تسبب الحكم الذى أصدرته المحكمة الإدارية العليا بشأن إلزام الكنيسة بالزواج الثانى للأقباط الحاصلين على أحكام بالطلاق فى كثير من النقاشات الساخنة، بعضها حركه الإحساس بالتهديد، والرغبة فى الدفاع عن النفس. وكعادة النقاش فى الشأن الدينى فى السنوات الماضية فإن سخونة النقاش ترتفع، ويأخذ كل طرف على عاتقه «الحرب المقدسة»، من فيلم سينمائى، إلى رواية، ثم إلى حكم محكمة. السجالات كما هى وعنوانها الأساسى «لن نفرط فى العقيدة»، ولكن هل هذه هى القضية الوحيدة؟ لا أظن.
القضية الأساسية التى تفجر بشأنها الجدل هى حكم المحكمة بتزويج قبطى حصل على حكم سابق بالطلاق. ومبعث الجدل فى أحكام الزواج والطلاق عند الأقباط هو عدم وجود قانون. هناك مشروع قانون موحد للأحوال الشخصية اتفقت عليه الطوائف المسيحية ــ على الأقل علنا ــ وجرى تقديمه عدة مرات، وأدخلت عليه تعديلات شتى. من شأن هذا القانون أن يجعل ما تصدره المحاكم من أحكام يتفق مع ما تمارسه الكنيسة من قواعد بشأن الزواج والطلاق. لم ير مشروع القانون النور لأسباب لا نعرفها.
وهو ما يؤدى فى النهاية إلى أن تصدر المحاكم أحكاما ترى الكنيسة أنها غير ملزمة لها لأنها لا تتفق مع إيمانها ومعتقداتها. المشكلة ــ إذا ــ فى غياب القانون. هذا هو الظاهر، ولكن تقليب الموضوع على أوجهه المتعددة يكشف عن قضايا أخرى مطمورة، قد تكون أهم مما هو طاف على السطح. أتصور أن الحديث الجاد يجب أن ينصرف إلى مسألة أخرى هى طبيعة الدولة التى أصدرت الحكم، وطبيعة الدولة التى يريد الأقباط العيش فيها، إذا اتفقنا على ذلك سيكون من اليسير أن نتفق على القانون.
يصعب أن نصنف الدولة المصرية تصنيفا واحدا يكشف عن طبيعتها، فلا نعرف هل هى دولة مدنية، أو علمانية إن شئت أن تقول، أم هى دولة دينية تحكمها النصوص الدينية، وترتكن الحكومة والمعارضة فيها على الشرعية الدينية، وتزداد كثافة الخطابات الدينية فى كل مناحى الحياة. لا أحد يملك الإجابة عن هذا السؤال. وأغلب الظن أن التصنيف هو «الدولة المهجنة»، وهو تعبير شاع فى الأدبيات السياسية الحديثة لوصف الدول التى تحوى بعضا من سمات الديمقراطية، وفى الوقت نفسه تنطوى على بعض من سمات الاستبداد.
الوضع كذلك فى المجتمع المصرى. فهى دولة مهجنة سياسيا، بمعنى أنه لم يكتمل بناؤها الديمقراطى، ومهجنة اقتصاديا بمعنى أنها تخطو خطوات متسارعة على طريق اقتصاديات السوق دون أن تتخلى بشكل مطلق ونهائى عن بعض السياسات الاشتراكية، وأخيرا هى مهجنة دينيا بمعنى أنها تجعل هناك مرجعية دينية للدولة، وشرعية دينية للحكم، وفى الوقت نفسه تواجه الإسلام السياسى بالحديث عن مدنية، وعلمانية الدولة، وتشجيع التيارات التى تعزز هذا الاعتقاد.
هذه الدولة المهجنة التى ترفض فى أحكامها القضائية بعض الحريات الدينية مثل تغيير المعتقد الدينى بالنسبة للمسلمين أو ما يعرف بالعائدين إلى المسيحية، بالاستناد إلى مخالفتها للشرع، هى التى تدعو الكنيسة إلى تزويج الأقباط الحاصلين على حكم طلاق من المحكمة حتى وإن خالف الشرع المسيحى إن صح التعبير. نشتم من الموقف الأول تأكيد المرجعية الدينية، ونتنسم من الحكم الثانى تشبثا بمدنية الدولة. فى أى دولة إذا نعيش؟
هناك مستفيدون، بقصد أو بدون قصد، من الطبيعة المهجنة للدولة، من بينهم الأقباط. فمن ناحية أولى نجد أن الخطاب الذى يصدره المثقفون والنشطاء الأقباط على مدار عقود هو المواطنة والمساواة، وهما من أركان الدولة المدنية الحديثة. وفى سبيل ذلك أيد قطاع عريض منهم التعديلات الدستورية التى جرت فى عام 2007، والتى نصت على مبدأ المواطنة، وغضوا الطرف عن كثير مما ورد بشأن بعض التعديلات الأخرى من انتقادات، ويقفون إلى جوار الحزب الوطنى خوفا من الإخوان المسلمين.
وخلال الفترة الماضية اصطف النشطاء الأقباط فى مواجهة التطرف، والإرهاب، والدعاوى التى تسعى إلى الخلط بين الدين والسياسة، باعتبار أن ذلك يجعل الهوية الدينية مرجعية أساسية فى الحياة العامة، مما يؤدى فى نهاية المطاف إلى حرمانهم من حقوق المواطنة إن لم يكن نصا، فعلى الأقل عمليا. ولكن تأييد الأقباط لمدنية الدولة، لا يعنى أنهم أيضا لا يستفيدون من حالة الاضطراب فى حسم طبيعة الدولة نفسها، فعندما تحاول الدولة أن تظهر بالرداء المدنى، أى تسعى إلى تحقيق المساواة بين الأفراد فى قضايا الحقوق والحريات، الأحوال الشخصية والمعاملات، نجد من بين الأقباط من يذكر بالشريعة الإسلامية التى تعطى لغير المسلمين الحق فى الاحتكام إلى شرائعهم فى مسائل الزواج والطلاق وخلافه.
غياب الحسم فى طبيعة الدولة ذاتها، يخلق حالة من التشوش. خذ مثالا على ذلك التيار الإسلامى. فى الوقت الذى ينطلق الإسلاميون من دعوة محورية هى «الحكم بما أنزل الله»، أى الاحتكام إلى الشريعة الإسلامية، نجدهم ينتقدون الكنيسة، ويتهمونها بالاستقواء فى مواجهة الدولة إذا رفضت تنفيذ حكم قضائى يتعلق بقضايا الأحوال الشخصية فى حين أنها تنصاع إلى أحكام القضاء فى القضايا الأخرى. فلماذا ينظر الإسلاميون إلى ذلك على أنه استقواء فى مواجهة دولة يرفضونها ــ ولو نظريا ــ دون أن يحتكموا إلى شريعة الدولة التى يحلمون بها، ولو نظريا أيضا؟
فى حوار سابق مع الدكتور رفيق حبيب، أحد أبرز المثقفين الأقباط تعاطفا وتأييدا للتيار الإسلامى، ذكر أن حقوق الأقباط تصان فى ظل الشريعة الإسلامية، مدللا على ذلك بالأحوال الشخصية التى تكفل الشريعة حرية الآخرين فى الاحتكام إلى شرائعهم فى هذه المسألة.
الظاهر أن الإسلاميين، ولديهم الكثير من المواقف الملتبسة مع الكنيسة، بدءا من حادثة وفاء قسطنطين تحديدا، وما تلاها من أحداث يؤجلون بعض الشىء التساؤلات والإجابات الفقهية، ويفضلون المواجهة السياسية، وطرح المسألة على أرضية سياسية بحتة تتعلق بالاستقواء فى مواجهة الدولة، أكثر ما تتعلق بحقوق وحريات المختلفين فى العقيدة فى حكم الشريعة الإسلامية.
والأقباط تائهون. مرة يرون أنفسهم فى صف الدولة المدنية، ومرة أخرى يستعينون ببعض أطروحات الدولة الدينية للحفاظ على كيانهم وحضورهم. هنا بات على الأقباط الاختيار بين أمرين لا ثالث لهما: إما الدولة المدنية، بما تحوى من أنظمة وقوانين، وممارسات وأعراف، أو الدولة الدينية بما تكلفه لهم من حقوق منقوصة، وتفرض عليهم أعباء تترتب على المغايرة فى الدين أو المعتقد. الوقوف فى المنتصف، أو محاولة الإفادة من الأمرين لا معنى له، ولكن هل مناط الأمر بأيديهم؟
نقلا عن الشروق |