CET 08:34:55 - 24/05/2010

مساحة رأي

بقلم: نبيل شرف الدين
تحدثنا الأسبوع الماضى عن الازدواجية التى تصل لحد تناقض المفاهيم بين النخبة والشارع فى بلادنا، وضربنا مثلاً لذلك على تعبير «الحوارات»، وفى سياق رصد المتناقضات نضرب مثالاً آخر هو «الاشتغالة»، ولا شك أن الشغل أو العمل أهم المعايير الحاسمة لتحديد أقدار الأشخاص، وحتى الأمم والشعوب، لكن هذه الكلمة لها دلالة سيئة فى أوساط العوام، إذ تعنى «الاشتغالة» محاولة نصب أو احتيال.

وأخشى أن يكون العمل لدينا ارتبط بمفهوم «الاشتغالة» أو «السبوبة» بالمعنى الشعبوى، فقبل أن يتحدث الشاب الذى يبدأ حياته بالسؤال عن طبيعة عمله والمطلوب منه تحديداً، وما إذا كان مؤهلاً للقيام به، يضع العربة أمام الحصان ويسأل عن الراتب والضمانات، لأنه ببساطة لا يثق بأى جهة يعمل بها ولا يثق بنفسه أيضاً، ولا أتصور أن يعمل إنسان جاد متحضر بمهنة لا يثق بها، ولا بقدرته على أدائها، لأنه حينها سيتخبط ويتنقل بين المهن وجهات العمل دون أن يستقر به المقام حتى تضيع أجمل سنوات عمره، ويدخل حالة عدمية يلعن معها الزمان والأوطان والناس والحكومة وكل شىء، مع أنه لم يتوقف مع نفسه لحظة ليرى إن كان قد استثمر فى قدراته وطور مؤهلاته بجدية، وليس من خلال شهادات يمكن شراؤها.

ظلت نظرتنا كمصريين لإخواننا العرب فى السعودية والخليج نظرة دونية باعتبارهم مجرد «أجولة نقود»، ورسخت فى أذهاننا صورة نمطية لذلك العربى «السفيه» الذى يبعثر أمواله على الساقطات وموائد القمار، ولا يمتلك القدرة حتى على حماية الثروة التى منحها الله له باكتشاف النفط.

لكن بعد مرور نحو نصف قرن على «الطفرة النفطية» يبدو أننا- كمصريين- صرنا مطالبين بالتوقف مع أنفسنا لنكتشف أن هذه الصورة السلبية للعربى تغيرت جذرياً، والسبب ببساطة أن الأشقاء تجاوزوا «صدمة الثروة» واستثمروا فى البورصات والعقارات، لكن الأهم من ذلك استثمارهم فى أبنائهم، فاستقدموا لهم خير معلمى مصر والشام وغيرهم، كما ابتعثوا آخرين للدراسة فى الغرب، وعاد هؤلاء ليقودوا دفة الأمور فى بلادهم، بعد أن خسرنا نحن المصريين ثروتنا الحقيقية متمثلة فى الإنسان، وأحسبك ستوافقنى الرأى فى أن البحث عن «صنايعى» جيد،

ناهيك عن الطبيب والمعلم والصحفى وكل المهن، أصبح مهمة شاقة، فالطبقة الأفضل اختطفها الغرب مثل مجدى يعقوب وفاروق الباز وزويل وغيرهم، والطبقة التالية وجدت فرصتها فى الدول العربية الغنيّة، بينما بقيت لنا الطبقة الفاشلة التى لم يطلبها الغرب ولا الشرق، وأفسدها المناخ السائد، لتنتج لنا جيلاً يليق بمرحلة الانحطاط الحضارى التى تعيشها مصر.

«عبده اشتغالات» صار رمزاً للمرحلة، فهو فى البداية يتملق رئيسه لدرجة الانسحاق المخزى، وفى أول محكّ عملى يكشف حقيقة قدراته المتواضعة لن يدع تهمة إلا ويلصقها به، وهو ذاته الذى سيبدد وقته وطاقته كى يتهرب من واجبات العمل، ناهيك عن آلة الفساد الضخمة التى حاصرت الجهاز الإدارى للدولة وتضربه بالهشاشة لدرجة تجعل محاولة إصلاحها ضرباً من العبث، خاصة فى ظل شيوع ثقافة التبرير والبحث عن أعذار، بدلاً من شجاعة الاعتراف بالخطأ والتعلم من الخبرات الفاشلة وتجاوز المرارات.

باختصار علينا أ نكف عن الالتفاف على الأسباب الحقيقية لهذا الفشل المزرى الذى يحاصرنا فى كل مناحى الحياة، فتارة نتهم إسرائيل والشياطين، وأخرى نستخف بقيمة العقل لنختزل سبب فشلنا فى شتى أنشطة الحياة فيما يسميه بعض المهووسين «البعد عن الدين»، مع أن هناك أمماً لا تعتنق أى دين، ومع ذلك حققت نجاحات هائلة، فمشكلتنا الحقيقية ليست مع الأرض ولا السماء، بل تكمن فينا.

بصدق أقولها، إننا لم نكن بحاجة للوقفة مع الذات كما نحن الآن، علينا أن نسعى للاعتراف بحالة الانحطاط التى انزلقنا إليها، وعلينا إعادة تأهيل أبنائنا والارتقاء بقدراتهم وتغيير نمط التفكير التبريرى، وهو ما لن يحدث إلا بالتصدى لممارسات «الفهلوة والمكلمة والاشتغالات» بصرامة، وأحسب أن السلطة بكل مستوياتها هى المسؤول الأول عن تفعيل كل هذا، فالله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، والناس على دين ملوكهم.
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق