بقلم : محمود الزهيري
نص من نصوص الشاعرة التونسية المبدعة آمال جبارة معنون " إلى " وهذا النص لم يكن بإحتياج لعنوان فهو ينبيء عن أماكنه بلا عنوان , ولا يحتاج إلي خريطة قلق , ووثيقة خوف , أو صك أمان للطريق , فهذه كلها معقودة علي ناصيته , فيبدأ بالعين مروراً باليد والأذن والفم , والأنامل , ساعياً للقلب والقدم , وهارباً من جديد للعين . فتنتهي الرحلة حيث بدأت , ونهاية النص , بداية للتأمل والحيرة والقوة الباطنة للمعرفة والتبصر بأحوال الإنسان الحائر.
الى عيني
مرة اخرى لو لم تقرئي الأعمال الكامله لما أصابك حول .
فعلا هي القراءة للأعمال الكاملة التي تصيب بالحول في أحيان التبصر بمرادات ومقاصد تلك الأعمال , هي المعرفة , لا , بل هي مسؤلية المعرفة التي حركت سفينة هذا النص لتبحر بمجدافين في بحر عربي المياه , عربي الشواطيء , حراسه يقفون علي مراسي الأوطان معلنين رفضهم لمن يبحر خارج المياه الإقليمية , معلنين رفضهم لمعرفة الأسرار الكامنة خارج الأوطان , وكأن النص يريد أن يتحرر بمسؤلية الوعي لمن هم خارج المياه الإقليمية , بثقافاتهم وعلومهم وفنونهم ومعرفتهم بالإنسان والكون والحياة , فتقف كلمات النص عن حدود أسر حدقة العين متمنية أن تتوحد مع لون البحر بزرقة مياهه ووحدة شواطئه , متخيلة في التمني أن تكون عينها أكثر زرقة لتتوحد مع مساحة زرقة البحر وتعقد مع أفقه عقداً من عقود التحرر من أسر المكان , وعقداً من عقود التحرر من أسر الزمان , آملة في تلاحم الزمان مع المكان , وصيدهما بمخيال عقلي بديع , وهكذا يكون التمني وتكون كل الشواطيء وكل الأوطان مياهها واحدة , ونسماتها واحدة عبر الترحال بسفينة الإنسان في مياه بحور الإنسان , ولكنه الأسر في محيط واحد في المكان , ومحيط واحد في الزمان , وليته كذلك وحسب , بل حراس المكان وحراس الزمان هم من يقفون بالمرصاد لمن يحاول الإبحار عبر زرقة مياه البحر بمسار تمني إتساع زرقة العين مع زرقة البحر .
يستمر النص في حالة سير مرتعبة من مجرد طرح الأسئلة التي هي علي الدوام مبصرة بما ترمي إليه من مرام الإجابات أو إلقاء الإجابات في مرمي الأسئلة لتحرز أهداف التحرر العقلي من ربقة الإجابات الجاهزة المطروحة كسلعة علي أرفف العقول التاريخانية الثابتة للأموات الذين يحكمون الأحياء من مقابرهم , بلغة من لغات الندم وترجمة من ترجمات الألم الإنساني البديع :
الى يدي
لو أنك لم تجيبي عن أسئلة الدّفء كلّها !
لبيك أيها الندم , أيتها الحسرة , ياحزن يدي المبتورة تطلعاتها للدفء الإنساني , وعذابات الوجد الروحاني , ليتك ماكان لديك إجابات عن الأسئلة , ليتك ماأجبتي عن هاتيك الآمال المتطلعة , ليتك سكنتي بجوار أقرب مقبرة للشقاء والعذاب , وماكان لديك إجابات , فكنت مع الجاهلين , الأغبياء , العاطلين عقلياً , فما كان لك أن تبوحي حتي بالبوح المجرد , لإجاباتك عن أسئلة الدف جزاء القطع من آلهة الكراهية , وحراس تلك الآلهة الأوثان التي تضمر الكره , وتعلن العقاب لمن صارت كينونته مع الإنسان , وضد شياطين العبث بنواياه البريئة المتحدة علي شواطئ زرقة البحر .
ليت أذني كانت تدرك جدوي البكم , هكذا يسير حوار التمني داخل رواق النص الذي يلعنه الواقع , ويقدسه الإنسان بروحه , وهكذا كان مسار الندم والتمني , فليت أذني كانت تدرك جدوي البكم , ولم تكن في حالة إستعداد لتحمل مسؤلية الإجابات عن الأسئلة .
فهل كانت الإجابات عمياء , حينما كانت الأسئلة مبصرة , حتي يكون هذا الشعور بالندم معتلياً ظهر التمني ؟!هنا يكون فقط التحسر والندم فقط
هنا يجيب النص إجابة لاتحمل إجابة , وتساؤل يحمل معاني الحيرة :
الى أذني
لو أنك تدركين جدوى البكم !
ينتقل النص لحالة أخري معلناً فضيلة الصمت في مجتمعات الوصايات الملعونة الخائنة لقيم الإنسان العليا , والمهدرة لحقوقه حتي في مجرد البوح بما تجول به الخواطر وتحدث به النفس , وماتشتعل به نيران الوجدان , فالمتحدث عن القيم وصي , والناطق بالحقوق ولي , والمتحدث عن الخواطر والوجدان قيم , ومن هو خارج عن الوصاية والولاية والقوامة يستحق جزاء الحجر عليه , فهكذا أراد النص الذي ندم علي مجرد أن يتكلم الفم وينطق ويعبر بالبوح عما تجول به الخواطر , وتأمل أن تنشط في السعي إليه الأنامل , تلك الأنامل الكسلي , بل المشلولة بقصد ية مجرمة آتية من خارج إطار الذات , عبر وصايات تنجز الحرام , وتجبن في إعلان الحلال , وتقصر عن إرساء نصوص للحق والواجب , وتجبن عن إعلان المشاركة في إرساء قواعد الجزاء , فكانت نصوص الحرام والحلال , والحقوق والواجبات , والحساب والعقاب أو الجزاء معقودة فقط لأهل الوصايات المجرمة , بمنظومية العادات والأعراف والتقاليد المغموسة بذل وقهر وجبر أهل الوصايات التي جعلوها مقدسة وماهي بمقدسة .
الأنامل في هذا النص تري إلي بعيد عبر نداء الذات الإنسانية الأسيرة الحائرة الخائفة المرتعبة بتلك المنظومة المجرمة , كانت تتمني أن الأنامل لاترثي الكسل , فالكسل تجابن , وتخاذل , وتواهم للتخوف , ومن ثم فلا غفران ولا توبة من الأحلام والأماني لتلك الخطيئة الملعونة بلعنة الجبن والكسل .
وآه ثم آه لقلب مخدوع بنور الحرية , وضياء التحرر من ربقة عبودية مقيتة مذمومة في كل قواميس اللغات الإنسانية , ولكن الواقع يكذب هذا النور ويتنكر لهذا الضياء , مما يصيب هذا القلب الإنساني بالألم , ويعذبه بالوجع , وهذا حينما تخطيء الخطي مسارها بهذا السراب المتوهم إلي طريق الأحلام المطموح تحقيقها :
الى أناملي
لو انّك لم ترثي كسلي لغفرت لك الأحلام كلّ ذنوبك .
الى قلبي
لو لم تخدعك الشّمس لكنت اقلّ ألما .
الى قدمي
كيف درجت الى هناك و لم يكن ثمّة الى الحلم طريق؟
ولكنه هو الفهم والوعي والإدراك لقيم الإنسان ومعاني مفردات تلك القيم الموعي بها عبر البحث عن الإنسان الكامل , حتي بهناته وسقطاته وأحلامه وأوجاعه , عبر طموحه الساعي تجاه تحقيق ذاته , فيعود النص لنهاية رحلته بما بدأت به ترجمته حيث العين هي البداية لبوابة البصر , ناهيك عن التبصر :
الى عيني مرة اخرى
لو لم تقرئي الأعمال الكامله لما أصابك حول .
فمتي نقرأ الإنسان من غير أن يصيبنا حول ؟!
mahmoudelzohery@yahoo.com |