CET 00:00:00 - 08/06/2010

مساحة رأي

بقلم: لطيف شاكر
مساء الأحد قرأ كينج مقالاً في إحدى الصحف عن مشروع المقاطعة الوشيكة، نُسبت فيه إلى السود مجاراة "مجلس المواطنين البيض" في أساليبه. وكان "مجلس المواطنين البيض" هذا، جمعية تأسست للحفاظ على التفريق العنصري بعد أن صدر قرار من المحكمة العليا بتحريم هذا التفريق في المدارس. وكانت هذه الجمعية العنصرية تستخدم لبلوغ مآربها شتى وسائل الضغط على السود ومن ساندهم من البيض، كالإرهاب والمقاطعة الاقتصادية، ولم تكن تتورع من اغتيال ضحاياها إذا تسنى لها ذلك. لذا فالمقارنة التي أقامتها الصحيفة المذكورة بين مشروع السود وأساليب تلك الجمعية العنصرية، حملت كينغ على التفكير في شرعية الوسيلة التي كان السود مزمعين على استعمالها.

تساءَل إذا كانت مقاطعة الباصات من قِبَل السود شبيهة بتلك المقاطعة الاقتصادية التي كان يستخدمها "مجلس المواطنين البيض" للضغط على السود ومعهم على البيض الحسني النية بحرمانهم من ضروريات الحياة وتجويعهم. فاتضح له أن هناك اختلافاً كبيراً بين الأسلوبين. فالعنصريون البيض كانوا يقصدون، من وراء مقاطعتهم، تخليد عهد الجور والعبودية وإبادة كل من تسوّل له نفسه التمرد عليهما. أما مقاطعة السود للباصات فكانت غايتها إحقاق العدل والحرية، ولم يكن يُستهدف منها دفع شركة الباصات إلى الإفلاس، إنما حملها على احترام العدالة.

تابع كينج سياق تفكيره، فتبيّن له أن مقاطعة الباصات إنما كانت فقط تعبيراً عن رفض أكثر جذرية، ألا وهو رفض التعاون مع نظام فاسد كانت شركة الباصات مجرّد مظهر له. يقول كينج: "سمعتُ في أعماق نفسي صوتاً يقول لي: "من يتقبّل الشرّ سلبياً مسؤول عنه بقدر من يرتكبه، من يرى الشرّ ولا يحتجّ عليه، هذا يساعد على صنع الشرّ"."

ويتابع قائلاً: "إن الذين يتحمّلون الجور صامتين يقدمون للظالم تبريراً رخيصاً. فكثيراً ما لا يعي الظالم الشر الذي يسبّبه طالما يتحمّله المظلوم صامتاً. لذا فلا بد للمظلوم، إذا شاء أن يطيع ضميره ويكون أميناً لله، أن يرفض كل تواطؤ مع نظام فاسد. تلك كانت، بالنسبة إليّ، طبيعة عملنا"  لذا لم يعد يستعمل في ما بعد كلمة "مقاطعة"، لأنه أدرك أن حركة السود إنما كانت تتخطى في مرماها مجرد مقاطعة شركة نقليات، لتعبّر عن رفض شامل للتعاون مع نظام جائر.
تحدث كينج مع زوجته في تلك الأمسية عن حظ المشروع بالنجاح، فاعتقدا أنه سيكون ناجحاً إذا استطاع أن ينال مساهمة ستين بالمائة من السود. ورقد تلك الليلة يتنازعه الأمل والقلق.

  انطلاق المقاطعة ومواصلتها حتى انتصار العدل والكرامة
أ– اليوم الأول وقرار المواصلة
(في اليوم الأول من المقاطعة فوجئ القادة بتجاوب السود العارم معها وتملكهم الذهول أمام مشهد الباصات التي كانت تمرّ أمامهم فارغة في فترة الإقبال الشديد. يقول مارتن لوثر كينغ معبّراً عن انطباعاته صباح ذلك النهار: "جُننت من الفرح. فبدل نسبة 60% من المشاركة كنا نرجوها، أصبح من البديهي أننا بلغنا عملياً نسبة 100%. لقد حدثت المعجزة! الجماعة السوداء، التي كانت نائمة وبليدة حتى ذلك الحين، ها أنها استيقظت كلياً".

في ذلك اليوم بالذات، تشكّلت هيئة لقيادة التحرّك، اتُفِقَ على تسميتها: "الهيئة العاملة لأجل تقدّم مونتغومري" (MIA) وانتخب مارتن لوثر كينغ رئيساً لها.

وفي المساء عُقدت الجمعية العمومية التي كان السود قد دُعوا إليها. وإذا بالكنسية التي اختيرت مكاناً للاجتماع مكتظة بالناس، وبقي من ثلاثة إلى أربعة آلاف منهم محتشدين خارجها لضيق المكان. بعد الصلاة والترنيم وقراءة الكتاب، خطب كينج في الجمع وكانت تقاطعه المرة تلو الأخرى عاصفة من التصفيق. ذكّر بمنطلقات النضال وأوضح طبيعته المقدامة والمنضبطة بآن. وألحّ على ضرورة أن لا يُرغم أحد على المشاركة في المقاطعة بل أن يُترك ذلك لضميره. وأكّد على الروح الإنجيلية التي ينبغي أن تلهم النضال وأن ترفّعه عن المرارة والحقد، مستشهداً بعبارة لأحد كبار مفكّري السود: "لا تدع أحداً ينحدر بك إلى حدّ حملك على إبغاضه".

بعد ذلك وافق الجمهور بالإجماع على متابعة المقاطعة إلى أن تتحقق الشروط التالية: 
  1) أن تُضمن المعاملة اللائقة للركّاب السود من قِبَل السائقين
 2) أن يتاح لكافة الركّاب الجلوس في الحافلة حسب ترتيب وصولهم إليها وليس حسب اللون . 
 3) أن يعيّن سائقون سود في الخطوط التي ترتادها أكثرية من السود .

ب– جهد السود المضني وتدابير دعمه
(تواصلت المقاطعة بناء على هذا القرار الإجماعي. وبلغت المشاركة فيها في اليومين والنصف الأولين نسبة 99% وخاض السود عبرها، بتصميم منقطع النظير، نضالاً امتدّ على 381 يوماً، دون أن يفرغ صبرهم).

وكان لابدّ لهم من تنظيم أمورهم لكي يتسنى لهم أن يصمدوا كل تلك الفترة الطويلة. (خاصة وأن شركات التاكسي السوداء التي قدمت للتحرك في أيامه الأولى دعماً لا يستهان به من جراء قبولها بتخفيض أجورها، اضطرت إلى التراجع بعد أن تلقت إنذارًا من الشرطة بملاحقتها قانونياً إذا لم تتقيد بالتعرفة المقرّرة رسمياً).

كان العديد من السود يقطعون يومياً المسافة بين منزلهم ومكان عملهم ذهاباً وإياباً، مشياً على الأقدام، رغم البرد أو الحرّ، رغم الشمس أو الريح أو المطر، مما كان يفرض على بعضهم أن يسيروا على أقدامهم 18 كيلومتراً في اليوم الواحد. ولكن ذلك لم يكن كافياً وحده لحلّ المشكلة. من هنا أن الجماعة نظمت مصلحة للنقليات المجانية تسمح بالاستغناء عن الباصات. فتطوع مالكو حوالي 300 سيارة بوضعها تحت تصرّف إخوانهم بشكل جزئي أو كامل. وتقدم لقيادة هذه السيارات متطوعون من القسوس والمدرّسين ورجال الأعمال والعمّال وربّات المنازل. حتى أن بعض البيض تطوّعوا أيضاً لهذه المهمة. ونُظّمت عمليات التقاط الركّاب ذهاباً وإياباً تنظيماً دقيقاً رائعاً.

وكان المشروع محتاجاً إلى تمويل، فانهالت التبرعات من كل أنحاء البلاد ومن الخارج، إذ أن وسائل الإعلام كانت قد نشرت في كل المعمور خبر النضال اللاعنفي الذي يخوضه السود في مونتغومري. وقد وردت مساعدات من الكنائس والجمعيات والنقابات ومن العديد من الأفراد، من البيض والسود، من الأميركيين والأجانب. وكثيراً ما كانت ترافقها رسائل تعاطف وتشجيع.

ج– مقاومة المتضررين من المقاطعة
بالمقابل تضافرت جهود جميع المتضررين من ذلك النضال الشريف، فتعاونت السلطات المحلّية مع الشركة ومع العنصريين البيض لإجهاضه بشتى الوسائل. فكانت الشرطة تعتمد مختلف التدابير لمضايقة السائقين المتطوعين. كذلك حرّكت السلطات المحاكم لإدانة التحرك ومعاقبة المسؤولين عنه، ومنهم مارتن لوثر كينغ الذي حوكم وأدين كما أنه تعرض لسلسلة من التهديدات الخطيّة والهاتفية وشعر بأن حياته أصبحت بخطر. وفُجّرت قنبلة في مدخل منـزله كان بإمكانها أن تودي بحياة زوجته. ومن جهة أخرى سعت السلطات إلى تفريق السود بغية إفشال كفاحهم.
 
د– صمود المقهورين وقائدهم
ولكن هذه المحاولات كلّها، على تنوعها وضراوتها، باءت بالفشل أمام إيمان مارتن لوثر كينج بالله وبعدالة قضيته، وأمام التفاف شعبه حوله وصموده في وجه المضايقات. لقد وعى هذا الشعب معنى النضال الذي كان يخوضه، لذا التزمه بتصميم. حتى أن الكثيرين من السود فضّلوا السير على الأقدام في حين أن سيارة كانت تحت تصرفهم. فالسير على الأقدام كان له في نظرهم قيمة رمزية، كان يعبّر عن مساهمتهم الشخصية المكلفة في عملية تحريرهم. ففي أحد الأيام، توقف أحد السائقين المتطوعين قرب سيدة مسنّة كانت تمشي بتعب ظاهر، وقال لها: "اصعدي إلى السيارة، يا جدة، لا تكلفي نفسك عناء السيرّ"، فأومأت إليه بأن يتابع طريقه وقالت: "أنا لا أمشي من أجل المتعة، أنا أمشي من أجل أولادي وأحفادي". وتابعت الطريق إلى بيتها مشياً على الأقدام.

هـ – تحررهم من الخوف والعنف
ولم يتراجع المقهورون عن كفاحهم تحت ضغط التهديد والوعيد، فقد تحرروا بنضالهم من الخوف، وقد بلغ هذا التحرّر حدّ أنه، عندما قررت السلطات أن تعتقل مائة من المسؤولين عن التحرّك، عمد بعض هؤلاء تلقائياً إلى تسليم أنفسهم، في حين أن بعض السود قصدوا مراكز الشرطة للغاية نفسها ولما لم يجدوا أسماءَهم على لوائح المعَدّين للاعتقال عبّروا عن خيبتهم. كذلك عرف السود أن يصمدوا أمام تجربة العنف التي راودتهم تكراراً حيال تحديات البيض لهم. فقد تجمعت جماهيرهم أمام منزل مارتن لوثر كينغ بعد الاعتداء بالقنبلة عليه، وكان بعضهم مسلحين ومستعدين لاستعمال أسلحتهم حتى أن ممثلي السلطة خافوا العواقب ولكن كينغ خاطب الجمع وذكّرهم بالروح الإنجيلية التي يستلهمها نضالهم واستطاع أن يحوّلهم عن الأنقياد إلى العنف الذي استُدرجوا إليه.

و– تصعيد النضال حتى انتصار الحق
وفي الوقت الذي كان فيه السود ينفذون مقاطعتهم للباصات، كانوا يتفاوضون مع الشرطة على أساس مطالب ثلاثة في غاية الاعتدال (سبق أن رأيناهم ينطلقون منها) ألا وهي ضمان احترام السود في المعاملة، تعيين سائقين سود في الخطوط التي ترتادها أغلبية منهم، تلطيف التمييز العنصري في توزيع المقاعد دون إلغائه. ولكن المفاوضات فشلت بسبب التعنّت العنصري الذي أبدته الشركة. فاستمرت المقاطعة ودفعت بالشركة إلى شفير الإفلاس. ومن جهة أخرى، ففي مواجهة تعنّت الخصوم وما جوبهت به المقاطعة من محاولات شرسة لإجهاضها، صعّد قادة النضال مطالبهم، فرفعوا دعوى أمام محكمة فدرالية طالبوا فيها (هذه المرة) بإلغاء التمييز العنصري في الباصات على أنه مخالف للدستور. وقد ربحوا الدعوى في 4 حزيران 1956. ولكن سلطات مونتغومري استأنفت القضية أمام المحكمة العليا للولايات المتحدة. فأيّدت هذه، في 13 تشرين الثاني 1956، الحكم الصادر عن المحكمة الفدرالية، وتبلّغت السلطات في مونتغومري نص هذا الحكم في 20 كانون الأول من تلك السنة، فاضطرت إلى الرضوخ والى إلغاء التمييز العنصري في الباصات. وقد نُفذ فعلاً هذا الإلغاء وأصبح ساري المفعول، رغم كل محاولات المتطرفين البيض لنسفه بأعمال العنف التي اقترفوها والتي واجهها السود بضبط النفس بفضل تدريب صارم ومحكم تلقوه بهذا الشأن.

ولنا لقاء آخر...   ثمن الحرية

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ٤ تعليق