CET 09:33:04 - 17/05/2010

مساحة رأي

بقلم: نبيل شرف الدين
من أبرز مظاهر ازدواجية مجتمعاتنا وثقافتنا أننا لا نتحدث لغة واحدة، وخذ عندك مثلاً مفهوم «الحوار»، فهو فى أوساط النخبة ضرورة للعيش المشترك، ولابد منه بين جميع القوى السياسية بالمجتمع وداخل دوائر السلطة، لأنه إذا كان التنوع فى الرؤى والمعتقدات هو قدرنا، لكن علينا أن نعيش معاً فى وطن واحد، فلا بديل عن الحوار، الذى يصل بالجميع لنقطة مشتركة تكون أساساً للعقد الاجتماعى، الذى تتأسس عليه الدساتير والقوانين لتنظم حياتنا وتضبط إيقاع المجتمع وتضع الحدود بين المصالح المتعارضة.

لكن فى الجانب الآخر ولدى القطاع الأوسع من الناس فإن «الحوار» له مفهوم مختلف تماماً، يكاد يكون نقيضاً للمعنى الإيجابى السائد فى أوساط النخبة.. فأن يوصف فلان شعبياً بأنه «بتاع حوارات»، فهذا نعت سلبى، يعنى أنه شخص مخادع مناور قادر على «تحوير» كل المعانى لصالحه، وكل بضاعته هى الكلام ولغو القول، إذ يبدأ معك من نقطة ليقود الأمور إلى دائرة أخرى بعيداً عن صلب الموضوع، وسواء كان يقصد هذا أو لا يقصده ليس مهماً، فالمهم أنه يُدخل المتعاملين معه فى متاهات هم فى غنى عنها، فضلاً عن إهدار وقتهم فى الكلام الفارغ، أو إقحامهم فى معارك جانبية لا تعنيهم بل تورطهم.

وبقليل من التأمل لمشهد التعاملات اليومية فى بلد مثل مصر، ستكتشف أنه لابد للمرء أن يتمتع بصرامة الجنرالات حتى يلزم الآخرين بالالتزام بصلب المسألة التى يتحدث فيها، بدءاً من شراء ساندويتش وصولاً لمعالجة أى نزاع أو خصومة، فالطرف الآخر عادة لا يدخل فى صلب الموضوع مباشرة، بل يتعمد تمييع المناقشة، وتتحدد قدرته على ممارسة «الحوارات» بمهارته فى سحب «الخصم» لأبعد نقطة يفكر فيها، وبالتالى لا تنتهى أى مناقشة لخلاصة يمكنك أن تعتمدها كبنود اتفاق، لا يبقى سوى التزام كل أطرافه بتنفيذه دونما التفاف أو «تحوير».

يظهر الفرق بين «الحوار والتحوير» فى أكثر صوره وضوحاً فى برامج «التوك شو» المسائية عبر عشرات الفضائيات، فالمحاور الجيد هو من يستطيع أن يقمع ضيوفه، ولو بطريقة تخلو من الذوق، للالتزام بموضوع البرنامج، وهنا لا ألوم مقدمى تلك البرامج على هذه الممارسات مع ضيوفهم، فهم فى الحقيقة معذورون، لأن كثيرين من ضيوفهم يمتلكون قدرات يحسدهم عليها الشيطان شخصياً فى الالتفاف وتمييع القضايا،

فيمكن أن يكون هذا الضيف مسؤولاً ما، ويكون موضوع الحلقة عن أزمة الخبز مثلاً، فتجده يأخذك للأزمة الاقتصادية العالمية، ثم ينتقل بك لانفراد أمريكا بصناعة القرار الدولى، ولن يهدر الفرصة ليتهم اللوبى اليهودى بالهيمنة على دوائر صنع القرار الأمريكى، ناهيك عن بعض التوابل والبهارات التى يستعرض فيها معرفته ببواطن الأمور، كأن الرئيس الأمريكى يستشيره قبل أن يتخذ قراراته.

أى مخلوق من الغرب أو الشرق، المهم ألا يكون على مذهبنا فى «الحوارات»، لو تأمل خلاصة ما قاله المسؤول المصرى أو العربى سيفهم أن سبب أزمة الخبز هو إسرائيل، وهذا بالطبع كلام فارغ وتمييع والتفاف على مشكلاتنا، لهذا لا تجدنا قادرين على حل أى أزمة بل تعقيدها أكثر، وسيخرج المسؤول من الاستديو ليتصل بأولياء نعمته ليشرح لهم كيف استطاع بمهارة وذكاء أن «يبطط» الموضوع، بينما لو بذل صاحبنا نفس الجهد فى التعامل الجاد مع المشكلة، لتوصل إلى حلول ترضى الرب والعباد، وتراعى مصالحهم، وبالتالى تتقدم المجتمعات والدول كما يحدث فى كل مكان غير شرقنا الأتعس.

الكارثة المحدقة أن «عبده حوارات» ليس بالضرورة ظاهرة حكومية يمثلها المسؤولون المحتالون على خلق الله لكنه أصبح «حالة شعبية»، فما إن تقدك الأقدار للفرجة على فاترينة محل، حتى يخرج البائع ليسألك عما إذا كنت تبحث عن شىء معين، ولن ينتظر ردك بل سيبدأ استعراض بضاعته، ويمارس الوصاية على ذوقك وحساباتك الخاصة، وحينها لن تجد مخرجاً من المأزق سوى الفرار من هذا المحل، وعدم الشراء لأنه صدّر لك إحساس «الفريسة والصياد».

وكان بديهياً أن تشوه هذه المعايير الفاسدة روح المصريين لتتعمق فى نفوسهم قناعة مؤداها أن العلاقة سواء فيما بينهم أو مع السلطة تقوم على الانتهازية والكذب والخداع، وبالتالى رسخت مشاعر عدم الانتماء والإحباط، التى تعمقها عوامل أخرى كالبطالة والتعليم المتدهور والغلاء الفاحش، ناهيك عن الملايين ممن يعيشون فى العشوائيات التى تفتقد الحد الأدنى من أساسيات الحياة، وليس من الحكمة أن نتوقع من هؤلاء الالتزام بأى معايير أخلاقية.

باختصار جرت خلال العقود الماضية عملية «تجريف» شريرة للشخصية المصرية، وقد انتزع منها أجمل وأنبل ما فيها حتى أوشكت على التصحر، وبقيت الطبقة الصخرية، حتى بات المصريون يتشاجرون لأتفه الأسباب، تحكمهم ذهنية المزاحمة، وتسود بينهم روح التشنج، ومع ذلك لا نكف الحديث عن التسامح، بينما نحن أكثر شعوب المنطقة تعصباً، ونرفع شعارات ونقر مواد دستورية عن المواطنة، بينما صرنا أبعد ما نكون عنها، والمثير للدهشة هنا أننا حين كنا نمارسها فعلاً، لم نكن نتحدث عنها، فماذا حدث؟

ما حدث فى ظنى أن الاحتيال لم يعد حكراً على الخارجين عن القانون فحسب، بل أصبح «لعبة شعبية» و«أسلوب حياة»، فهناك أعداد لا حصر لها من رجال الأعمال والتجار المحتالين، لكنهم يتوارون خجلاً أمام السياسيين ومن يدور فى فلكهم، وعليك الانتباه جيداً وشحذ طاقاتك فى مواجهة «بتوع الحوارات».
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق