سيواجه الأجانب الذين يرتكبون جرائم خطيرة في سويسرا قبضة حديدية في المستقبل القريب، حيث سيُـدعى الناخبون إلى الإدلاء بأصواتهم، للحسم بين "مبادرة الطرد"، التي اقترحها اليمين المتشدد ومشروع مُـضاد تقدم به البرلمان يضبط مقاييس الإبعاد ويشترط احترام الدستور والقانون الدولي.
ففي صبيحة الخميس 10 يونيو 2010، قررت أغلبية النواب في البرلمان الفدرالي، تمكين الناخبين من بديل عن المبادرة الشعبية، التي تحمل عنوان "من أجل طرد الأجانب الذين يرتكبون جرائم" (يُـرمز إليها اختصارا بمبادرة الطرد)، وجاء ذلك بعد نقاشات طويلة ومضنية. كما أوصت غرفتا البرلمان الفدرالي، الشعب برفض المبادرة والموافقة على المشروع المضاد.
حزب الشعب السويسري (يمين شعبوي)، كان الطرف السياسي الوحيد الذي دافع عن المبادرة، التي أطلقها بنفسه بمناسبة العيد الوطني في 1غرة أغسطس 2007، وجعل منها محرِّكا لآلته الدعائية الضخمة في الحملة التي سبِـقت الإنتخابات العامة في شهر أكتوبر الموالي.
منذ البداية، أثارت المبادرة الكثير من الجدل بين المؤيدين والمعارضين، ولم يقتصر الأمر على مضامينها فحسب، إذ أن عملية تجميع التوقيعات الضرورية، اقترنت بترويج مُـلصق إشهاري يُـصوِّر خروفا أسود يُـطرد بالأقدام من طرف خروف أبيض من التراب السويسري، وهو ما أدى إلى إطلاق موجة من السجالات العنيفة داخل البلاد وأثار انتقادات دولية.
جاء في نص المبادرة أنه يُـطرد من سويسرا أي شخص أجنبي أدين بارتكاب جرائم خطيرة أو تحصّـل بشكل غير مشروع على علاوات من التأمينات أو المساعدات الاجتماعية. والمُـلفِـت، أن المبادرة أودِعت لدى المستشارية الفدرالية في فبراير 2009 (أي قبل حوالي عام كامل من الموعد القانوني لاستكمال جمع التوقيعات) مصحوبة بأكثر من 210000 توقيع، أي أكثر من ضعف العدد المطلوب (100000).
هذا النجاح الكبير، أثّـر لاحقا على نوعية القرار الذي اتخذته الأغلبية في البرلمان، حيث صوتت لفائدة عدم بطلانها، على عكس مما كانت تُـطالب به تيارات اليسار والخُـضر. في المقابل، اعتبرت الحكومة وغرفتا البرلمان أن النص لا ينتهك القانون الدولي المُـلزم وأن المبادرة مقبولة، تَـبعا لذلك. مع ذلك، اعترفت الأطراف نفسها بأن المبادرة تتعارض مع بعض بنود القانون الدولي غير الملزم وعدد من فصول الدستور الفدرالي أيضا.
ماذا يُقصد بمصطلح:المبادرة الشعبية
احترام الإرادة الشعبية
رغم معارضتهم للمبادرة التي أطلقها حزب الشعب، قال العديد من البرلمانيين المنتمين إلى وسط اليسار، إنه لا يُـمكن تجاهل نصٍّ حصل على تأييد أكثر من 200000 ناخب، بمثل هذه البساطة. وقال أورس شفالير، عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي المسيحي: "لو اتُّـخذ قرار بإبطال المبادرة، فإن الشعب لن يتفهّـمه".
هذا الموقف أثار غضب الاشتراكيين والخُـضر، الذين اعتبروا أن البرلمان لا يحسن التصرّف بشجاعة، بل إن النائبة الاشتراكية آدا مارّا حثّـت زملاءها في مجلس النواب على "ردّ الفعل بوجه الإرهاب الديمقراطي" لحزب الشعب.
رغم ذلك، ارتفعت بعض الأصوات من وسط اليمين، لتنتقد الحُـكم بصحّـة نص المبادرة، وتساءل ديك مارتي، عضو مجلس الشيوخ عن الحزب الليبرالي الراديكالي، "هل يعني احترام حقوق الشعب، إيهامه اليوم بأن هذه المبادرة قابلة للتطبيق، ثم القول له غدا بأن ذلك غير ممكن، أم مكاشفته بالحقيقة الآن؟"، مشيرا إلى وجوب انتهاج الشفافية، ومعتبرا أن الأمر يتعلق "بمغالطة تجاه المواطنين".
التصويت على المآذن.. في الخلفية
إضافة إلى ذلك، ذكّـر عضو مجلس الشيوخ عن كانتون تيتشينو، بالصعوبات التي تعترض تطبيق مبادرتين سبق أن تمّـت الموافقة عليها في تصويت شعبي. الأولى، تعود إلى عام 2004 وتتعلق بـ "السجن مدى الحياة لمرتكبي الجرائم الجنسية أو المجرمين العنيفين والخطرين جدا والمستعصين على العلاج". أما الثانية، فهي المبادرة التي تمت المصادقة عليها يوم 29 نوفمبر 2009، وتحظر بناء مآذن جديدة في سويسرا.
وعلى إثر هذا التصويت تحديدا، قرر مجلس الشيوخ إعادة ملف "مبادرة الطرد" إلى اللجنة البرلمانية المعنية، وطالبها بإعادة النظر في مدى صحة وشرعية النصّ المقترح وإعداد مشروع مُـضاد، كي يتمكّـن الناخبون من الإختيار بينهما.
ماذا يُقصد بمصطلح:*الاستفتاء
نعم للطّـرد.. ولكن حسب القواعد
تبعا لذلك، استقرّ الرأي على اعتماد المقترحات التي تقدمت بها الحكومة على المستوى التشريعي في النص الدستوري المقترح. وفي نهاية المطاف، تضمّـن المشروع البرلماني المضاد لمبادرة حزب الشعب قائمة تتسم بالمزيد من الدقة وتُـعدد أصناف الجرائم التي يترتّـب على ارتكابها قرار الطرد.
من جهة أخرى، أدرج النص الجديد مبدأ التناسُـب. وعلى خلاف ما جاء في المبادرة، فإن قرار الطرد لا يتسم بالآلية، بل يرتبط بنوعية العقاب، كما حرص المشرعون على تضمين مقترحهم إشارة إلى المبادئ القانونية المرجعية، حيث جاء فيه أن "عمليات الطرد تتم في إطار احترام الدستور والقانون الدولي".
خيار عسير بين البراغماتية والمثالية
من خلال هذه الخطوة، ترمي الأغلبية البرلمانية إلى إقناع الناخبين برفض مبادرة حزب الشعب، وهي إستراتيجية رضخت لها – مضطرّة ومرغمة - أغلبية النواب الإشتراكيين، مثل ماريا روت-برناسكوني (من جنيف)، التي قالت إنها مقتنِـعة بأنه لو تمّ عرض المبادرة لوحدها على الشعب، لتَـمّ قبولها، لذلك، "يجب اختيار أدنى الشرّيْـن"، رغم أن الأمر لا يزيد عن "اختيار بين الوباء والكوليرا"، على حد تعبيرها.
وفي سعيهم لتأمين أصوات النواب الإشتراكيين، أقدم الليبراليون الراديكاليون والديمقراطيون المسيحيون والخُـضر الليبراليون والبورجوازيون الديمقراطيون على تنازل، قبلوا بموجبه إضافة فصل دستوري جديد مخصَّـص للإندماج، يهدف الاشتراكيون من خلاله إلى تعزيز الإجراءات الوقائية لتجنّـب لجوء الأجانب إلى ارتكاب جرائم أو مخالفات خطيرة.
هذا الفصل قُـوبل بالإنتقاد من طرف الخُـضر، حيث وصف النائب أنطونيو هودجيرس (من جنيف)، عملية الربط بين إجراءات الطرد وسياسة الاندماج، بـ "المثيرة للشكوك"، وأضاف أن هذا "يدفع إلى الإعتقاد بأن الأجنبي غير المندمج، سيكون مُجرما بالضرورة".
حزب الشعب: المشروع المضاد غير ناجع!
مثلما كان متوقعا، لا تُـلبّـي المقترحات المضادة، التي تقدمت بها الأغلبية البرلمانية، الحد الأدنى من مطالب حزب الشعب السويسري. وفي تصريحات متكررة، اعتبر نوابه أن القانون الحالي وطريقة تطبيقه بالخصوص، يتّـسمان بقدر مبالغ فيه من التساهل، وهو ما يؤدي إلى خلوِّها من أي تأثير رادع.
وفي معرض التأييد لرؤيتهم، التي تعتبر أن الإجرام الأجنبي يُـمثل مشكلة للبلد برمّـته، أورد نواب حزب الشعب الإحصائيات المتعلِّـقة بالجرائم المُـرتكبة في سويسرا، التي تُـشير إلى ارتفاع عدد الأجانب فيها، مقارنة بنسبتهم في إجمالي عدد السكان. من جهة أخرى، اعتبروا أن المشروع المضاد لا يصلُـح لشيء.
النائب فالتر فوبمان من حزب الشعب عن كانتون تورغاو، قال "لو تمت الموافقة على المبادرة، فإن العدد الحالي لعمليات الطرد (حوالي 300 إلى 400 في السنة)، سيتضاعف خمس مرات، في حين أن العدد لن يشهد أي تغيير إذا ما اعتُـمد المشروع المضاد"، لكن هذه الأرقام رفِِـضت من طرف مؤيدي المشروع المضاد، الذين أكّـدوا أن عدد المجرمين الأجانب المطرودين سيتضاعف.
وبغض النظر عن الحسابات النظرية، هناك أمر أكيد، يتمثل في أن المقترحيْن المعروضيْن على تصويت الناخبين، سيؤديان إلى تشديد جديد في القوانين المتعلقة بالأجانب في سويسرا. وبما أن المسألة تتعلق بتحوير في نص الدستور الفدرالي، يحتاج الأمر إلى موافقة مزدوجة من طرف أغلبية الناخبين على المستوى الوطني ومن جانب أغلبية الكانتونات (عددها 26).
يشار أيضا إلى أنه سيتم طرح سؤال إضافي على الناخبين بالصيغة التالية: أي النصّـين ستقبَـل به، في صورة ما إذا ما حصل كلاهما على الموافقة؟
وفي انتظار الحسم، يتوقّـع المراقبون أن تعيش سويسرا في الأثناء أجواء حملة انتخابية حامية الوطيس. |