الخلافة العثمانية تبعا للشريعة الإسلامية " غالبية من المسلمين مع أقلية من الذميين الذين حددت شريعة الإسلام حقوقهم وواجباتهم دون تعصب أو تطرف" (ص 80). فهذا كلام بعيد عن الحقيقة، بل هو كذب صريح فلم يكن للمصريين جميعا أى دور فى السلطة ولم يكن الأتراك أو المماليك يهتمون بالعدل أو بالشريعة . وهذا ما يؤكده كتاب " المجتمع والشريعة والقانون" للدكتور محمد نور فرحات (دار الهلال يونية 1986) حيث يقول:
" وغلبة قيمة النظام على قيمتي العدل والحرية ظاهرة يلحظها الباحث في النظام القانوني لمصر العثمانية، فلم يكن النظام القانوني العثماني يولي اهتماما يذكر لقضية العدل في توزيع ثروة البلاد ، كما أن فكرة المشاركة السياسية من الشعب لولي النعم في سلطته كانت أقصى المحرمات قاطبة التي يعاقب عليها بعقوبة البغي والإفساد في الأرض (ص 20) فكيف سمح الدكتور أحمد الصاوي لنفسه أن ينسب هذا المجتمع للشريعة أو لللعدل و الرحمة ، أو كيف يتكلم عن أغلبية او أقلية حتى بالمفهوم الديني؟.
لم يكن هنالك شئ من هذا ، وكما يقول شفيق غربال " أول ما في تأييد يعقوب للتدخل الغربي هو تخليص وطنه من حكم لا هو عثماني ولا هو مملوكي , وإنما هو مزيج من مساوئ الفوضى والعنف والإسراف ولا خير فيه للمحكومين ولا للحاكمين إذا اعتبرناهم دولة قائمة مستمرة. فرأي يعقوب أن أي نوع من أنواع الحكم لا يمكن أن يكون أسوأ مما خضعت له مصر قبل قدوم بونابرت. وثاني ما في تأييده للاحتلال إنشاء قوة حربية مصرية (قبطية في ذلك العهد) مدربة على النظم العسكرية الغربية. ونحن نسلم بأن هذه القوة كانت أداة من أدوات تثبيت الاحتلال وإلا لما سمح الفرنسيون بإنشائها غير أنه يلزمنا أن نذكر أن القائد كليبر نفسه الذي أذن بإنشاء القوة القبطية كان لا يرى البقاء في مصر. ثم يشير الدكتور شفيق غربال إلى " أن بعض أصدقاء يعقوب من الفرنسيين اهتموا بمستقبل القوة القبطية أكثر مما اهتموا بحاضرها وأنهم كانوا يحبون أن يروها على حال من البأس يجعلها العنصر المرجح في مستقبل مصر بعد جلاء الفرنسيين عنها".
ثم يمضي شفيق غربال في توضيح رأيه قائلاً:
" كان وجود الفرقة القبطية إذن أول شرط أساسي يمكن رجلاً من أفراد الأمة المصرية يتبعه جند من أهل الفلاحة والصناعة من أن يكون له أثر في أحوال هذه الأمة إذا تركها الفرنسيون وعادت للعثمانيين والمماليك يتنازعونها ويعيثون فيها فساداً. وبغير هذه القوة يبقي المصريون حيث كانوا بالأمس : الصبر على مضض أو الالتجاء لوساطة المشايخ أو الهياج الشعبي الذي لا يؤدي إلى تغيير جوهري والذي يدفعون هم ثمنه دون سواهم.. وهنا الفرق الكبير بين يعقوب وعمر مكرم. يعقوب يرمي إلى الاعتماد على القوة المدربة والسيد عمر مكرم يعتمد على الهياج الشعبي الذي لا يصلح قاعدة للعمل السياسي الدائم المثمر".
ثم يضيف غربال : " وقد رأينا ما كان من أمر السيد عمر مكرم لما وجد أمامه محمد على ليس خورشيد. هذا الفرق بين الأداة التي اختارها يعقوب وتلك الأداة التي اختارها السيد عمر مكرم ليس في الواقع إلا مظهرا لفروق أعمق. إذ ما حاجة هذا السيد نقيب الأشراف إلى جيش والرجل لا يتصور مصر إلا خاضعة لحكم المماليك تحت سيادة السلطان". بعكس يعقوب الذي .. " لا يريد عودة المماليك والعثمانيين وإنما يعمل على أن تكون لفئة من المصريين يد في تعزيز مصير البلاد بدلا من أن يبقي حظهم كما كان في الحوادث الماضية مقصورا على التفرج أو الاشتراك في نهب المهزومين .. أراد يعقوب أن يكون الأمر غير ذلك وعوّل على أن تكون القوة الحربية المصرية الجديدة مدربة على النظم الغربية فكان سباقا إلى تفهم الدرس الذي ألقاه انتصار الفرنسيين على المماليك أو قل إلى إدراك ما أدركه محمد على بعد قليل من أن سر انتصار الغربيين في جودة نظامهم وبخاصة نظمهم العسكرية فسرق البرق من الآلهة وكان له ما كان".
وقد تميز كتاب أنور لوقا بشجاعة الرأى فى نقده الصريح لخصوم يعقوب وكشف أكاذيبهم ونفاقهم بداية من الجبرتى "الذى صور يعقوب فى موقف الموتور الحانق والمدافع عن أقليته القبطية المضطهدة، وهى نفس الصورة التى نجدها بعد أكثر من قرن ونصف فى كتابات المتطرفين الذين هبوا لمعارضة لويس عوض حين نسب الى يعقوب مذهبا سياسيا حديثا. ولماذا ننسى أن الشيخ الجبرتى نفسه قد تعاون مع الفرنسيين إذ كان عضوا عاملا " بالديوان " فى عهد" مينو" –القائد الفرنسى صاحب نظرية احتلال مصر احتلالا دائما؟ وتكفيرا عن ذنبه هذا سارع الجبرتى الى الترحيب الصاخب بعودة الاحتلال التركى، وأهدى للصدر الأعظم يوسف باشا كتابه" مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس"وهذه أول سطوره :
" حمدا لمن جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هى العليا، وجعل الدولة العثمانية، والمملكة الخاقانية بهجة الدين والدنيا "
هذا مايقوله الجبرتى عن الدولة العثمانية التى أذلت المصريين والعرب وخربت ديارهم وأورثتهم التخلف المزمن الذى لم يستطيعوا الافلات من قبضته حتى اليوم .
ومن المهم أن يعرف القارىء أن المصريين قد حرم عليهم الاشتراك كجنود عاملين فى الجيش منذ الاحتلال العربى لمصر سنة 641 وهذا مايؤكده كتاب "الوطن الأم- دراسة فى الثقافة القومية المصرية – تأسيس تاريخى " حيث يقول المؤلفان( أحمد عاشور وصبحى السيد عاشور ):
" قام نظام الادارة العربية فى مصر على عدة ثوابت لم تتخل عنها، كان إبعاد المصريين عن الجيش العامل أولها، خشية أن يحيى فى المصريين روح القومية المصرية وأن يقوموا بطردهم من مصر متى حانت لهم الفرصة فلم يتركوا لهم إلا الأعمال المدنية "
وهو نفس الأسلوب الذى اتبعه العثمانيون والمماليك وكان يعقوب هو الاستثناء فقد تعلم فنون الفروسية والقتال وشارك فى معارك الحرب التى دارت بين جيش مرادبك وجيش قبطان باشا التركى الى جانب مخدومه سليمان بك ثم قاتل الممليك بعد وصول الحملة الفرنسية وكان الطليعة والرائد فى هذا المجال المحرم على المصريين وكان طبيعيا أن يفكر فى تكوين جيش مصرى يحمى استقلال هذا الوطن بعدخروج الفرنسيين ( من أهل الفلاحة والصناعة " حسب تعبير شفيق غربال" وكان وجود الفرقة القبطية إذن أول شرط أساسى يمكن رجلا من أفراد الأمة المصرية يتبعه جند من أهل الفلاحة والصناعة من أن يكون له أثر فى أحوال هذه الأمة إذا تركها الفرنسيون وعادت للعثمانيين والمماليك يتنازعونها ويعيثون فيها فسادا "
والسؤال المنطقى الذى يطرح نفسه هنا : هل كان يمكن ليعقوب أن يدعوالمصريين المسلمين للاشتراك فى هذا الجيش؟ وكيف يكون ذلك، اذا كان الشيخ محمد كريم يقول للقائد الفرنسى انه يدافع عن أرض السلطان ولم يقل عن‘أرضنا أو أرض المصريين" والشيخ عمرمكرم ومعه الشرقاوى والسادات وغيرهم من زعماء المسلمين كانوا مصممين على البقاء فى تبعية الدولة العثمانية وتحت حكم المماليك مكتفين بالوساطة بين العامة وبين الحكام فى أوقات الأزمات مراعا ة لمصالحهم الخاصة مع هؤلاء الحكام، ولم تطرأ على أذهانهم فكرة الاستقلال، بعكس يعقوب الذى يريد التخلص من الأتراك والمماليك والفرنسيين واقامة حكومة وطنية من المصريين مسلمين ومسيحيين، كما أن مشروع يعقوب لاستقلال مصر وحيادها بين انجلترا وفرنسا لم تذكر فيه كلمة " قبطى " أبدا فيعقوب تأثر بفكر الفرنسيين عن الحرية والأخاء والمساواة وكان متوافقا فى فكره وسلوكه ووصل به هذا التحرر أن يتزوج بزوجة سورية كاثوليكية وهو مايعتبر خروجا على الكنيسة القبطية ولم يكن ذلك إلا لأنه لم يعرف التعصب الطائفى أو المذهبى ، وانما كان التعصب فى موقف الآخرين الذين قسموا البشر الى مسلمين وكفرة وحرضوا مرتين على قتل الاقباط وهتك أعراضهم ونهب ممتلكاتهم والفضل يرجع الى يعقوب وأتباعه الذين صدوا حملات الابادة التى كان يقودها حسن الجداوى ودراويشه بتحريض من العثمانيين وعملائهم من المصريين. وهذا مسجل بوضوح عند الجبرتى ولاينكره الا من أعماهم التعصب والذين يستكثرون على الأقباط حق الدفاع عن النفس أو حق المبادرة لحماية الوطن .
يشرح الدكتور أنور لوقا الأسباب الحقيقية التى حتمت تكوين الفيلق القبطى تحت عنوان ( حتميــة المقاومــة ) فيقـــول :
تولى يعقوب بعد عودته من الصعيد ، فى سبتمبر 1799 ، إدارة النظام المالى فى مصر ، إلا أنه لم يستطيع تحقيق أى إصلاح تحت ضغط الأحداث التى تلاحقت و أجبرته على تكوين قوة مسلحة .
كان كليبر قد عقد مع ممثلى الدولة العثمانية فى 24 يناير سنة 1800 معاهدة العريش التى نصت على جلاء الفرنسيين و جدولته . و طوت الدولتان صحيفة القتال . و لكن الحكومة الإنجليزية رفضت إقرار الاتفاقية فانتهز العثمانيون الفرصة و نقضوا عهدهم . و زحف يوسف باشا – الصدر الأعظم حتى بلبيس ، و تقدمه طليعة جيشه بقيادة ناصف باشا نحو المطرية و هب الفرنسيون غاضبين فهجموا على الاتراك هجوماً حاسماً فى موقعة عين شمس ( 20 مارس 1800 ) و هرب ناصف باشا و بعض رجاله فتسللوا إلى القاهرة و معهم من المماليك إبراهيم بك و الألفى و حسن الجداوى . و يسجل عبد الرحمن الرافعى " و مع أن ناصف باشا كان فى الواقع فاراً من ميدان القتال ، و بالرغم من أن وصوله كان بعد أن حلت الهزيمة بالجيش العثمانى ، فإن الاشاعات كانت قد طارت من المدينة بأن الجيش الفرنسى انهزم " . و أشعل الهاربون ـ ليقلبوا الأوضاع ـ فتنة طائفية احتدمت ضد الأقباط ـ و يلقى الجبرتى المسئولية على نصوح باشا الذى نادى " اقتلوا النصارى و جاهدوا فيهم " و يبرز دور الحجازية و المغاربة فى ارتكاب المنكرات من نهب و قتل ، و منهم من قطع رأس البنية الصغيرة طمعاً فيما على رأسها و شعرها من الذهب " و ارتاع بعض أغنياء الأقباط فغادروا الحى و لجأوا إلى دور بعض أصدقائهم المسلمين فى مصر القديمة . و لم يتزعزع يعقوب بل تحصن فى الحى و نظم الدفاع عنه و العيش فيه بشجاعة و حكمة ، طول حصار دام عشرين يوماً و يقول الجبرتى : " أما يعقوب فإنه كرنك فى داره بالدرب الواسع جهة الرويعى ، و استعد استعدادا كبيرا بالعسكر و السلاح و تحصن بقلعته التى كان شيدها بعد الواقعة الأولى ( أى ثورة القاهرة الأولى أيام بونابرت ) ، فكان معظم حرب حسن بك الجداوى معه " .
و أسفرت المحنة عن تكوين جيش من الأقباط ، نظمه يعقوب على نفقته الخاصة ، و جمع فى صفوفه شباباً من القاهرة و من الصعيد . و تلك ظاهرة فذة فى تاريخ مصر : جيش وطنى لاحظ شفيق غربال أنه " أول جيش كون من أبناء البلاد بعد زوال الفراعنة " . و ارتدى هؤلاء الجنود زياً خاصاً ، و دربهم ضباط فرنسيون على أساليب الدفاع و القتال الحديثة ، تحت إشراف المعلم يعقوب ، الذى قلده كليبر قيادة الفيلق ملقباً إياه أغا .
و قد ذهب بعض الكتاب إلى إدراج هذا الفيلق القبطى فى قائمة التشكيلات التى استحدثها بونابرت فى مصر و ضمها إلى وحدات جيشه للاستعاضة بها عما كان يفقده من الرجال منذ انقطعت صلته بفرنسا بعد شهر واحد من نزوله مصر إذ حطم الانجليز اسطوله فى موقعة أبى قير البحرية ( أغسطس 1798 )
وهذا ما يرفضه أنور لوقا إذ كانت تلك الفرق كما تدل عليها اسماؤها ـ " الإنكشارية " ، و " المماليك " ، و " اليونان "، " السوريون " ـ تتشكل من أغراب نزحوا إلى مصر وافدين من مختلف أنحاء الامبراطورية العثمانية ، فهم أشبه بالجنود المرتزقة فى العصور السابقة . و يكفى لتمييز الفيلق القبطى أنه لم يظهر إلا مؤخرا ـ فى أبريل 1800 ـ أى بعد إنقضاء ثلاثة أشهر على تقرير جلاء الفرنسيين فى معاهدة العريش ، و أنه تعبير عن مقاومة حتمية ضد المماليك و الترك فى سياق علاقة سياسية ترجع إلى ما قبل الحملة الفرنسية ، و أنه تنظيم صدر عن تمويل مالى ذاتى ، و ستتجلى هذه الأصالة فى مشروع استقلال مصر الذى أصبح هدف المعلم يعقوب . |