بقلم: منير بشاى
ينوى بعض المسلمين بناء مسجد جديد فى "نيويورك". إلى هنا فالخبر عادى لا يثير أحدًا، فقد تعودنا على رؤية منظر المساجد فى "أمريكا"، المساجد الفخمة والجميلة، التى ينفقون عليها عشرات الملايين من الدولارات، والتى يبدو أنها تهدف أن تكون دعاية للإسلام بالإضافة إلى كونها مكان للعبادة للمسلمين.
هذه أمور عادية فى "أمريكا"، الرمز الأكبر للتسامح الدينى فى العالم، حتى بالنسبة للأديان التى لا تسمح لغيرها من الناس، بما فيهم الأمريكيين أنفسهم، بنفس القدر من التسامح.
فهناك دول مثل "السعودية" لا تسمح بكنيسة أن تُبنى على أرضها. وهناك بلد مثل "مصر" يتطلب بناء الكنيسة إصدار قرار جمهورى ليتم الترخيص بها. وبعد ذلك إستيفاء إجراءات أمنية مكثفة قد تستغرق عقودًا قبل إتمامها.
مرة أخرى الفارق أننا هنا فى "أمريكا"، وهم هناك فى العالم الإسلامى. ومن الطبيعى أن يكون هذا التباين فى التعامل مع موضوع التسامح الدينى بين الإثنين.
ولكن إلى هذا الحد؟
أمريكا دولة كبيرة تضم أكثر من (٥٠ ) ولاية، وقد بُنى عليها حتى الآن أكثر من (۱۲۰۰ ) مسجد. لا أحد يسأل إن كان هناك احتياج لهذه المساجد ولا أحد يقدم الجواب. وإذا أضيف مسجد آخر إلى هذا العدد من المساجد فليس هناك مشكلة.
ولكن أن يقام هذا المسجد فى ذلك المكان بالذات، على بعد أمتار من حطام برجى مركز التجارة العالمى، الذى أسقطه إرهابيون باسم الإسلام فى ۱۱ سبتمر ٢٠٠١، وأن يتحدد لإفتتاح المسجد الذكرى العاشرة للمأساة فى ۱۱ سبتمبر ٢٠١١ فهذه هى المشكلة!!
أى رسالة يمكن أن يقدمها بناء هذا المسجد لكل أمريكى؟
الرسالة واضحة كالشمس، وهى إعادة تذكيرهم أن الإسلام قد هزمهم فى معركة "منهاتن" فى الحادى عشر من سبتمبر ۲۰۰١، واستطاع أن يأتى بمركز التجارة العالمى رمز الإقتصاد الأمريكى إلى الأرض، والآن، سيتم تشييد مبنى إسلامى يتكلف ( ۱۰۰ ) مليون دولار، ويرتفع (١٣) طابقًا، ويشتمل على متحف ومكتبة ومركز إسلامى. ومسجد بمئذنة تناطح السحاب فى الطابق العلوى، ويطل المصلون فيه على "جروند زيرو" المكان الذى جمعوا فيه أكثر من (٢٠ ) ألف قطعة من أشلاء من لقوا حتفهم فى ١١ سبتمبر ۲۰۰١ .
هذه رسالة واضحة لا تخطئ العين رؤيتها، ولا يلتبس على العقل فهمها، ولا يختلف اثنان على أنها رسالة إذلال ومهانة موجهة لـ"أمريكا" البلد المضيافة للمسلمين، والتى أكرمتهم وحمتهم من القمع الواقع عليهم فى بلادهم الأم.
وأى رسالة هذه يقدمها المشروع لأسر ضحايا ١١ سبتمبر، الذين يقرب عددهم من (٣٠٠٠ ) رجل وسيدة وطفل، لم يكن لهم يومًا دورًا معاديًا للإسلام والمسلمين، لم يرفعوا ضدهم سلاحًا ولم يوجهوا لهم مجرد كلمة جافية. ومع ذلك وجدوا أنفسهم فى ذلك اليوم المشئوم فى موعد مع الموت بأبشع طريقة يمكن أن يموت بها إنسان، وذلك إما حرقًا أو خنقًا أو سقوطًا من الطوابق الشاهقة.
لو كان قصد المسلمين تكريم شهداء ذلك اليوم كما يقولون، لإشترى مسلموا "أمريكا" صفحة فى كل جريدة تصدر فى "أمريكا" فى يوم ذكرى العدوان، وكتبوا فيها شيئًا مثل هذا "نحن مسلموا أمريكا ننتهز مناسبة الذكرى العاشرة لإعتداء 11 سبتمبر 2001 لنعلن إدانتنا غير المشروطة لهذا العدوان الآثم. كما ندين الإرهابيين والمنظمات التابعين لها الذين نفذوا هذا العمل الإجرامى. ونرفض استخدام النصوص الإسلامية لتبريرالعنف وقتل الأبرياء. ونعلن تكريمنا لذكرى الضحايا الذين إستشهدوا أو أصيبوا فى ذلك اليوم ونقدم خالص مواساتنا لأسرهم ومحبيهم. وبالنيابة عن كل مسلم فى العالم نقدم إعتذارنا لـ"أمريكا".
ولكن كله كوم والإسم الذى إختاروه للمسجد كوم!!
إسم المسجد الجديد هو مسجد "قرطبة"...وما أدراك ما هو مسجد "قرطبة"!!
لمحة تاريخية عن مسجد "قرطبة" الأصلى تعود بنا إلى بلاد "الأندلس" فى "أسبانيا"، نحو مائة سنة بعد الهجرة. وكانت تلك البلاد قد تم غزوها بواسطة "طارق ابن زياد"، وأصبحت بذلك ولاية إسلامية خاضعة للخلافة الأموية التى كانت عاصمتها دمشق. ولكن بعد سقوط الدولة الأموية وقيام الدولة العباسية، شب صراع للقضاء على الولاة الأمويين؛ لإخضاعهم للخليفة العباسى. ولكن مسلموا "الأندلس" قد بايعوا شابًا أمويًا اسمه "عبد الرحمن الداخل"، والملقب بـ"صقر قريش"، وكان من الحكام الأمويين القلائل الذين نجوا من بطش العباسيين.
حكم "عبد الرحمن الداخل" (٣٤) عامًا، وقام بانجازات كثيرة وكانت أهم إنجازاته بناء مسجد "قرطبة"، الذى بدأ تشييده بعد القرن الأول الهجرى بقليل، واستمرت زيادة سعته من حاكم إلى حاكم حتى اكتمل البناء بعد حوالى قرنين ونصف.
وإلى هذا اليوم يتغنى المسلمون بمسجد "قرطبة"، الذى ما تزال تظهر بقاياه قائمة، والذى كان يومًا آية من آيات الفن المعمارى فى العالم. ويقال أنه أروع ما أنجز المهندس المسلم.
ولكن بعد سقوط "قرطبة" قبل ألف عام مرة أخرى فى يد الأسبان، تحول الجامع إلى "كنيسة". ورفضت السلطات الأسبانية رغبة عدد من الحكام المسلمين إعادة المبنى إلى المسلمين، أوحتى بيعه لهم بأى ثمن. والآن يحرم على أى مسلم حتى مجرد الصلاة داخل المبنى الذى يخضع للحراسة المشددة من الشرطة الأسبانية على مدار اليوم.
يبدو الآن أن الصورة قد بدأت تتضح. هل بناء جامع فى حى "منهاتن" بمدينة "نيويورك" على أنقاض مبنى تابع للكنيسة الكاثوليكية، هى محاولة لتصفية حسابات قديمة مع العالم المسيحى، كرد فعل لخلفية ما حدث للمسلمين فى "الأندلس"؟ وهل بناء هذا المسجد قرب أرض معركة "منهاتن" له دلالته؟ حيث إستطاعت قوات القاعدة هزيمة أكبر قوة عسكرية فى العالم، وتحويل برجى مركز التجارة العالمى إلى ركام؟
ولكن لمصلحة من إستدعاء التاريخ القديم بكل ما فيه من مرارة، والتى طالت بدون شك كل بنى البشر؟ فالذاكرة أيضًا حافلة بالكنائس التى تحولت إلى جوامع مثل كنيسة "أجيا صوفيا" فى "تركيا" التى أُستخدمت كمسجد لمدى خمسة قرون قبل تحويلها أخيرا إلى متحف.
وهنا يجئ السؤال: هل بناء مسجد "قرطبة" فى "نيويورك" محاولة لتضميد الجراح، وتهدئة النفوس، وإعادة السلام بين الناس؟ أم دعوة إلى إعادة فتح الجرح الذى لم يندمل ليستمر نزيف الدماء من جديد؟
من المؤكد أن بناء هذا المسجد لا يخدم محاولات التوفيق بين أتباع الأديان المختلفة فى "أمريكا". ولو كنت مسلمًا لأعترضت على بناء هذا المسجد، ولأدركت أن بناء هذا المسجد فى هذا المكان بالذات وفى هذا الوقت بالذات، وتحت هذا الاسم بالذات، لا يخدم مصالح أحد بما فيهم مسلمى "أمريكا" أو مسلمى العالم، لأنه ببساطة عمل إستفزازى.
ومن الآن فصاعدا، لا تتعجب إذا جاء شيخ ملتح يمر على ركاب القطارات التى تجرى تحت الأرض فى مدينة "نيويورك"، ويطلب التبرع لبناء مسجد "قرطبة". وربما تتكرر دعابة الكوميدى الشهير"عبد المنعم مدبولى" فى برنامج ساعة لقلبك منذ نصف قرن، عندما كان يسخر من الذين كانوا يستغلون فى ذلك الوقت جمع التبرعات لبناء مسجد نفق "شبرا" كوسيلة للإرتزاق.
على نفس الغرار قد تلتقى فى نيويورك بمن يقول لك: تبرعوا لبناء مسجد "قرطبة"...بنينا الجامع وناقص المكتبة...بنينا الجامع وناقص "قرطبة"!! |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|