بقلم : د. أحمد الخميسي
في شارع جانبي ، عند دوران شبرا ، يوجد مكتب شهر عقاري .. شقة ضيقة بها أربع حجرات ، في سقف كل حجرة مروحة ، وعلى أرضها خمسة مكاتب صغيرة ، وقصيرة ، تبرز من جانبيها ركب الموظفين .
في التاسعة صباحا تبدأ في المكتب ، الحركة ، والزعيق ، والزحمة ، ووجع الدماغ ، ويتواثب المواطنون ، مثل فشار ملسوع في طاسة ، يطقطقون وينحنون ويعتدلون بأوراقهم بين المكاتب !
وتحت النافذة الوحيدة في أول حجرة على يدك اليمنى يجلس سيد أبوطالب ، المختص بوضع تأشيرة استصدار التوكيلات القضائية ، وأمامه وقف – بعد قفز وهرس ودوس – مقاول بدين ، بوجه أحمر ، وقد أحنى جذعه ، ودفع بالورق إليه قائلاً بصوت أجش : توكيل قضايا يا أستاذ سيد ربنا يسترك .
لكن أبوطالب كأنه لم يسمع الرجل أو لم يره من الأساس ، فقد نهض وأعطاه ظهره ، وفتح النافذة على منور العمارة ودفع بأنفه للأمام ثم أغلقها ثانيةً وجلس وهو يقول : زبالة .
قال المقاول : ربك كريم .
ورفع أبوطالب رأسه ، بشعره المصبوغ بصبغة سوداء ، رخيصة ، وقال كأنما يكلم نفسه : تفتح شباك تهب عليك رائحة زبالة ! تعبر الشارع يضربك ميكروباص ! ، تأكل سندويتش يمرضك ! ، والقرش يأتي بخلع الضرس ، وإن جاء لا يكفي تعليم الأولاد وأكلهم . نتسول ؟!! بلدنا في الأغاني بس .! مصر أمنا ، ومصر التي في خاطري ، وكان علينا في المدرسة قصيدة بلادي جنة الدنيا .. جاءتها نيلة .
انتبه المقاول لكلمة " نتسول " ، فأخرج بخفة ورقة بعشرة جنيهات ووضعها تحت استمارة التوكيل على المكتب . لمحها أبوطالب فأخذ يشرح للمقاول بوجه مشمئنط : أنا من عائلة أبو طالب ، كان منها عضو مجلس الشعب ، و د. حسين ، طبيب القلب المشهور ، وأساتذة في الجامعات، أنا شخصياً كنت مرشحاً لوكيل وزارة . لكن؟ الله وحكمته .
لو كنت في عمر الشباب لهاجرت إلي أي مكان . لاشيء يربطني بهذا البلد. لاحظ المقاول أنه لم يوميء بكلمة للعشرة جنيهات فقال على الفور: عائلة أبو طالب معروفة ، ناس أفاضل كلهم . توكيل قضائي يا سيد بك .
في هذه اللحظة إنشقت الأرض عن فتاة بيضاء كالحليب ، طويلة ، ملفوفة ، أنيقة ، كل ما فيها بمقاس ، فكأنما ارتفع فجأة عمود نور ، وعطرٌ جمّد من حوله كل شيء ، يدي المقاول ، ونظرات أبوطالب ورقبته ، والهواء .
قالت بلكنة أجنبية : من فضلك توكيل تصَرُّف في سيارة .
ولمعت عينا سيد أبو طالب ، ومط رقبته مثل ديك البرارى ، وقال بصوت جميل : " تحت أمرك ".
سألها عن الاسم فقالت :" مرجريت يوسف ".
قال : مصرية ؟
.قالت : " نعم ، بابا مصري لكن ماما هولندية ".
قال : " لكنك تتكلمين المصرية ؟ "
.أجابت " نعم أنا هنا منذ عشر سنوات " .
قال لها : " أنا سيد ابو طالب . من عائلة أبو طالب ، منها أساتذة وأطباء ، أنا شخصياً كنت مرشحاً لوكيل وزارة .
ووضع يده على شعر رأسه المصبوغ وقال : " أعجبتك مصر؟ " .
قالت : " أحسن ناس " .
توقف عن تسجيل البيانات ، وقال لها بحزم :" مصر بلد عظيمة ، ومادام والدك مصري لازم تحبي بلدك , مضبوط ؟ " .
ابتسمت قائله : " إن شاء الله " .
تساءل بتشَكُك :" بلدك مهما كان ، هل تحبينها فعلا ؟ "
هزت رأسها وقالت : " الحمد لله " .
عاد يملأ الخانات في ورقة التوكيل وقال :" مصر جميلة صدقيني ، تاريخ وحضارة . هل رأيت الأهرامات والقلعة والمتاحف؟. شُفت ؟! الناس عندنا يتعاملون بطيبة رغم الظروف الصعبة . هذه هي بلدنا يامرجريت ".
قالت : " مصر أم الدنيا " ... بدا كأنها تكرر عبارات محفوظة .
تناولت الورق ، فقال لها : ادفعي الرسوم في الخزانة ، واستلمي التوكيل في الحجرة الثانية ، وتفضلى فى اى وقت تحتاجين فيه أى شئ . نحن المصريين هكذا ، نساعد الناس ، ونَحِل . لا نتأخر أبدا .
استدارت لتنصرف ، فألقى نظرة ، من طرف عينه ، على العشرة جنيهات ، وعاد إلي الفتاة ببصره ، واستوقفها ، يسألها بنظرة مُعَذّّبة ، حائرة ، وشئ يعتصره من الداخل : " لكن ما الذي تحبينه في بلدنا ؟ صدقاً .. قولي لي ؟ " .
" قصة قصيرة " |