CET 08:47:13 - 03/05/2010

مقالات مختارة

بقلم: منير عامر

وحتي كتابة هذه السطور لم يتفق أطباء النفس علي تعريف جامع مانع لواحد من اقسي أمراض النفس البشرية وأعني به الاكتئاب‏,‏ فهم يتراوحون بين أعراض عديدة‏,‏

قد تبدأ من احساس الإنسان بأن حياته بلا جدوي‏,‏ أو السباحة في بحر الاحساس بالذنب علي أفعال قديمة ارتكبها الإنسان وهو يجهل نتائجها‏,‏ أو أن يشعر بأن ما تأتي به الأيام لم يكن هو ما يخطط له أو يتمناه‏,‏ أو تتسع المسافة بين ما يحلم به وبين امكاناته ليحقق تلك الأحلام‏,‏ وأن يتوهم في نفسه قدرات لتحقيق ما يريد‏,‏ لكن أنفاسه تتلاحق وهو يلهث من أجل ما يرغب‏,‏ ثم تنقطع الأنفاس ليخر صريع الحزن الذي لا يجرؤ علي كشف أسبابه أو تخفي نفسه عنه تلك الأسباب‏,‏ ومن الطبيعي أن ما يحدث للأفراد ينطبق علي المجتمعات أيضا‏,‏ وفي كل الحالات يتعامل الفرد أو المجتمع مع العديد من الحيل اللاشعورية التي تمارسها النفس البشرية أو الضمير المجتمعي‏,‏ حين ترزح الأكتاف تحت ثقل كلمات الواجب والمسئولية وبين الأمنيات التي تبرق في الخيال‏,‏ فهي أمنيات قد لا يتحملها الضمير‏,‏ أو لا تستطيع امكانات الفرد‏-‏ أو المجتمع‏-‏ أن تصل إليها دون اخلال بالقواعد الاجتماعية والأخلاقية‏,‏ وقد تقود تلك الأمنيات صاحبها إلي فقدان تصور النتائج المترتبة علي بعض من الأفعال‏,‏ كما يحدث في الجرائم التي يظن مرتكبوها أنهم قد أخذوا من الحيطة والحذر ما ينجيهم من نتائج تلك الجرائم‏,‏ ثم لا يلبثون أن يجدوا أنفسهم واقفين أمام النيابة والقضاء‏,‏ ثم تلقي العقوبة المناسبة‏,‏ وهو ما حدث أيضا علي مستوي المجتمعات مثلما انجرفت ألمانيا إلي النازية تحت قيادة هتلر فتم سحقها بالحرب العالمية الثانية‏,‏ وهو سحق لم تكن ألمانيا تضعه في الحسبان‏.‏

ويظل السؤال الفعال والمهم القائل‏:‏ كيف يقيس الإنسان‏-‏ أو المجتمع‏-‏ خطواته ليسير بمجمل قدراته في طريق تحقيق أحلامه؟
وهذا النوع من الاسئلة يتطلب قدرا من الحكمة المصحوبة بطاقات من الاصرار علي بلوغ تلك الأحلام إن كانت ممكنة‏,‏ دون أن تقوده خطواته إلي الارتباك أو الهزيمة‏.

ونوعية الحكمة المطلوب في تلك الرحلات كما يشرحها د‏.‏ أرون بيك الطبيب والعالم النفسي في كتابه الحب وحده لا يكفي‏,‏ وهو يعرض في كتابه خبراته في العلاج النفسي للاكتئاب‏,‏ وهي رحلة قطعها عبر طريق طويل بدأه كطالب ثم دارس إلي أن تولي منصب رئيس قسم العلاج النفسي بجامعة بنسلفينيا‏,‏ ويصف د‏.‏ آرون الحكمة المطلوبة بقوله عليك أن تفكر في أنك من تأليف غيرك بداية من الاب والام والبيئة المحيطة وظروف التعليم‏,‏ وأن ما يخص احتياراتك إنما ينبع من مدي ايمانك بأن للآخرين أيضا اختيارات قد تتفق وقد تختلف عما تريد‏,‏ فإن استطعت أن تجد نقاط تلاقي بين ما تختاره وبين ما يمكن أن ينسجم مع اختيارات غيرك‏,‏ فأنت توسع لنفسك طاقات من القوة تفوق خيالك لتصل إلي ما تريد‏,‏ ولكن هل يمكن أن يقيم الإنسان تقديرا حقيقيا لاختيارات الآخرين؟

عن نفسي أنا كاتب هذه السطور اعترف أني أحاول تطبيق ذلك باتباع القاعدة الذهبية في قيادة السيار‏,‏ وهي ضرور ترك مسافة لا تقل عن أربعة أمتار بيني وبين السيارة التي أمامي‏,‏ وكثيرا ما أسمع صرخات أبواق السيارات التي تسير خلفي عندما أطبق تلك القاعدة التي تحميني من الاصطدام بالسيارة التي أمامي‏,‏ إن قام أحدهم بفرملة مفاجئة لتفادي ما أمامه‏,‏ بل وفي بعض الأحيان قد أسمع ما لا يسرني‏,‏ وكثيرا ما افتح زجاج السيارة الذي بجانبي لأقول لمن أسمعني كلمات لا تليق‏:‏ آسف لم أقصد مضايقتك ولكن اتبع قواعد المرور الأساسية واللازمة لانقاذ حياتي أو حياتك‏,‏ وقد اسمع كلمات هل هناك قاعدة يمكن أن تسير بها في تلك الشوارع المزدحمة؟ وغالبا ما لا أرد علي من يتناسي تلك القواعد الأساسية لأنه يقع في وهم تصور أنه أكثر أهمية من الآخرين‏,‏ ويجهل أن وصوله إلي المكان الذي يرغب في الوصول إليه لا يعتمد علي ارادته وحده‏,‏ بل تتحكم في ارادات غيره‏,‏ فإن احترام القواعد المنظمة لترتيب الأولويات التي تسمح لكل فرد أن تتناسق ارادته مع ارادات غيره‏,‏ فلسوف يصل قطعا إلي الهدف الذي يبغي الوصول إليه دون اجهاد نفسي يسرق منه الحيوية اللازمة له حين يصل إلي ما يرغب‏.

وما ينطبق علي القواعد الذهبية في المرور ينطبق أيضا في السياسة‏,‏ فعلي سبيل المثال لم يدخل هيلموت كول مؤسس وحدة ألمانيا المعاصرة في بئر التنافس مع الاتحاد السوفيتي‏,‏ بل أعاد ترتيب الأولويات واستخدم خياله علي أساس واقعي ليحقق وحدة ألمانيا‏,‏ إن سقط النظام الشيوعي هناك‏,‏ ورأي بعيون السياسي المقتدر أن امكانيات ألمانيا الغربية التي يحكمها قادرة علي تحمل مسئولية الوحدة مع ألمانيا الشرقية‏,‏ فوضع تصورا واقعيا لما يمكن أن يتحقق عندما يسقط حائط برلين وترك مهمة توسيع رقعة الثقوب في القيادة السوفيتية للسيدة مارجريت تاتشر رئيسة وزراء انجلترا في تلك الأيام‏,‏ وعندما سقط حائط برلين لم تسقط ألمانيا في بئر الفرح المزيف‏,‏ بل طبقت ما كانت تستعد له من امكانيات تشغيل القدرات المعطلة في ألمانيا الشرقية‏,‏ بما يحقق سرعة الانسجام بين من عاشوا في القهر الشيوعي وبين من عاشوا في ربيع ألمانيا المقتدرة من بعد الحرب العالمية الثانية أي ألمانيا الغربية‏.

هكذا يمكن أن نري أهمية ترتيب الأولويات مع احترام ارادات الغير والايمان بأن حسن تقدير المواقف هو الطريق لتحقيق الأهداف سواء في مشوار تقطعه من منزلك إلي عملك بسيارتك أو صناعة وحدة بين شعب واحد قسمته الحرب العالمية الثانية إلي دولتين‏,‏ وفي كل من الموقفين صيانة للإنسان من أنياب التصورات الخاطئة التي تقود إلي الاكتئاب المرئي أو غير المرئي‏,‏ فتجارة الاكتئاب تربح كثيرا عندما تغيب القدرة علي رصد الامكانيات وحسن استخدامها لتحقيق الأحلام‏.‏

نقلا عن الأهرام

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع