ظاهرة جديدة في العالم: الحياة في العزلة . أعداد المنعزلين أو الانعزاليين الجدد ليست معروفة بعد، لكن يبدو أنها كبيرة، لأنها دفعت “نيويورك تايمز” إلى إجراء تحقيق حول هذا الموضوع ونشرته على صفحتها الأولى .
بالطبع السعي إلى العزلة ليس بالأمر المستجد، بل ربما هو أقدم هواية في التاريخ؛ فإنسان الكهوف، وعلى رغم أنه كان يعيش في جماعات، ترك آثاراً دلّت على تفضيله العزلة خارج إطار الصيد المشترك، والمجتمعات الزراعية التى ظهرت فيها الأديان الوثنية، تعج بالمعابد المنعزلة في أماكن قصية، خاصة الرومانية منها . وفي عصور الأديان التوحيدية، برز المتصوّفة والرهبان والمتأمّلون الذين توجهّوا إلى الصحراء أو إلى السهوب والوديان بهدف إدارة الظهر للدنيا والتوحّد مع التجليات الإلهية .
الانعزال الصحّي تعريفاً هو حالة من الابتعاد عن البشر والاقتراب من الطبيعة بهدف الحصول على السلام الداخلي، وصفاء الذهن، والتأمل الوجداني والفلسفي . وهو يختلف عن الانعزال المَرَضي الذي يُسبّبه انفصام الشخصية (الشيزوفيرانيا)، أو فشل المرء في التأقلم مع المجتمع .
وقد أثبتت الدراسات التي أجريت على الأشخاص الطبيعيين الذين يوضعون بمحض إرادتهم على شاطئ مهجور أو جزيرة نائية بمفردهم، أنهم لايظهرون أي دلائل على اضطرابات سايكولوجية أو عضوية . العكس هو الصحيح، حيث يُعلن هؤلاء بعد عودتهم إلى المجتمع أنهم أبرموا أخيراً الصلح مع أنفسهم ومع العالم .
فلنستمع إلى بعض هؤلاء .
روجر ليكستريت(63 سنة): “إنه أمر سحري، فالزمن في الجزيرة القفر التي عشت فيها، لم يعد موجوداً، وأنا عشت بسلام مع ملايين الطيور والمخلوقات الصغيرة والزواحف، ومع أشعة الشمس وأمواج البحر ونسائم الفجر” .
ن . فاهي (67 سنة): في عزلتي أكون أنا نفسي، ولست مضطراً إلى أن أخوض صراعات مع أي إنسان من أجل البقاء أو السيطرة” .
إدوراد جونز (27 سنة) الذي بنى لنفسه كوخاً في محمية في السويد: “أمر رائع أن يجد المرء طريقة أخرى للحياة . لم يعد الناس يعرفون كيف يصنعون أي شيء ولا بالطبع كيف يجب أن يعيشوا . أما أنا فقد اكتشفت فن الحياة في الغابة . كل شيء بات له معنى في حياتي” .
ماذا إذاً؟ هل نندفع جميعاً إلى العزلة؟
أجل . ولكن لفترة قصيرة فقط، فالعزلة المحدودة زمنياً تمكّننا من العمل، والتفكير، والاسترخاء من دون معوقات اجتماعية . هذا علاوة على أنها تجعلنا نرى الأشياء بوضوح أكثر بما لايضاهى، بما في ذلك الأزمات والمشكلات وحتى طبيعة نظرتنا إلى الحياة نفسها .
وإذا كان من الصعب على أي منّا، بسبب أشغاله وانشغالاته، أن يخرج أياماً عدة إلى عزلة صحراوية أو صومعة قصيّة، يقترح عليه العلماء ما يسمّونه العزلة العقلية، وهذه كناية عن تقنية تأمل تمارس في المنزل وتستند إلى تهدئة العقل ومنحه “إجازة” من التفكير بأي شيء، كما تتضمن الامتناع عن الكلام أو التفاعل مع الأشخاص والأحداث لفترة زمنية محددة .
في البداية، قد تكون الخطوة الأولى صعبة، لكن أول تجربة مع العزلة الخلاّقة ستجعلنا نهرول في كل حين إليها ليس فقط للخروج من دوامة الضغوط والحزن والهبوط النفسي، بل أيضاً للدخول في عالم من السلام الداخلي والشفافية الروحية .
قليل من العزلة، أيها الأصدقاء، يُفرح بالفعل قلب كل إنسان .
نقلا عن العربية.نت |