بقلم : نسيم عبيد عوض
إن حضارة مصر فى العصر القبطى هى فخر مجيد وصورة مشرفة لجميع أجيال الشعب القبطى , فهذه الحضارة كانت نتاج شعب مصرى أصيل له كيانه وشخصيته المتميزة , ولا عجب فهو إمتداد لأجداده الفراعنة الذين صنعوا حضارة خالدة ممعنة فى القدم الى مايزيد عن الخمسة الاف سنة قبل الميلاد , فبينما كانت بلاد العالم قاطبة تعيش فى سواد الكهوف والأدغال والخيام.
كان المصرى على شاطئ النيل يعيش بين أركان حضارة عظيمة كانت وما زالت تحت البحث والتقصى حول كيفية صنع هذا التقدم الحضارى المبهر, حتى وصل الأمر ببعض الباحثين الى ان أرجع هذه الحضارة الى أجناس غريبة نزلت من كون بعيد ليصنعوا هذا المد الحضارى لشعب فى ذلك الزمان بين باقى شعوب العالم.
وحضارة مصر فى العصر القبطى والذى هو إمتداد لحضارة الأجداد كان لها دور مؤثر وفعال للعالم كله, وكانت مشاركتنا للعالم هو فى خدمة تقدم الجنس البشرى كله, فالوجود القبطى الحضارى مازال عالقا فى ذهن الحضارات الأخرى حتى يومنا هذا نفخر ونعتز به وبشخصيتنا القبطية على مدى الدهور.
بدأ العصر القبطى إعتبارا من عام 284 ( القرن الثالث الميلادى) وبالتحديد يوم 29 أغسطس وهو اليوم الذى حدده الأقباط لبدء تقويمهم القبطى , وهو يوم الشهداء العظيم , وقد أمتد العصر القبطى الى عام 641 وهو تاريخ غزو العرب لمصر , ولو ان المؤرخين يرون استمرارية حضارة الأقباط فى مصر حتى يومنا هذا , وإن كانت أخذت فى بعض أشكالها تأثرا بالبيزنطيين أو العرب, وتأثرت أيضا بالحكم الرومانى وإحتلال العرب لمصر.
وقد تميز العصر القبطى وانفرد بشخصية وكيان ريادى كما يلى:
1- كانت الأسكندرية لها الزعامة الدينية والثقافية فى العالم المسيحى كله.
2- ظهرت فى مصر فى ذلك الزمان أعظم رجالات الفكر واللاهوت المسيحى.
3- نشوء نظام الرهبنة القبطية فى مصر ومنها إنتقلت للعالم كله , وكانت لها الدور المتميز فى ظهور عصر النهضة الأوربية.
4- كانت مصر قبل وأثناء العصر القبطى تتميز بأرضها الخصبة ونيلها الفياض وشخصية أهلها المثابرة والتى صنعت هذه الحضارة العظيمة.
5- كانت الكنيسة القبطية وحتى عام 451 م ( مجمع خلقيدونية) لها الدور القيادى للكنائس المسيحية فى العالم كله.
ولعلاقة مصر القبطية بالحضارة الأغريقية كانت محط أنظار وملتقى رجال الفكر والفلاسفة والعلماء يأتون إليها لمشاهدة حضارتها ولدراسة علومها وأنظمتها الديرية وتلقى العلم فى مدارسها الشهيرة فى ذلك العصر.
ويكفى ان نقول انه أبان الحملة الفرنسية على مصر ومحاولة نابليون تجنب الأقباط والمسيحية ومناورته مع المسلمين والديانة الإسلامية حتى قالت " مسز بوتشر المؤرخة المشهورة" ان الأقباط إستقبحوا وأحتقروا إعتراف الفرنسيين بالإسلام وكانوا ينظرون الى الفرنسيين على انهم القوة التى كانت تعمل على ضياع بلادهم ووطنهم, وعلى الرغم من ذلك فعندما بدأ نابليون فى إعادة بناء الدولة على أسس حديثة لم يستطيع تفعيلها بدون الأقباط .
عندما بدأ نابليون بأول حركة نيابية فى مصر فى العصر الحديث , وأدخل نظام الحكم النيابى بتشكيل ما يسمى بالديوان العمومى والمشكل من ستين عضوا عين أربعة من أعيان الأقباط , وعندما شكل ماسمى بالمجلس" الخصوصى" المكون من 14 عضوا منتخبين إنتخابا مباشرا إنتخب منهم عضوين من الأقباط , بجانب ان أوكل باعمال الترجمة والسكرتارية فى الديوانيين للأقباط لكفائتهم العلمية العالية فى هذه التخصصات.
وكان ديوان بونابرت هذا هو الذى كان يساعده فى إدارة البلاد والذى كان يسميه ديوان العلماء والشيوخ , كان إعترافا لدور الأقباط فى نهضة البلاد .
وكان للأقباط فى أثناء حكم محمد على أكبر الأثر فى نهضة مصر الحديثة, فعندما بدأ محمد على أول خطوات مصر نحو الدولة الحديثة , إستفاد بالأقباط بعلمهم وثقافتهم وخبرتهم فى الإشتراك فى حكم وإدارة مصر. فعندما إهتم بالإستقلال عن الدولة العثمانية وبدأ فى رفع شأن العنصر المصرى الوطنى فى إدارة وحكم البلاد كان الأقباط أول العناصر التى ساعدته فى ذلك على إعتبار انهم عنصرا مصريا وطنيا.
وبدخول الأقباط فى الحياة العامة فى خدمة وطنهم بدأ تفوقهم الظاهر للعيان فى رفع شأن بلدهم يبذلون أقصى جهدهم فى ذلك التقدم الحضارى ..
وهناك بعض الأمثلة المتميزة وجب الإشارة اليها فى ذلك المضمار:
1- المعلم جرجس الجوهرى ودوره معرف تاريخيا , فكان يتولى وظيفة تشابة وظيفة رئيس الوزراء فى العصر الحديث, كان لدوره القيادى والإدارى الساعد الكبير فى تشجيع محمد على على تنهيض مصر.
2- المعلم غالى الذى أسس مصلحة المساحة والتى قامت بمسح الأراضى المصرية فى عموم القطر خلال تسعة أعوام , وكان المعلم غالى يشجع دائما الصناعات الوطنية وضد فكرة الإستيراد من خارج البلاد , وحتى الأسلحة قام بإنشاء المصانع لصناعة السلاح المصرى. كما ان المعلم غالى هو صاحب إقتراح حفر قناة بين بحر الروم وبحر العرب لصد الغارات على مصر من الجهة الشرقية , والذى أصر على يكون حفر القناة بأيدى مصرية وبأموال المصريين وكان ضد الإقتراض من الخارج , والتى كانت بعد حفر قناة السويس. السبب فى خراب مصر إقتصاديا بخلاف الإحتلال البريطانى لمصر .
3- باسيليوس غالى ( إبن المعلم غالى) والذى عينه محمد على فى منصب رئيس المحاسبة بالحكومة المصرية لثقته فى كفائته, وقد أنعم عليه برتبة البكويه, وكان أول قبطى يحظى بهذه الرتية, وكان باسليوس بك يمتلك عدة قرى بأكملها فى الوجه البحرى تزيد مساحتها عن ألفى فدان.
4- فى مجال تملك الأراضى الزراعية كان هناك أقباط فاقت ملكيتهم أكثر من ألفى وخمسة ألاف فدان, مثال ذلك بطرس أغا الذى كان يملك مابين 2 الى 5 ألاف فدان قرب جرجا والتى كانت مواشيها تغطى أراضى لا تحصى ولا تعد. , وكذلك عائلات ويصا, غبريال, وشنودة, مقار, حنا ميخائيل , عائلة خياط, المنقبادىبأسيوط, سنيوت حنا وراغب حنا, وقلينى بالمنيا , تكلا ببهجورة , وعائلة مرقس بك فى طنطا وغيرهم كثيرين.
5- فى مجال السلطات الإدارية وحكم البلاد: تولى فى هذه الفترة كثير من الأقباط وظائف الحكم على الأقاليم المختلفة من البلاد المصرية, فقد كان بطرس أغا حاكما لأقليم جرجا بل كان حاكما لقطاع ممتد من شمال قنا وحتى جنوب جرجا, كان فرج أغا ميخائيل حاكما على مركز دير مواس, ومكرم أغا حاكما على شرق أطفيح.
كما شغل واصف باشا عزمى وظيفة رئيس الديوان الخديوى أبان حكم إساعيل باشا, وجرجس بك الفيشاوى سكرتارية الديوان , وكان عهد الله بك سرور وكيلا لمديرية الدقهلية, وعين نسيم بك شحاته عضوا فى لجنة تصفية الديوان الحكومى بأمر شخصى من الخديوى إسماعيل, وبطرس باشا غالى عين نائبا عن حكومة مصر فى التصفية المالية الدولية, ثم تولى رئاسة الوزراء فيما بعد , كما هو معرف تاريخيا.
وهكذا كان لإسهام الأقباط فى الحركة الإقتصادية والسياسية والإجتماعية الدور الفعال والمؤثر فى نهضة مصر الحديثة كما يقررها التاريخ والمؤريخين , ولا مجال للتزايد على هذا الدور , ولكن هذا كله كان فى ظل حرية العقيدة وعدم إدخال عنصر الدين فى حصر الكفاءات فكانت الوطنية لها المقام الأول أما الدين فكان هو العلاقة المباشرة بين الإنسان وخالقه.
ولن أكون مغاليا انه بعد تأميم أموال ومصانع وإقتصاد الأقباط وإبعادهم عن حكم وإدارة البلاد وتهميشهم من الأسباب الرئيسية فى ما يعانى منه المجتمع المصرى الآن من فساد وانحطاط وانهيار أخلاقيا وإجتماعيا وأقتصاديا وسياسيا. |