العلاقات العراقية - الإيرانية لم تكن سلسة وفي مستوى واحد من الود والعداء عبر التاريخ، بل كانت تتخللها فترات من الحروب والتوتر والتشنج والريبة والبرود. وقد بلغت العداوة بين البلدين ذروتها في عهد النظام الفاشي الصدامي الذي شن حرباً عبثية على إيران دامت ثمان سنوات أتت على الحرث والنسل، واستهلكت طاقات الشعبين وكلفتهما خسائر باهظة في الأرواح والممتلكات لا يمكن التعويض عنها لعشرات السنين.
وغني عن القول أن حزب البعث هو حزب شرير بأيديولوجيته العنصرية والطائفية، معروف بقدراته الفائقة على التدمير، وتوظيف التراث والتاريخ في التضليل والتلاعب بالرأي العام لأغراضه الدنيئة، إذ راح إبان الحرب المشؤومة يحفر في عمق التاريخ للبحث عن مفردات تخدم أغراضه لخدع الشارع العربي وإثارة مشاعر العداء وتعميقه بين الشعبين الجارين، فسمى حربه العبثية بحرب القادسية الثانية، والشعب الإيراني بالفرس المجوس... الخ. والبعث هذا لم يتوانَ لحظة واحدة في الطعن حتى بالشعب العراقي نفسه إذا ما تطلبت مصلحته في العزف على الوتر العنصري والطائفي، إذ نعرف ما حصل للكرد من حروب الإبادة، والشيعة العرب الذين يشكلون نحو 60% من الشعب العراقي وصفهم بأنهم ليسوا عرباً، بل جلبهم محمد القاسم مع الجواميس من الهند. نعم هكذا كتب صدام حسين في سلسلة مقالات نشرت في صحيفة (الثورة) بعد إجهاض انتفاضة آذار 1991 بعنوان (لماذا حصل ما حصل) طاعناً بعراقية وعروبة شيعة العراق وبدوافع طائفية بغيضة.
لقد انتهى حزب البعث وقبر نظامه ورئيسه صدام حسين الشرير إلى غير رجعة، ولكن آثار جرائمه وألاعيبه وتركته الثقيلة لا يمكن أن تختفي بين عشية وضحاها. إضافة إلى ما ترك من جيش جرار من الصحفيين والكتبة المرتزقة في طول البلاد العربية وعرضها، يعملون بشتى الوسائل الخبيثة والأساليب الشيطانية لإدامة تراث البعث التدميري، همهم تضليل الناس والطعن بالعراق الجديد وإفشال العملية السياسية والمبالغة في السلبيات، وإشغال الحكومة العراقية بالمشاكل وإثارة الصراعات الطائفية والاقتتال بين أبناء الشعب الواحد، بل والتغلغل في مؤسسات الدولة الجديدة ومحاولة تفجيرها من الداخل، وما ظاهرة النائب محمد الداييني، الهارب من وجه العدالة، ولمتهم بالقتل الطائفي في محافظة ديالى إلا غيض من فيض.
لقد أثير لغط واسع، بل وحتى استنكار من بعض الجهات العراقية، لزيارة الرئيس الإيراني السابق، ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام ورئيس مجلس الخبراء الإيراني الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني إلى بغداد الاثنين، 2 آذار الجاري، في زيارة رسمية وبدعوة خاصة من الرئيس العراقي السيد جلال طالباني. وسبب هذه الضجة ضد زيارة رفسنجاني بعضه مشروع من قبل الحريصين على مصلحة العراق، ولكن أغلبه غير مشروع وخاصة تلك المخاوف الكاذبة التي يثيرها بقايا النظام السابق وتحت مختلف الواجهات والذين ينشرون سمومهم تحت أسماء مستعارة.
والمفارقة، أنه في الوقت الذي يتباكى الإعلام العربي وخاصة مرتزقة البعث، يتباكون على عروبة سكان عربستان في إيران وهم شيعة، ولكنهم في نفس الوقت يطعنون بعروبة وعراقية شيعة العراق، بل وقام صدام بمحاولة تغيير ديموغرافية العراق بحروب الإبادة الجماعية ضدهم وتهجير أكثر من مليون منهم إلى إيران بتهمة التبعية، وإرغام نحو أربعة ملايين آخرين على الهجرة الجماعية إلى مختلف الشتات. وهذا هو النفاق العربي بامتياز.
هل تغيّر موقفنا من إيران؟
كلا، إذ هناك فرق بين نقد ونقد. فعندما ننتقد النظام الإسلامي في إيران، وخاصة في عهد رئيسه الحالي محمود أحمدي نجاد، فلأسباب معروفة أهمها تدخله الفظ في الشأن العراقي ومحاولة إفشال العملية السياسية في العراق بحجة العداء لأمريكا. ولكن موقفنا هذا من النظام الإيراني يختلف تماماً عن موقف الإعلام العربي والبعثيين وحلفائهم الذين ينطلقون في هجومهم على إيران من منطلق عدائهم للشعب الإيراني وليس لحكومته المتشددة التي يتعاونون معها سراً في تخريب العراق، فهجوم هؤلاء على إيران بدوافع عنصرية وطائفية بغيضة لتكريس العداء بين الشعبين، فهم بعملهم هذا لا يريدون الخير للعراق والحرص على مصلحته كما يدعون، بل لخلق المزيد من المشاكل له.
وأوضح مثال على هذا النفاق وازدواجية المعايير، هو بيان الاستنكار الذي أصدره الحزب الإسلامي ضد زيارة الشيخ رفسنجاني، رغم أن زعيم الحزب يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية ويعلم بالدعوة مسبقاً ورحب بها كما قال السيد طالباني. نقول بمنتهى الثقة، أن القصد من هذا البيان ليس مصلحة العراق كما أدعى كاتبوه، بل هو بدوافع عنصرية وطائفية صريحة وفيه نفَس بعثي واضح، مما أثار استغراب واستنكار الرئيس طالباني لصدور مثل هذا البيان الخارج عن أصول اللياقة وكرم الضيافة الذي يتبجح به العربان، علماً بأن قادة الحزب الإسلامي كانوا قد شاركوا في مراسيم الاستقبال، والاجتماع الرسمي بين الوفدين و رحب خلاله بزيارة رفسنجاني. فهل هناك أكثر نفاقاً من ذلك؟
نحو علاقة سليمة مع إيران
نعتقد أن هناك أسباب كثيرة تدعونا لمعالجة موضوع العلاقة مع إيران بمنتهى الحذر والعقلانية، بعيداً عن تصرفات المتشددين من الجانبين، وأن لا نقع في فخ البعثيين الذين يجيدون لعبة خلط الأوراق ويعرفون فن تسويق (أقوال حق يراد بها باطل).
ومما يجدر ذكره، أن هناك البعض من المخلصين للعراق، عبروا لي عن تطيرهم من الزيارات المتبادلة بين المسؤولين العراقيين والإيرانيين. وعلى سبيل المثال قال لي صديق في رسالة له يسألني عن رأيي قائلاً: "لدي محاذير كثيرة من التقارب العنيف مع نظام الملالي في إيران وان زيارة رفسنجاني بادرة شؤم."
وكان جوابي للصديق العزيز أن المحاذير مشروعة، ولكني لا أرى أي ضرر من زيارة رفسنجاني إلى بغداد، بل اعتبرها مسألة إيجابية تصب في صالح البلدين إذا ما أحسن المسؤولون من الجانبين استثمارها بعقلانية، وضد المتشددين فيهما من الذين يريدون تكريس العداء بين الشعبين. فرغم ما عرف عن رفسنجاني بالدهاء السياسي، إلا إنه معتدل مقارنة بالمتشدد محمود أحمدي نجاد وأتباعه. فرفسنجاني وخاتمي، ومهما كانت شكوكنا في موقفهما من الإصلاح السياسي في إيران، إلا إنهما بالتأكيد يعملان على العيش بسلام والتخلي عن مبدأ (تصدير الثورة الإسلامية الخمينية). لذا لا أرى في مجيء رفسنجاني أي خطر على القضية العراقية، بل مفيد لها، وربما يريد طمأنة العراقيين.
حقائق لا بد من ذكرها
أولاً، إن إيران هي ليست محمود أحمدي نجاد وعلي خامنئي وغيرهما من المتشددين الذين يريدون تطبيق حكم ولاية الفقيه وتصدير الثورة الإسلامية، وزعزعة الأمن والاستقرار في دول المنطقة، بل هناك جناح معتدل يصارع على السلطة في داخل المؤسسة الدينية في إيران وعلى الضد من المتشددين من أتباع أحمدي نجاد. والشيخ رفسنجاني من الجناح المعتدل، لذا أرى من الحكمة دعم المعتدلين على حساب المتشددين.
ثانياً، ذكرنا مراراً البديهية القائلة أن السياسة وراء المصالح، والحكومات تتغير، والأفراد زائلون، والشعوب باقية. فالشعب الإيراني مثل الشعب العراقي، يمتلك حضارة عريقة ضاربة في عمق التاريخ. لذا يجب أن لا نساير النافخين في بوق الإعلام البعثي العنصري في إثارة العداء وتكريسه بين الشعبين الجارين اللذين تربطهما وشائج تاريخية لآلاف السنين، وجغرافية تمتد حدودها أكثر من 1450 كيلومتر، إذ ليس بإمكان أحد تغيير هذا الواقع. لذا من الحكمة تجيير هذا الواقع التاريخي والجغرافي لصالح الشعبين، والعمل على التعايش السلمي بينهما، وحل المشاكل المتوارثة والمتراكمة عبر التاريخ بالطرق الحضارية السلمية، فعهد الحروب بين البلدين قد ولى مع حكم البعث الساقط وإلى الأبد.
ثالثاً، يمكن العمل على حل الكثير من المشاكل العالقة وسوء الفهم إذا ما حاولت الحكومتان حلها بينهما بالتي هي أحسن، فيمكن للشعب العراقي أن يستفيد من السياحة الدينية التي يمكن تطويرها، حيث يقوم الملايين من الإيرانيين بزيارة العتبات المقدسة التي يمكن أن تدر على الشعب العراقي مليارات الدولارات سنوياً.
رابعاً، ليس هناك أي ضرر من تكرار اللقاءات والمباحثات وتبادل الزيارات بين قادة البلدين، ففي مواصلة المباحثات إعادة الثقة وإزالة الشكوك وفهم الآخر ونواياه بصورة أفضل، وبالتالي تحسين العلاقة بين الدولتين. والخطر كل الخطر عندما يتوقف الجانبان عن تبادل الآراء ومواصلة الحوار بينهما لتحل محلها الشكوك والشائعات. فالعراق الديمقراطي ليس بحاجة إلى خلق أعداء، إذ يكفيه ما يعاني من الإرهاب البعثي- القاعدي. ودعم إيران لبعض المليشيات ناتج عن خوفها من أمريكا وهو صادر من جناح متشدد في إيران وليس من المعتدلين. ولكن بعد مبادرة أوباما للحوار المباشر مع إيران وفتح صفحة جديدة معها، فهناك جناح المعتدلين ومنهم رفسنجاني، الذين يرحبون بهذا الفرصة، ولا بد أنهم يعتقدون أن بإمكان الحكومة العراقية لعب دور إيجابي بهذا الخصوص.
وعلى ضوء ما تقدم، أعتقد يجب أن لا نتطير من الزيارات المتبادلة بين قادة البلدين، بل يجب أن نشجع المسؤولين في البلدين على المزيد منها، وأن لا نقع في الفخ البعثي في تهويل الأمور.
|
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|