CET 00:00:00 - 07/06/2010

مساحة رأي

بقلم: لطيف شاكر
تكلمنا في الحلقة السابقة عن المعوقات التي واجهت مارتن لوثر كينج اثناء نضاله اللاعنفي في سبيل وصول السود الي الحرية وعدم التمييز والمساواة في الحقوق مع البيض  ومن هذه المعوقات الاتي:
أ – التفريق العنصري
ب– حرمان السود من حقهم في الانتخاب
ج – مواجهة مارتن لوثر كينغ للظلم العنصري
د– مأساة عايشها (قصة اعتداء اسود علي سيدة بيضاء والحكم عليه بالاعدام وبراءة المغتصبون البيض للسيدات السود)
و- إيمانه بفاعلية الجمع بين التربية والتشريع
هـ– انتماؤه إلى مؤسّسة تجمع بيضاً وسوداً
ز– عوائق داخلية كانت تواجهها جماعة السود

وفي هذه الحلقة نستكمل باقي المعوقات والتي تعتبر بمثابة صورة من التاريخ المعاش اليوم في وطننا او بعضا منها حسب  بيئة ومناخ وسياسة  واتجاهات كل بلد :

ح– تسليم السود بالأوضاع الراهنة
ومن العقبات التي صادفها كينغ في الجماعة السوداء، رضوخ أكثريتها للأوضاع الراهنة. وقد روى له القس الذي سبقه في رعاية رعية شارع دكستر، وهو فرنون جونس، حادثة تشير إلى مدى هذا الخنوع. فقد صعد القسّ المذكور ذات يوم إلى أحد الباصات وجلس في أحد المقاعد الأمامية، المخصَّصة للبيض. فطلب منه السائق أن ينتقل إلى المؤخّرة، ولما رفض أمره بالنزول. فلم يستجب القس لهذا الأمر إلا بعد أن أعاد له السائق أجرة مقعده. وقبل أن ينزل، توجّه القس جونس نحو أخوته السود الذين شهدوا الحادث، سائلاً أن ينزل بعضهم معه للتعبير عن احتجاجهم. ولكن أحداً منهم لم يُجب. وعندما صادف القسّ بعد ذلك بقليل إحدى الراكبات من السود ولامها على عدم انضمامها إليه، أجابت أن الركاب السود الآخرين صرحوا بأنه، أي القسّ، "نال ما استحقه".
ويحاول كينغ أن يُفسّر تلك السلبية الغريبة، فيجد لها سبباً في خوف السود من فقدان عملهم إذا هم احتجّوا على الجور العنصري. ولكن السبب العميق في نظره هو مركّب النقص الذي أوجده في نفوس السود نظام التمييز العنصري، حتى انهم فقدوا احترام أنفسهم وأصبحوا يشكّون بكرامتهم وحقوقهم. "تلك، يقول كينغ، هي مأساة التمييز العنصري. فإنه لا يُهدّم الأجساد وحسب، بل يُتلف الفكر والروح أيضاً ويحطّم الشخصية، إنه يكبّد ضحاياه شعوراً لا مبرّر له بأنهم أدنى من سواهم ويحمل الذين يمارسونه على الاعتقاد، دونما مبرّر، بأنهم أرقى" .

ط– هذا الخمول قاومه البعض، إنما بنجاح نسبيّ
هذا الخمول العام، حاول أن ينفضه بعض الرجال السود، فبذلوا جهوداً موفقة لتوعية إخوانهم. يذكر الكاتب منهم القس فرنون جونس وكان واعظاً لامعاً يتصدّى لكل ظلم ويندّد بشدة، كلّ يوم أحد، بالجبن والمساومات التي كانت تبدر عن رعيته. وكثيرًا ما كان يوبّخ أبناء الرعية لكونهم كانوا يتبجّحون بألقابهم الجامعية في حين كان ينقصهم ما يُفرض في هذه الألقاب أن تمنحه لأصحابها. ألا وهو احترام الذات والشعور بالكرامة. مناضل آخر كان يُدعى أ.د. نيكسون. هذا كان حمّالاً في شركة بولمان ورئيساً للفرع المحلي للـ NAACP، وقد ساهم كثيراً في إنقاذ إخوته من خمولهم.
بفضل رجال من هذه النوعية، أخذت روح التمرّد على الظلم تنتشر شيئاً فشيئاً بين السود في مونتغومري، إلا أنها لم تكن قد أدّت بعد، في عام 1954، إلى نتائج ملموسة. بل كان الكلّ، سود وبيض، لا يزالون يقبلون بالتمييز العنصري على أنه أمر مفروغ منه وغير قابل للاعتراض. لذا أمكن القول بأن مونتغومري كانت في ذلك الحين مدينة هادئة. ولكنها كانت تدفع ثمن هذا الهدوء، استعباداً لقسم من سكانها. هنا يستطرد الكاتب ليروي كيف أن أحد البيض المتنفذين لامه لاحقاً لتعكيره هذا الهدوء، قائلاً له: "لمدة سنين طويلة، كانت علاقاتنا العنصرية هادئة منسجمة، لماذا أتيت لتغيّر مع أصدقائك ذلك الوضع التقليدي؟".

ي– السلام الحقيقي والسلام الزائف
ويجدر بنا هنا أن نتوقف عند جواب كينج لأنه يوضح المفهوم المسيحي للسلام. فقد قال لمعارضه:
"يا سيّدي، إنكم لم تعرفوا أبداً سلاماً حقيقياً في مونتغومري، لقد تمتعتم بنوع من "السلام السلبيّ" الذي كان مبنياً على قبول الأسود، في أغلب الأحوال، بوضعه المتدنّي. ولكن هذا ليس بالسلام الحقيقي. فالسلام ليس مجرّد غياب التوتّر، إنما هو حلول العدل. إن التوتر الذي نلاحظه اليوم في هذه المدينة إنما هو ذلك التوتر الضَروري الذي يبرز يوم يثور المظلومون ويندفعون لانتزاع سلام إيجابيّ ودائم!"
وأضاف كينج بأن هذا هو معنى كلمات يسوع: "لم آتٍ لأجلب سلاماً بل سيفاً". قال بأن "يسوع لم يقصد بالتأكيد سيفاً مادياً. إنما يبدو أنه أراد أن يعبّر عن الفكرة التالية: "لم آتِ لأجلب السلام بمعناه التقليديّ، السلام السلبيّ الذي قوامه سلبيّة مميتة. بالعكس، جئت أثور على هذا النوع من السلام. فحيثما أنا موجود، ينشب صراع بين الأشياء القديمة والأشياء الجديدة. حيثما أنا موجود، ينقسم العدل والظلم. لقد أتيت لأجلب سلاماً إيجابياً، قوامه حلول العدل والمحبة وما هو أفضل من ذلك حلول ملكوت الله."

ويعلّق الكاتب قائلاً: "السلام الذي كان يسود في مونتغومري بين العنصرَين لم يكن له أي طابع ديني. لقد كان سلاماً وثنياً ذات ثمن باهظ". 
+ التفريق العنصري في الباصات
كان في مونتغومري ميدان أصبح فيه هذا السلام الزائف مهدّداً منذ أمد طويل لأن الأسودَ كان يتذكّر فيه كلّ يوم فظاعة التفريق العنصري، ألا وهو ميدان الباصات التي كانت توفّر النقل في المدينة.
لم يكن لتلك الباصات سائقون سود. أما السائقون البيض فكثيرون منهم كانوا يتصرفون بشكل غير لائق مع ركابهم السود. فلم يكونوا يتورّعون من الإشارة إليهم بعبارات تحقيرية كـ "الأبقار السوداء" أو "القرود السود". وكثيراً ما كان يتوجّب على السود أن يدفعوا الأجرة في الباب الأمامي ثم أن ينـزلوا ليصعدوا من جديد من الباب الخلفيّ، وكثيراً ما كان الباص ينطلق في فترة انتقالهم من باب إلى باب قبل أن يتسنى للأسود أن يصعد إليه، مع انه قد دفع أجرة مقعده.
وكانت الصفوف الأمامية الأربعة مخصصة للبيض ومسجّل عليها عبارة "للبيض فقط". فإذا شَغَرَت اضطر السود أن يلبثوا واقفين إلى جانبها دون أن يُسمَح لهم بالجلوس عليها، حتى ولو كانت السيّارة تغصّ بالسود ولا تحوي واحداً من الركّاب البيض. هذا كان المبدأ، أما في التطبيق فكانوا يذهبون إلى أبعد من ذلك. فإذا حصل أن شَغَلَ الركّاب البيض المقاعد العشرة المخصَّصة لهم، وبعد ذلك صعد بيض آخرون في المحطات اللاحقة، كان يُطلب من السود الجالسين في المقاعد المسموح بها لهم أن يتخلّوا عنها لصالح البيض، بدءًا من تلك التي تلي مباشرة المقاعد المحجوزة أصلاً لهؤلاء. فإذا رفضوا أن يتركوها وينتقلوا إلى الخلف، كانوا يُعتقلون. ولكنهم، في أغلب الأحوال، كانوا يرضخون بصمت. إلا أن بعضهم كان يتمرّد من حين إلى حين، كما حصل لفرنون جونس وسبق ذكره.

+بوادر التمرّد: كلوديت كولفين (  اصرار الحصول علي الحق )
بعد وصول كينج ببضعة أشهر إلى مونتغومري، رفضت طالبة ثانوية، في الخامسة عشرة من عمرها، تدعى كلوديت كولفين، أن تترك مقعدها لأحد البيض، فأخرجتها الشرطة بالقوة من الباص وساقتها، موثوقة اليدين، إلى السجن حيث اعتُقِلَت. حيال هذا العمل المشين، حدثت ردّة فعل من السود وبدأت تبرز لديهم فكرة مقاطعة الباصات. تشكّل وفد منهم قابل مدير شركة النقل ورئيس الشرطة، للتفاوض معهما. فأبدى الرجلان أسفهما لما حدث ووعد مدير الشركة بتوجيه لوم للسائق، كما أن رئيس الشرطة وعد بإعادة النظر في قضية توزيع المقاعد. ولكن هذا الكلام كلّه ذهب أدراج الرياح: فلم يعدَّل شيء في النظام المرعي الإجراء، واستمرّت الإهانات اللاحقة بالسود كما قبل، لا بل أُدينت كلوديت كولفين وحُكم عليها بعقوبة مع وقف التنفيذ.
إلا أن شيئاً هاماً كان قد حصل، وهو أن الغضب الذي طالما كبته السود بدأ يظهر. وأخذ الخوف والخمول اللذان طالما بسطا ظلّهما على الجماعة السوداء يتقلّصان ليتركا المجال لذهنية جديدة قوامها الشجاعة والكرامة. كانت قضية كلوديت كولفين بمثابة إنذار للسلطات، وإذ لم تأخذه هذه على محمل الجدّ اضطرَّت في ما بعد أن تجابه مقاومة أشدّ بكثير، مقاومة شعب بأكمله إنبرى للدفاع عن كرامته السليبة.

 + التحدي الحاسم: قصة روزا باركس
 --انطلقـت هــذه المقاومـة ردّاً على حدث طفح به كيل الظلم حتى غدا لا يُطاق. ففي 1 كانون الأول 1955، صعدت خياطة سوداء، وهي السيّدة روزا باركس، إلى أحد الباصات عائدة إلى منزلها بعد يوم كامل من العمل قضته في أحد المحلات الكبرى في المدينة. كانت السيدة باركس مُتعَبَة بعد ساعات طويلة قضتها واقفة. فجلست في أول مقعد حرّ وراء الصفوف المخصصة للبيض. بعد ذلك بفترة وجيزة، أمرها السائق أن تنتقل إلى الوراء مع ثلاثة ركّاب سود آخرين ليخلوا مقاعدهم لركّاب بيض. آنذاك لم يبقى في الباص أي مقعد شاغر، مما يعني أن السيدة باركس كان عليها، لو رضخت للأمر، أن تبقى واقفة بينما يحتّل رجل أبيض مقعدها. نفّذ السود الثلاثة الآخرون الأمر فوراً. أما السيدة باركس فرفضت بهدوء. بناء عليه اعتُقِلَت.
ومع أن السيدة باركس كانت أمينة سرّ الفرع المحلّي للـ NAACP، فلم يكن سلوكها هذا حادثاً مفتعلاً لإشاعة الفتنة، كما ادّعى كثيرون من البيض. كلّ ما في الأمر أنه قد تجسّدت فيها، في تلك اللحظة الحرجة، تلك الحاجة إلى الحرية والكرامة، المكبوتة لدى السود طيلة أجيال من القهر، فأتى موقفها الشجاع تعبيراً عن كون الذلّ المتراكم جيلاً بعد جيل أضحى لا يطاق.

+  صدى اعتقال روزا باركس
انتشر خبر اعتقال السيدة باركس في صفوف بعض السيدات وأكثرهن أعضاء في المجلس السياسي النسائي. فقررّن أن يقاطع السود الباصات واتصلن بنيكسون الآنف الذكر، الذي وافق على الفكرة وقبل بجرأته المعروفة أن يأخذ على عاتقه مسؤولية تنفيذها.
وفي الغد اتصل نيسكون هاتفياً بكينغ، كما اتصل بقس معمداني شاب آخر، وهو رالف أبرناتي (الذي صار خليفة لكينغ بعد استشهاده: ك.ب.) واتفق الثلاثة معاً على دعوة كل القسوس والمسؤولين عن الجمعيات الاجتماعية إلى اجتماع يعقد مساء اليوم نفسه للبحث في مشروع المقاطعة. وتقرر أن يعقد الاجتماع في الكنيسة التي يرئسها كينغ، وبدأ الاتصال بالمدعوّين إليه.
في تلك الأثناء كان خبر اعتقال السيدة باركس قد انتشر في المدينة بسرعة البرق. في المساء وُزعت مناشير استنسخها فريق من المتحمسين، تعلّق على الاعتقال وتوصي بمقاطعة الباصات.

+ الإجماع على مقاطعة الباصات (الاتفاق علي اي نوع من المقاطعة)
وعندما حان موعد الاجتماع، وجد كينغ أن كلّ المدعوين تقريباً قد لبَّوا الدعوة. فقد اجتمع أكثر من أربعين شخصاً يمثلون فئات الجماعة السوداء وكل منظماتها، وكان بينهم أطباء ومدرسون ومحامون ورجال أعمال وقادة نقابيون ورجال دين. وقد سُرّ كينغ لإقبال القسس على هذا الاجتماع بكثرة مع أنهم كانوا عادة قليلي المشاركة في الاجتماعات التي كانت تعقد للدفاع عن الحقوق المدنية للسود.
بعد المناقشة، حصل إجماع على القيام بمقاطعة للباصات تدوم أربعة وعشرين ساعة على الأقل، وذلك يوم الاثنين في 5 كانون الأول، على أن يبحث في احتمال تمديدها في اجتماع لاحق يعقد عشية اليوم ذاته. تحمس القسس للمشروع ووعدوا بأن يحثوا رعاياهم، صباح الأحد، على تبنيه.
وتشكلت لجنة لإعداد منشور يُوزّع يوم السبت، وكان كينغ عضواً فيها، فوضعت النص التالي:"لا تستقلّوا الباص يوم الاثنين في 5 كانون الأول. سواء للذهاب إلى العمل أو إلى المدينة أو إلى المدرسة أو إلى أي مكان آخر. فإن امرأة سوداء مثلكم، قد اعتقلت وسجنت لأنها رفضت أن تتخلى عن مقعدها.
"لا تستخدموا الباصات يوم الاثنين مهما كانت الحجة. فإذا كنتم تعملون، استقلّوا تاكسي، أو تنقلوا بواسطة الأوتوستوب، أو سيروا على الأقدام.
"احضروا الاجتماع الكبير الذي سوف يُعقد عند السابعة مساءً في كنيسة شارع هولت المعمدانية. هناك تُعطى لكم تعليمات جديدة."
 وبدأ حالاً استنساخ المنشور على آلة الرعية.

تقرر أيضاً في الاجتماع أن يطلب من شركات التاكسي السوداء، وكان عددها 18 وتملك حوالي 210 سيارة، أن تنقل الركاب يوم المقاطعة بتعريفة مخفَّضة لتعادل تعريفة الباص. وكلّفت لجنة للاتصال بتلك الشركات.
وفي الغد أنهي استنساخ المنشور بسبعة آلاف نسخة، وأقبل جيش من النساء والشباب لاستلامه وتوزيعه.
في اليوم نفسه قامت لجنة التاكسيات بمهمتها وحصلت على موافقة الشركات على تخفيض أسعارها لتعادل أسعار الباصات يوم المقاطعة مما أثر في الدخل العام لشركات الباصات عقابا لها ونتيجة الاتحاد في الرأي .
ولنا لقاء آخر

دروس مستفادة من مارتن لوثر كنج -1

 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ٣ تعليق