CET 00:10:59 - 15/04/2009

مساحة رأي

بقلم: القس رفعت فكري سعيد
عندما كتب المفكر الفرنسي (جان جاك روسو) كتاباً تحت عنوان العقد الاجتماعي اختلف معه المفكر الفرنسي (فولتير) اختلافاً بيّناً ولم تعجبه بعض الآراء ومع ذلك قال له: (إني أختلف معك في كل كلمة تقولها ولكنني على أتم استعداد أن أضحي بحياتي كلها حتى تملك الحرية وتقول ما تريد!!) هذا ما قاله فولتير لروسو منذ قرون خلت فبالرغممن اختلافه الشديد معه إلا أنه لم يهاجمه ولم يحاول أن يقصف قلمه أو يمنع كتابه ولم يجبره على التراجع أو الاعتذار عمّا كتب.
تذكرت ما قاله فولتير عندما قرأت هذا الأسبوع أن محكمة القضاء الإداري قضت بإلغاء ترخيص مجلة "إبداع" الدورية الثقافية التي تصدرها الهيئة المصرية العامة للكتاب التابعة لوزارة الثقافة بعد إدانتها لنشرها قصيدة للشاعر حلمي سالم منذ أكثر من عامين بعنوان "شرفة ليلى مراد" قالوا إنها تسئ للذات الإلهية.
ومَن يتأمل ما يحدث اليوم على الساحة من تطرف وعنف واغتيال نفسي واجتماعي يدرك أننا مستمرون في التقهقر إلى الخلف فلا يكاد يمر يوم إلا ونسمع عن مصادرة كتب أو الاعتراض على فيلم ورفع دعاوى لمنع عرضه من حُراس العقيدة ومُدعى الحفاظ على سلامة القيموالغريب في حكم محكمة القضاء الإداري أن الدولة تصادر مجلة ثقافية تابعة للدولة!! 
وتتخذ عمليات تقييد حرية الفكر والإبداع أشكالاً مختلفة في المجتمعات العربية وهي أشكال تندرج تحت ما يطلق عليه مرة اسم المصلحة الوطنية وأخرى اسم الدين أو الأخلاق أو المجتمع وأحياناً نسمع أن المصادرة بسبب ضعف العقول والأفئدة التي يسهل ضلالها ومن ثم لابد من حمايتها بالوصايةوهذه التسميات لا يراد منها غالباً معناها الحقيقي وإنما يراد بها تبرير عمليات القمع الفكري وهيمنة الرقابة الجامدة على الإبداع بألوانه المختلفة والنتيجة هي كثرة ما نراه من مصادرات لأعمال الفكر والإبداع من ناحية وتزايد وطأة الإرهاب الواقع على المفكرين والمبدعين من ناحية أخرى.
قال يوسف إدريس ذات مرة (إن الحرية المتاحة في العالم العربي كله لا تكفي كاتباً واحدا لممارسة إبداعه بشكل كامل بعيداً عن القيود المتعددة التي يفرضها على الكتابة الاستبداد السياسي والتصلب الفكري والجمود الاجتماعي والتعصب الديني) وعندما نقارن ما كان يحدث في زمن يوسف إدريس وما يحدث اليوم نلاحظ قدراً متزايداً من الوطأة القمعية لأشكال الرقابة التي تؤثر في النهاية تأثيراً سلبياً على حرية الفكر والإبداع.
وفي يقيني أن الأديان أقوى من أن تزعزعها رواية مهما كانت درجة إلحاد بعض شخصياتها والأديان أرسخ من أن يزعزعها كتاب مهما كانت درجة فسادهوأثبت من أي فيلم أو رسم كاريكاتيري مهما كانت درجة إساءتهكما أن الله سبحانه وتعالى أكبر وأعظم من أي قصيدة يتوهم البعض إنه تسئ إلى جلاله وهو سبحانه لم يطلب من أحد أن يدافع عنه بالنيابةفهو قوي قدير يستطيع أن يدافع عن نفسه.
ومن يقرأ تاريخ مصر في بدايات القرن الماضي سيكتشف كم  كانت مصر تنويرية ليبرالية قبل عصر الإنترنتفكم وكم عندما ظهر الفضاء النتي الرحب الواسع الذي يتسع لكل فكر ورأي حُرهل يصح أن تنشط عقلية المنع والمصادرة في زمن الإنترنت؟!! هل نكون بذلك مواكبين للتقدم أم متخلفين عن الركب؟!!
إن أي حديث عن ريادة مصر لا معنى له في ظل وجود عقلية المصادرة ولا سيما عندما تعمل بعض الأجهزة والمؤسسات في الاتجاه المناقض لتأكيد هذه الريادة.
إن كرامة مصرنا الغالية أخذت في الضياع حين ضاعت الحرية العقلية والفكرية والإبداعيةلقد فقدت مصر ريادتها ولم تعد لها مكانتها الراقية بين الأمم وما ذاك إلا لأن التعصب ساد بدلاً من التسامح ولأن العنف غدا بديلاً للحوار.
إن حضارة مصر آخذة في الذبول وما هذا إلا لأن التنوير قد انتكست وقدته وشحب الضوء في منارتهلقد أصبحت مصر في ذيل الأمم عندما أُستبدل النقل بالعقل ولغة القمع بلغة الحوار وأوهام التخلف بأحلام التقدم وقيود العبودية بانطلاقة الحريةفزاد التكفير الديني والتخوين الوطنيوفي ظل هذا المناخ المعادي للحريات لا يجوز للمثقف الحقيقي أن يجلس في دعة ويؤثر السلامة منتظراً من الحكومة أن تعد قوانيناً لمواكبة الحريات في العالم المتقدم أو أن ينتظر أن يفارق الجمهور تعصبه الأعمى الذي اعتاد عليه.
إن الحرية تنتزع انتزاعاً لأنها ليست هبة من سلطة أو جماعة وإنما هي حق لا يمكن اكتسابه إلا بممارسته فلا إصلاح دون حرية فكرية وإبداعيةوتقدم الأمم مقترن دائماً بأفق الحرية المتسع للمفكرين والمبدعينوبدون فتح نوافذ الحرية على مصراعيها فقولوا على مصرنا السلام!! 
وختاماً أود أن أسأل من تهيمن عليهم عقلية المصادرة: ألستم مدركين أنتم في أي عصر تعيشون؟!! ألم تسمعوا عن شبكة الإنترنت التي أصبح عليها كل شيء مباحاً متاحاًجهاراً نهاراًعياناً بياناً حتى متى ستظلوا تعيشون خارج دائرة الزمن وفي ذيل الركب؟!!!!!!
القس رفعت فكري سعيد
راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف- شبرا مصر
refaatfikry@hotmail.com
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ١٤ تعليق