بقلم : نذير الماجد
تساهم القراءة المتأنية للتشيع في كشف المنعطفات الحاسمة التي كان لها التأثير الأبرز في تشكله وبلورته والتي تتمثل في ثلاث محطات أساسية: العصر البويهي، العصر الصفوي وأخير الثورة الإسلامية في إيران.
سنتمكن من خلال هذا الرصد من تفسير التفاوت في المنظومة السياسية بين اتجاهات محايدة وأخرى منعزلة وثالثة معارضة توجها السيد الخميني بممارسته المباشرة للسياسة بعدما كانت حكرا على المعصوم الغائب بداية ثم إعطاء الفقيه دور إضفاء الشرعية على الممارسة السلطانية المشروطة بإذنه لاحقا. وفيما عدا المنعطف الأخير تتميز المحطتان البويهية والصفوية بكل الخصائص التي تميز المنعطفات التاريخية للفكر قبل أن يستقر ويصبح اعتقادا أرثوذكسيا،
فالخصائص التأسيسية التي نلاحظها في أي تأسيس تتمثل في عدة إجراءات مثل تدوين النصوص المرجعية والتأصيل النظري وتحديد الاعتقادات التوقيفية والثابتة والتي تحدد شكل المذهب، ولكن ما حدث في بداية العصر الصفوي ليس تأسيسا بقدر ما هو استدراك على التأسيس الأول، سعى من خلاله "رجل الدين" إلى قلب العلاقة إلى صالح "رجل السلطة" المتوج بمسوح الزيت المقدس.
مع مجيء الخميني حدث تحول آخر في الوعي السياسي الشيعي كان من الأهمية بحيث قاد الدارسين للفكر الشيعي إلى اعتباره حدثا مفصليا في تاريخ الفكر السياسي الشيعي، فالخميني انتزع المبادرة من رجل السلطة وأحل ذاته محل الإمام الغائب انطلاقا من نظرية "ولاية الفقيه" لكنه أيضا ساهم في تدشين فهم جديد للتاريخ ورؤية شمولية للواقع الاجتماعي وإدراك بأهمية فعل المبادرة الناجمة عن إدراك مماثل بأهمية الذات التي ما عادت منكفئة بل ستتصدى هذه المرة لفعل المبادرة على شكل ممارسة سياسية مباشرة كما فعل الخميني أو ممارسة فكرية موسعة كما فعل الشيرازي، وهكذا كانت إيران مخاضا تولدت عنه تأثيرات دينية وسياسية عديدة.
ولكن هل من الصدفة أن تحتضن بلاد فارس المنعطفات الأساسية التي أثرت على مسار الفكر السياسي الشيعي بعدما كانت المنبع الرئيسي للقامات الفكرية المشغولة بترسيخ المخيال السياسي والذي جرى تأصيله إسلاميا نتيجة جهود معرفية بذلها أمثال ابن المقفع والماوردي وغيرهما؟
لا يبدو هذا السؤال مفاجئا إذا ما قبلنا بالافتراض السائد حول الأصل الفارسي التأسيسي للفكر واللاهوت السياسي في الإسلام. هذا الافتراض الذي حظي بتأييد واسع من العديد من الباحثين والمفكرين المشتغلين بدراسة الإسلام دراسة علمية متقصية يؤدي إلى نتيجة تكشف جانبا مفارقا من المسكوت عنه والذي ما انفك عن تغييبه الخطاب الديني التبجيلي، فإرجاع التفكير السياسي الإسلامي إلى أصول أجنبية يعني كشف الجوانب المعتمة من الذات ضمن عملية معرفية مترافقة مع فزع ناجم عن مواجهة مريرة مع الذات، فللمعرفة أثر الألم والمرارة خاصة إذا انبثقت من مسرح التاريخ كما حدث فعلا لا ذلك التاريخ المتسق مع الرغبة واستيهامات الذات.
التاريخ الواقعي ينبئنا بحقيقة مرة هي أن فكرنا وحياتنا السياسية ليست فعلا أصيلا ناجما عن جهد الذات. ليست الثقافة الإسلامية هي نتاج محض إسلامي، كما أن المنظومات المعرفية الأخرى المدعوة إسلامية لا تخلو من تأثيرات هلنستية وهندية وفارسية ورومانية، فالفقه بدقته وشموليته يكشف عن تأثير القانون الروماني، والتصوف يشي بحضور التصوف الهندي والفلسفة الافلاطونية المحدثة، كما أن الأخلاق ليست بالأصالة بحيث تحول دون اصطباغها بالتأثير الإغريقي شأنها شأن علم الكلام والفلسفة، كذلك التفكير السياسي الذي لم يكن نتاجا إسلاميا خالصا وإنما جاء نتيجة تبيئة لأدبيات عهد أردشير الموغلة في القدم. فالتاريخ الواقعي لا المتخيل يقول لنا بوضوح أن الأدبيات السياسية -ويا للمفارقة- كانت مستعارة.
لا تكمن المفارقة في الامتزاج والتمثل الثقافي وحسب، بل كذلك لأن الحدث السياسي ليس حدثا سياسيا بقدر ما هو حدث تأصيلي يزج بالحاضر دائما في متاهات الماضي، إذ يجعل من التاريخ دينا والدين تاريخا في مزج يمثل العمود الفقري لفلسفة التاريخ كما يراها السيد محمد الشيرازي "أحد الفقهاء المسلمين".
ولأن فلسفة التاريخ بوصفها حقلا معرفيا تمثل موضوعا أثيرا ومؤرقا للفلسفة وتغري المتعطش لسبر أغوار التاريخ فإن أي محاولة في ذلك لا تخلو من مجازفة، فمحاولة كهذه قد تشوه المفهوم وتختزله في قراءة تبجيلية تسميها فلسفة. السيد محمد الشيرازي كعادته لم تنقصه الجرأة فحاول مجازفا أن يكتب فلسفة للتاريخ، هذه الفلسفة بإمكانها أن ترتكز على أي شيء إلا العقل، يقول في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه "فلسفة التاريخ":
والفلسفة التي تعتمد على آراء عقلية مجردة لا يمكن استخدامها في معرفة التاريخ، فالتاريخ لا يمكن أن يستكشف بالفلسفة، أو يقال عن مثل ذلك، لأنّ التاريخ شيء حقيقي لابدّ أن يكتشفه الحاضر بنفسه، أو لا يكتشفه الغائب غير المخبر إلاّ في بعض الحفريات التي لا تدلّ حتّى على عشر هذه الآراء، فلم يبق إلاّ أن يخبر الإنسان الصادق المتّصل بالله سبحانه وتعالى، ومثل هذا الإنسان هو في اعتقادنا نبي الإسلام وآله المعصومون (....) فإنّه كان للقرآن الكريم الأثر الأكبر في تصوّر المسلمين للتاريخ (...) السياسة لم تكن إلاّ وسيلة لغاية نبيلة، شريفة، هي نشر الدعوة، وإنقاذ الناس من الظلمات إلى النور، وهكذا ارتبط التاريخ بالحديث موضوعاً، فالحديث هو أقوال الرسول، وأفعاله، وتقريراته. فالتاريخ ابتدأ من الكتاب والسنّة (...)" وتحت عنوان "التاريخ دين لا سياسة" يضيف الشيرازي: "لمّا جاء الإسلام، صار النور كنور الشمس، فصار التاريخ تاريخ الأنبياء، والأوصياء، والعلماء، والزهّاد، والعبّاد، ومن إليهم (...) وهكذا جعل المؤرخون موضوع التاريخ، تاريخ الأنبياء وسنتهم، والأوصياء وسيرتهم، والعلماء ومذاهبهم، والحكماء وآراءهم، والزّهاد ومواعظهم، لأنّهم علموا أنّ المسلمين يتحرّون رضى الله سبحانه وتعالى في معاملاتهم، ومعاشراتهم، وأخذهم، وعطائهم." (فلسفة التاريخ، الشيرازي).
كلمات السيد محمد الشيرازي هي من الوضوح بمكان بحيث تفتح منظورا مغايرا للتاريخ ومفهوما مختلفا لفلسفته، فليس التاريخ هو صراع أو مزج "اعتباطي" بين أحداث وحركات وتيارات ومذاهب وإمبراطوريات وإنما هو تاريخ أنبياء، فلسفة تاريخية ترتكز على مسبق إيماني لفكرة الإمامة المندرجة ضمن تأويل خاص لمبدأ الاصطفاء "النبوة"، وكما أن المصير الحتمي لحركة التاريخ لن يكون سوى الخضوع التام للإمام الذي يمثل امتدادا أمينا لخط الأنبياء فإن الحدث التاريخي هو كذلك فعالية كشفية تنبئية ترجع للإمام دون سواه، لأننا لا نستطيع كشف الماضي إلا من خلال الغيب المتجسد في شخص فوق تاريخي هو شخص الإمام/ النبي، فالتاريخ كما يقول الشيرازي لا يمكن أن يستكشف بالفلسفة وإنما بالإنسان المتصل بالله/ الغيب، وهكذا يصبح التاريخ دين مهمته التبشير بيوتوبيا.
الصياغة المثالثة للتاريخ ستسد الباب أمام أي محاولة لنزع القداسة عن أحداث ليس بالإمكان رصدها إلا بمعونة الغيب مما يقود إلى حذر في التعاطي مع التاريخ يشبه الحذر المعرفي الذي يؤرق الدارسين المعاصرين، إلا أن الفارق الجوهري بين صياغة مثالية وصياغة معرفية ليس ضئيلا بما يكفي لكي نقع في التباس، فالصياغة المثالية تلجأ إلى اللغة والأيديولوجيا وليس البنية الاجتماعية التي تلجأ إليها الصياغة المعرفية، الأولى تحذر من مقاربة التاريخ لأنه في علم الغيب في حين تحذر الثانية لامتزاج الأسطورة بالتاريخ، الأولى عملية دمج ولكن الثانية عملية فصل
والفصل ليس عملية سهلة ولذلك فإن المؤرخ المعاصر هو آخر من يقع في الجزمية والوثوق. ولكن الأهم من كل هذه الفوارق هي أن الصياغة المعرفية تؤكد على جعل الحدث التاريخي موضوعا للمعرفة التاريخية وليس شكلا لها، مما يؤدي إلى تأسيس تقابل ثنائي بين الحقيقة المتعالية والحدث الذي يخضع لاشتراطات تاريخية زمنية نسبية، فالدين ثابت والتاريخ متغير، الدين متجانس والتاريخ متشظي، الدين ينعم في جنة الحقائق المطلقة والتاريخ يسبح في نهر هرقليطس، الدين شأن روحي والتاريخ شأن سياسي، ولكن الفقهاء المسلمين سيدمجون بينهما دائما، وهي الفكرة المركزية في "فلسفة التاريخ" كما تتبدى للسيد محمد الشيرازي.
هامش:
* هذا المقال هو جملة من الاستدراكات والتعليقات حول بعض الردود التي وردتني إثر المقال السابق: "عندما يتحول التاريخ إلى دين". |