CET 00:00:00 - 10/06/2010

مقالات مختارة

  بقلم   د. عمرو الشوبكى   
قضت المحكمة الإدارية العليا بمجلس الدولة، فى جلستها التى عقدت يوم السبت الماضى، بتأييد الحكم الذى أصدرته محكمة القضاء الإدارى بدرجتها الأولى بإسقاط الجنسية المصرية عن المصريين المتزوجين بإسرائيليات، كما قضت بضرورة عرض كل حالة على حدة على مجلس الوزراء من أجل الفصل فيها، وأصبحت أمام وزارتى الخارجية والداخلية اللتين رفضتا القرار بشجاعة مهمة صعبة، خاصة بعد أن دخلتا فى مواجهة السلطة القضائية التى اعتدنا منها أن تكون حامية للحريات والحقوق المدنية، إلى أن وضع مجلس الدولة نفسه باعتباره حامى «الأمن القومى المصرى» كبديل عن الأجهزة الأمنية والسيادية المنوط بها القيام بهذه المهمة، فى حين أن وظيفته حراسة العدالة وليس الأمن القومى.

والحقيقة أن مشكلة قرار إسقاط الجنسية المصرية عن حوالى ٥ آلاف مواطن مصرى، اضطر بعضهم تحت ظروف كثيرة للزواج من إسرائيليات (معظمهن من عرب ٤٨)، تعكس طريقة فى التفكير أضرت ضررا بالغا بالمجتمع المصرى وبأداء نخبته، وأدخلته فى كثير من المعارك الفاشلة والصغيرة، فى حين عجز عن الدخول فى معركة واحدة لصالح تقدمه وتطوره. إن إسقاط الجنسية عن مواطنين مصريين «أصلاء» لم يحدث بحق مصريين تجسسوا لحساب العدو الإسرائيلى أثناء حروبنا معه، فكانت كفاءة أجهزة المخابرات فى ذلك الوقت هى التى قادت هؤلاء لحبل المشنقة وليس حديث مجلس الدولة عن الأمن القومى. وربما يحتاج المرء إلى العودة لتجارب النازية والفاشية، وأعتى النظم الديكتاتورية حتى يمكنه أن يجد فيها حالات أُسقطت فيها الجنسية عن مواطنى هذه البلدان كما جرى فى مصر.

والمدهش أن موضوع الصراع مع إسرائيل كان نموذجاً صارخاًً لهذا الفشل الحكومى والشعبى فى التعامل مع آخر دولة احتلال عنصرى فى التاريخ، وهو الفشل الذى جعل أقصى نضالاتنا تقف عند شتمها أو شتم القلة المطبّعة، أو سحب الجنسية من بعض المواطنين المصريين، فى حين فشلنا فى مواجهة الفقر والجهل والتخلف، ويكفى أن نشاهد تعليقات بسطاء المصريين فى فضائية ما أو على المواقع الإلكترونية لنكتشف حجم الركاكة الشديدة فى اللغة العربية والتسطيح الذى أصاب وعيهم وعزلتهم غير المسبوقة عما يجرى حولهم فى العالم (مقارنة حتى ببلدان عربية وإسلامية أخرى)، والتطرف الشديد فى مواقفهم حين يكون الأمر متعلقاً بقضية لا تكلفهم شيئاً كشتم إسرائيل أو إسقاط جنسية مواطنين مصريين، ونتراجع بصورة مخزية حين تكون التكلفة بسيطة لا تتعدى الدعم الإنسانى أو الكلمة الطيبة لمواطن فلسطينى، جاء طارقاً أبوابهم نتيجة الإرهاب الإسرائيلى، أو آخر مصرى كان ضحية التبلد أو القهر الحكومى.

إن التحدى الحقيقى- كما سبق أن ذكر الدكتور أحمد كمال أبوالمجد- كان فى أن تدخل مصر منذ اتفاقية كامب ديفيد فى تحدٍ مع الدولة العبرية يعتبر أن كل سلعة تُصنع فى إسرائيل يجب أن يُصنع أفضل منها فى مصر، وكل خدمة تُقدم هناك يجب أن تُقدم أفضل منها عندنا، وهذا ما فشلنا فيه بامتياز، وصرنا أكثر الشعوب العربية «حنجرة» ضد إسرائيل، وأفشلها حين يتعلق الأمر بكلفة أو بثمن ولو محدوداً علينا أن ندفعه من أجل التقدم الداخلى أو مواجهة إسرائيل فى أى ساحة غير ساحة الشعارات.

ويبدو أن كثيراً منا نسى أو تناسى فى غمرة فرح البعض بقرار إسقاط الجنسية عن بعض المصريين، أن هؤلاء ذهبوا إلى العيش فى بلد كان يعتبر عدواً بدلاً من وطنهم، والكارثة المؤلمة والحزينة أن إسرائيل المحتلة والعنصرية لم تعتبرهم أعداء يهددون أمنها القومى، على عكسنا نحن. وهل هناك فشل أكثر من ذلك حين تعجز مصر بكل تاريخها وتنوعها الحضارى والثقافى، وعدد سكانها الذى قارب ٨٠ مليوناً عن أن تدمج ٥ آلاف مواطن مصرى وعربى فى نسيجها الاجتماعى والحضارى، وتجعل هؤلاء العرب الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية «لوبى مصرى وعربى» فى خاصرة إسرائيل، ويكونوا فى النهاية محسوبين على مصر وليس إسرائيل، خاصة أن موقف كثير منهم من الاحتلال الإسرائيلى معروف، وقدموا شهداء وليس شعارات فى مواجهته.

إن القضاء على قوة مصر الناعمة فى الثلاثين عاما الأخيرة جعلنا نرى كل شىء من منظور أمنى ضيق، وننسى أن «النموذج المصرى» كان براقا للكثيرين، ونجح فى دمج آلاف الجنسيات والأعراق فى داخل نسيجه الوطنى، وصار أمرا مؤلما أن تطرد مصر مواطنيها وتجردهم من جنسيتها دون أن يسأل أحد نفسه عن أسباب عدم استيعابهم داخل وطنهم، وكيف أن آخر دولة احتلال فى العالم يعيش على أرضها مليون ونصف عربى من أصل ٦ ملايين، فى حين فشلنا نحن فى استيعاب ٥ آلاف مواطن مصرى على أرضنا، ولم نكتف بذلك إنما قمنا بإسقاط الجنسية عنهم.

المدهش أن القيادة السياسية فى مصر تركت هذه القضية كما فعلت مع كثير من القضايا دون أى تدخل، وتحول الشكل الليبرالى للجنة السياسات إلى مجرد مظهر خارجى للوجاهة لا يعكس أى مضمون دفاعا عن مبدأ أو قيمة، ولأن الدفاع عن هؤلاء المواطنين وعن حقهم فى الاحتفاظ بجنسيتهم يحتاج لكلام مباشر وربما ثمن، وهو ما لم يحدث، لأن الحكومة عودتنا على ترك القضايا المتعلقة بالمجتمع لقدر الناس يتصارعون ويتعاركون حولها دون أى بوصلة أو قواعد سياسية وقانونية، وتركت كل «مملوك» زعيماً كبيراً فى مملكته يفعل ما يريد طالما ظل بعيدا عن الخطوط السياسية الحمراء.

إن هذا الحكم كشف عورات خطيرة فى طريقة تفكير المجتمع المصرى، وعكس أزمة حقيقية فى أداء السلطة القضائية ومجلس الدولة، ويمثل امتداداً لقرارات أخرى ذهبت فى الاتجاه الخاطئ، فحين يعتبر المستشار محمد الحسينى، رئيس مجلس الدولة، أن نشر الزميلين مجدى الجلاد وخالد صلاح خبرا عن محاسبة أحد القضاة الفاسدين إساءة للقضاة، وكأن هناك مؤسسة فى العالم كل من فيها من الملائكة نصبح أمام طريقة خاصة فى التفكير لأن النشر كما ذكر صديقنا الجلاد فى صالح القضاء الذى يطهر من نفسه على عكس كثير من المؤسسات الأخرى.

وحين يصدر مجلس الدولة حكماً بعدم تعيين السيدات قاضيات ويقرر إسقاط الجنسية عن المصريين، معتبرا أنه بذلك دافع عن الأمن القومى المصرى، وحين يتقدم ببلاغ ضد زميلين نشرا خبرا حقيقيا، نصبح أمام مشكلة أعمق بكثير من حكم هنا أو قرار هناك، لتصل إلى أداء السلطة القضائية المهنى والقانونى، والمفاهيم السائدة حول عدم التعليق على أحكام القضاة أو نشر أخبار تتعلق بالسلطة القضائية وهى كلها اختراعات مصرية غير موجودة فى أى مكان آخر فى العالم، وستعمق الفجوة بين القضاة والمجتمع، خاصة بعد تدهور العلاقة بين كثير من القضاة والمحامين وغيرهما من فئات المجتمع.

من المهم أن يعرف مجلس الدولة أن القضاء من الجهات القليلة فى مصر التى اختار الناس احترامها طواعية دون حاجة لاستخدام أدوات القهر المعتادة فى مصر، وحين سيفقد القضاء هيبته ويضطر إلى استخدام بلاغات النيابة لمواجهة كل من يعلق على حادثة هنا أو حكم هناك نصبح أمام كارثة حقيقية نتمنى ألا نصل إليها.

amr.elshobaki@gmail.com

نقلا عن المصرى اليوم

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

جديد الموقع