CET 00:00:00 - 03/05/2010

مساحة رأي

بقلم: نسيم مجلي
لم تكن الفرعونية إذن أفكاراً خيالية يروج لها سلامة موسي ، بل كانت واقعاً ثقافياً  ، وشعورياً حياً يترجم نفسه في حياة الشعب ،  وقواه الحية ، ويعبرمن خلال الجماهير والقيادات الثقافية ، ويفرض نفسه في جو الحرية الليبرالية السائدة انذاك.
 وبالنسبة للأدب العربي ، فلم يكن لدي سلامة موسي ما يعطيه لدارس مثل لويس عوض ، لأن سلامة موسي كان يري أن الأدب العربي القديم ، في معظمه ، نتاج عصور الإنحطاط . فهو أدب ملوكي كُتب لتسلية الحكام والسلاطين ، وليس فيه إعتبار للإنسان الفرد ، ولا للشعب . وهو أدب يُعادي الثورة والتقدم ؛  لذلك إبتكر لويس عوض طريقة  للتثقيف الذاتي ، اعتمد فيها على النقد الذي كان ينشره العقاد وطه حسين.
ومن الملاحظ أن علاقته بهذين العملاقين لم تستمر على مستوي واحد، ففي الوقت الذى بدأت فيه هذه العلاقة تقوي وتتوثق بطه حسين، نجدها قد أخذت في الذبول أو الضعف مع العقاد، وكان ذلك بسبب تعاظم دور طه حسين في قيادة المثقفين ، ودفاعه القوي عن إستقلال الجامعة.
فنحن نعرف أن لويس عوض تعلق بالعقاد في شبابه ، لأنه كان أكبر مدافع عن مبادئ الحرية ، والإستقلال ، والديمقراطية  . كما كان رائداً من رواد التجديد في الشعر الحديث ، حيث أنشأ هو والمازني وشكري مدرسة الديوان ، التي دعت إلى هجر القصيدة التقليدية وشعر المناسبات الذي كان يُمَثله شوقي،  إلى شكل حديث للقصيدة يُتيح  للشاعر أن يُعَبّرعن مشاعره وأفكاره بصدق.

لكن الأمور تدهورت بين العقاد والوفد فطُرد منه ، وانضم إلى خصومه ، تحت وطأة أزمة خطيرة جعلته يتنكر لكل شئء. فتحوَّل إلى كتابة "العبقريات الدينية " ،  وأجّرَ قلمه للسعيديين . بل وأكثر من ذلك أنه نظم القصائد في مدح الملك فاروق. وأصبح لا شاغل له إلا هجاء الشيوعية والشيوعيين واشتغل في " أخبار اليوم" وأعلن الحرب على حركات التجديد في الشعر" (أوراق العمر ص 477).
هكذا انفصمت العلاقة العاطفية ،  والفكرية ، التي ربطت لويس عوض بالعقاد ، حين تنكّر هذا الرائد لمبادئه ، وإن كان لويس عوض يشهد للعقاد أنه ظل لآخر لحظة في حياته ضد جميع النظم الشمولية كالشيوعية ، والنازية ، والفاشية الدينية على وجه الخصوص.     
ومهما كان الأمر، فإننا نلاحظ ، من خلال ما كتبه لويس عوض، أنه في مقابل التراجع الذي انحدر إليه موقف العقاد، نجد التصاعد السريع الفعّال في موقف طه حسين في قيادة المثقفين. حيث كان لإقصاء طه حسين عن الجامعة دوي عظيم فأضربت الجامعة شهراً أو يزيد ، وتحول طه حسين إلى رمز لاستقلال الجامعة وصمودها أمام السلطة التنفيذية ، ليس فقط بين المثقفين، ولكن أيضا على المستوي الجماهيري" (الحرية ونقد الحرية ص 10).

وكانت نقطة التحول الهامة في حياة طه حسين هى تحوُّله الروحى ، وإنتقاله من الأحرار الدستوريين ، معسكر الصفوة ، حيث كانت الحرية تعني " العقل" المثقف ، لا حرية المحتمع بأشمل معانيه ،وكانت حرية الاستاذ في أن يبحث ، وأن يفكّر، وأن يتحدي كل قيد فرضته التقاليد المتحجرة ، أو عواطف الدُهمَاء وجهلها.
ولا شك أن طه حسين في العشرينات ، وما قبل العشرينات، وجدَ في مثقفي الأحرار الدستوريين ، من أمثال لطفي السيد ، وعبد العزيز فهمي ، وعلي عبد الرازق ، ومحمد حسين هيكل، وهم مثقفو الأقلية المعزولة عن تيار الجماهير ، وربما في بعض زعمائهم مثل عدلي يكن ، وعبد الخالق ثروت، وهم زعماء الاقلية المعزولة عن الجماهير، هذا الوفاء الذي يمكن أن يحمي العقلانية "المصرية المتحررة"  ، بل وهذا العنصر الذي يمكن أن يتبني مدرسة "التنوير".
وقد أثبتت تجربة "الشعر الجاهلي" صدق اختياره كما أثبتت تلمذته ثم زمالته وصداقته للطفي السيد أن العقلانيين الأحرار في مصر كانوا قادرين بالفعل على إرساء التقاليد الجامعية الراقية ، وحماية البحث العلمي ،  وتحرير المرأة بالعلم والتعليم.(الحرية ونقد الحرية – ص 12).
وكان لويس عوض ،  كعادته ، لا يترك شيئا دون دراسة أو تمحيص ، وهو يُحاول أن يستقصي الأسباب الحقيقية لتحوُّل طه حسين عن معسكر الصفوة في حزب الأحرار الدستوريين ،  إلى ما كانوا يسمونه بديمقراطية الرعاع في حزب الوفد ، ويقول إن أحدا لم يحاول أن يسبرأغوار هذه الفترة الغامضة في نمو طه حسين الروحي ، الذي جعلت منه أكبر طاقة ثورية في كفاح مصر الثقافي ، الديمقراطي ،  الليبرالي ،  منذ ديكتاتورية صدقي الأولي عام 1930. كما يرفض تفسير تعاطف طه حسين مع الوفد في تلك المرحلة الدقيقة بأنها لأسباب شخصية، ويري أن سبب هذا التحول في موقف طه حسين السياسي ، والإجتماعى ، هو إحساسه ، منذ آلت زعامة الأحرار الدستوريين إلى محمد محود باشا ونظرائه بعد وفاة عدلي يكن وعبد الخالق ثروت ، أن هذا الحزب لم يبق منه إلا هيكله الخارجي، أما مضمونه فقد مضي وإنقضى بذهاب جيل المستنيرين.

ثم يصل لويس عوض إلى لب الموضوع حين يقول: "هكذا بموت عدلي يكن ، وعبد الخالق ثروت ، طار حلم الديمقراطية الأثينية.. ذلك الحلم الذي طالما داعب خيال لطفي السيد ، وطه حسين ، و مصر الفكرية ، ولم يكن هناك بُد من الاختيار المرير بين الملكية المطلقة المتعالية على حكم العقل والقانون ، وبين حكم الشعب.     
أما لطفي السيد ، وعلي عبد الرازق ، ومصطفي عبد الرازق ، فقد اعتزلوا السياسية بكل معني حقيقي وعكفوا على العلم والتعليم . وأما طه حسين فقد اختار جانب الشعب و"الدهماء" كما كان صدقي باشا يسمي رجل الشارع في مصر". ( الحرية ونقد الحرية ص 14).
وبإختصار، أقول أن غرضي من الحديث ببعض التفاصيل عن علاقة لويس عوض بالعمالقة الثلاثة : العقاد ، وسلامة موسي ، وطه حسين ، هو البحث عن مراكز الإستقطاب ، أو بتعبير أبسط ، جوانب الجاذبية الشخصية التي كانت تستهويه وتشده بقوة إلى هؤلاء الأقطاب ، وما هي دلالة ذلك بالنسبة لشخصية لويس عوض.
فنحن نلاحظ مثلا أن هذه العلاقات قامت أساسًا على أرضية الكفاح الوطني بما اكتشفه من مَد وجذر ، في الفترة ما بين ثورة 1919 ،  وثورة 1952. فنجد لويس عوض في وقتٍ ما ، مهموما بمهمة التوفيق بين هؤلاء الثلاثة على المستوي الفكري ،  ثم في وقت آخر، فى المرحلة التى  يمكن أن نسمبها مرحلة الفرز والإختيار، نَجده يُفرّق بينهم على المستوي الإجتماعى  والفكري ..  
يقول : "كانت مشكلتي أن أوفّق بين مثالية العقاد الجوانية المتعالية  وأقانيمه المطلقة الشامخة ، وبين مادية سلامة موسي العلمية الباردة ، وبين عقلانية طه حسين المتأجِّجة المُركّبة تركيباً غريباً من قوانين التوازن الكلاسيكي ، والإستقرار الكلاسيكي ،  وقوانين الثورة على التوازن والإستقرار ، وكأنها جدلية عظمي مُتَسِقة ومُضطربة مما إبتكرها  فيلسوف مجهول تحوّل ظله في منطقة ما بين ديكارت وهيجل". (الحرية ونقد الحرية ص 24).

لكنه وحّد بينهم في الموقف من الدين ، فهو يذكر أن سلامة موسي كان دائم الدعوة للإهتمام  بدراسة حضارة مصر الفرعونية ، وكان عنده شموخ القبطي المتمسك  بأصالة الفراعنة حضارةً وأمجاداً. الإ أنه لا يعتقد أن سلامة موسي كان مسيحيا إلا بالميلاد ،  فقد كان يضع جميع أديان التوحيد في سلة واحدة ، وكان يتكلم عن الثالوث الأوزيري كما يتكلم عن الثالوث المسيحي ، وكان عاجزاً عجزاً تاماً عن الميتافزيقا بسبب تكوينه العلمي ، و ينظر إلى كافة الأديان من وثنية وتوحيدية نظره إلى ظواهر أنثروبولجية ،  ويكاد يقول الشئء نفسه عن العقاد وطه حسين: "وجدتُ سلامة موسي صريحاً في إشتراكيته ، صريحاً في زندقته ، ووجدتُ العقاد زنديقاً ، ً يُغطّي زندقته بمقولاته الفلسفية ، فيُؤلِّه الشعراء ، ويُسَوّي بين وحيهم ووحي الأنبياء ، ويجاهر بعدائه لللإشتراكية ،  وبدعوته للفردية ، كان العمالقة الثلاثة زنادقة، كل على طريقته الخاصة :  كانت زندقة العقاد من منطلق مثالي، وزندقة سلامة موسي من منطلق مادي ، أما طه حسين فقد كانت آية زندقته كتابه " في الشعر الجاهلي" ، الذي قال فيه بصراحة إن قصة إبراهيم  وإسماعيل  وبناء الكعبة ،  ليست لها حقيقة تاريخية ، بل هي مناقضة للتاريخ . وكان رفضه وليداً للعقلانية والمنهج العلمي".
ونلاحظ هنا أن لويس عوض يستعمل كلمة " زنديق" كنوع من المعارضة الساخرة لقاموس الرجعية الدينية والمتطرفين منهم ، الذين ارتدوا مسوح كرادلة محاكم التفتيش ،  وراحوا يُفَتّشون في ضمائر الناس ،  ويوزعون تهم الزندقة والكفرعلى كل من يخالفهم فى الفكر.
لكن لويس عوض ، وهو على النقيض تماماً ، لا يدين أحداً من هؤلاء الأساتذة الأجلاء ، وإنما  قصد إلى تصوير خروجهم على الفكر المعتاد أو التقليدي بالمصطلحات الشائعة ، ولذلك عاد إلى توضيح هذه النقطة فقال :
"فاذا كانت كلمة الزندقة جارحة ،  فلتقل إن هؤلاء الثلاثة كان لهم فَهم خاص للدين ،  يختلف تماماً عن المفهوم العام ، فهو كإيمان الفلاسفة والعلماء بعد هتك الأقنعة الاجتماعية والفكرية" (اوراق العمر ص 464).
ولا نُغالي إن قلنا أن هذا التصوير يَصدق على لويس عوض نفسه فيما يتعلق بالأديان ، ولكن المهم في هذا السياق ،  أن نادي المُثَقَفين الكبار لم يعرف للخلافات الدينية أو للتعصب  أي أثر، بل كان يسوده جو الحرية الفكرية ،  والتحرر العقلي ، والإستبسال في سبيل ترسيخ المناهج العلمية والتجريبية في التربة المصرية.

 وكان لجو الإنفتاح العقلي تأثيره القوي على تكوين لويس عوض الفكري ؛ فرسخ في وعيه هذه الليبرالية التي تَشَرّبها في وسطه العائلي في طفولته وصباه ، وغرز فيه روح المحبة والتسامح لكل الشعوب والأجناس ؛ وحماه من التطرف القومي والتعصب الديني .
 يقول صديقه الدكتور شكري محمد عياد :  " لكن بكل تأكيد لويس عوض لم يكن إطلاقاً متعصباً ، وهو في رغبته الحميمة في التواصل ، تمنّي أن تُترك مسألة الدين جانباً ، وليكن لكل انسان إعتنقاده الخاص ، وأظن أن هذا فهم راق جداً ، وكان ينبغي أن يوافقه الجميع عليه حتي خصومه ؛ لأن هذا شئ  بين الانسان وربه ، فالذي يُصلي متظاهراً بالصلاة اسمه منافق عند المسلمين، فما قاله لويس عوض ليس فيه شئ يؤذي أحداً".
هذه اذن ساحة التوافق بين العمالقة الثلاثة كما صورها عوض وكما انعكست على فكره ووجدانه.
كانت محاولة التوفيق – كما يقول – هي معاناة حياته في المرحلة الأولي ،  لكن التطورات السياسية والإجتماعية على أرض الواقع ، وتَبَدُّل المواقع، خصوصاً بالنسبة للعقاد وطه حسين ، خفّف من وطأة الحيرة عنده ، ومكّن له من الفصل بينهما على أساس سليم. بإختصار ،  انتقل العقاد إلى الرجعية فكرياً وسياسياً ، وبهذا خرج من دائرة إهتمام لويس عوض ، في  الوقت نفسه تقدّم طه حسين ، من بين الصفوة الفكرية ، إلى خِضم العمل بين الجماهير، ووضع نفسه في جانب المقهورين ، والمُعذبين في الأرض ، يعرض قضاياها ويشير إلى الحلول ،  وحين واتته الفرصة ، اتخذ أصعب القرارات ، وواجه قُوي الإنتهازية السياسية ، والرجعية الثقافية ، لكي يحقق مقولته ، ويجعل التعليم حقاً لكل المواطنين شأن الماء والهواء.

في ظل هذا المناخ العام ،  مال لويس عوض إلى رؤية تجمع بين العدل والحرية ،  وتعطي الجانب الإجتماعى إهتماماً خاصاً ، وقد سمّاها بفلسفة الإشتراكية  الديمقراطية. وهي رؤية تقوم على الإلتزام بالإنسانية وحدها حيث يقول:
" نحن في حاجة إلى عقيدة جديدة ، هي عقيدة إنسانية أولاً وقبل كل شئ ، يكون فيها المفكر الإنساني ،  والفنان الإنساني ،  والسياسي الإنساني .. إلخ، ملتزماً بالإنسانية وحدها إلتزاماً حراً  لا إكراه فيه ،  إلتزام المُحب بالشئ المحبوب ". ( لمصر وللحرية ص 55).
فإذا عرفنا أن محبوبة لويس عوض " السمراء " هي مصر، فمصر كانت  وستظل هي قلب العالم وضميره (مسرحية الراهب) ؛  أدركنا هذه الرؤيا التي تجمع بين الرومانسية والواقعية ، أي بين العالمية والقومية ، ومن ثم كان دأبه الدؤوب تأكيد صحة هذه الرؤية عن طريق الأدب المقارن ، فراح يبحث عناصر التأثر والتأثير بين الثقافات المختلفة ويكشف عن مظاهر هذا التأثر في الأعمال الأدبية مثل "رسالة الغفران" و" الكوميدية الإلهية" ؛ ليبرهن على وحدة الثقافة العالمية. فوحدة الثقافة العالمية عنده ، هي القاعدة الأصلية للمساواة بين البشر،  وهي المصدرالأول للدعوة  للإشتراكية  العالمية.  
إنها رؤية تعتمد على الحب والتضحية ، وترفض نزعات التفوق والإستعلاء ،  أو التعصب القومي والديني . وهناك من يصف هذه الرؤية بالتوسط والإعتدال مثل الدكتور شكري محمد عياد ( الهلال – أكتوبر سنة1990) حيث يقول:
" أما إذا أردنا أن نضع أداء لويس عوض في سياق الفكر العربي فأول ما يخطر ببالنا هو قربها الواضح من " تعادلية" توفيق الحكيم ، بل من تلك " الوسطية" أو التوفيقية التي يراها الكثيرون سمة مميزة ، إن لم تكن السمة الأساسية ، للفكر العربي الإسلامي. ولسنا نتوقع من هؤلاء أن يعدوا لويس عوض بين المفكرين الإسلاميين ( ولو أنه في نظرنا قضية معقولة جدا) ولكننا نطلب منهم فقط أن ينصفوا الرجل ، وأن يُقروا بأن أعماله النقدية تقع في منطقة القلب من ثقافتنا العربية الواحدة ، ولهم أن يصفوا هذه الثقافة بما يشاءون من الصفات".

لقراءة الجزء الأول من المقال انقر هنا

لقراءة الجزء الثاني من المقال انقر هنا

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ١ تعليق